الحرارة والضوء ضرباه معًا لحظة فتح باب السيارة، كأن أحدهم دفع في وجهه صفحة بيضاء بلا هوامش. للحظة قصيرة لا يرى إلا سماءً باهتة حد العمى، وحجارة برونزية تشع حرارة اليوم، وغبارًا ناعمًا يصرّ بين أضراسه. يغمض عينيه نصف إغماضة، يتنفس ببطء، فيدخل رائحة الصاج الساخن والوقود القديم ممزوجة بشيء آخر أهدأ: رائحة تراب استقرت عليه الشمس طويلًا حتّى هدأ.
ينزل من السيارة بحذر، كأن الأرض قد تغيّرت خيانتها المعتادة للجاذبية. ساقاه واهنتان بعد ساعات من الطريق السريع، ثم ذلك المقطع الأخير من المسار المموّج على الرمل المضغوط، حيث اهتزّت السيارة بما يكفي لإعادة ترتيب فقرات ظهره وأفكاره معًا. يمد يده إلى سقف السيارة للحظة قصيرة، يلمس المعدن الحار بطرف أصابعه كأنما يستوثق من صلابته، ثم يتركه بسرعة.
يشدّ على حزام حقيبته الجلدية المقطوعة الحافة، تلك التي صاحبت كل مؤتمراته ورحلاته الميدانية، ثم يربّت على صدره فوق الجيب حيث يستقر دفتر الملاحظات. بعدها فقط يمرّر كفّيه على قماش قميصه الكتاني بلون الرمل، يمسح تجاعيد الطريق عن أكمامه المطويّة، كما لو أن بإمكانه أن يساوي بتلك الحركة السريعة كل ما يشعر به من تعب، أو أن يزيل آثار المسافة التي قطعها عن نفسه كما تُزال الغبار عن كتاب قديم.
يستقيم واقفًا في موضعه لحظة، ظهره مشدود، كتفاه إلى الخلف، عيناه تتعوّدان ببطء على الضوء الفائض. أمامه تتشكّل تدريجيًا تفاصيل المكان من بياض الوهج: قوس حجري منخفض تَحته ظل بارد على غير المتوقع، جدار من طين وجصّ يحمل ندوب الزمن وأثر ترميم حديث، خط من النخيل يلوّح بأطراف سعفه في نسمة تكاد لا تُرى.
في داخله، تتحرّك حركة أضعف من أن يسمّيها شعورًا؛ شيء بين الارتياح المتحفّظ والرفض المهذّب. هذا، يذكّر نفسه، ليس إلا «موقع عمل ميداني» آخر. بضعة أسابيع من العزلة المنتِجة، لا أكثر. يعضّ على حافة فكرة أخرى تحاول أن تطلّ برأسها: أن هذا الصمت الواسع قد يطلب منه شيئًا غير الحواشي والمراجع. فيضغط شفتيه، يعيد ترتيب حقيبته على كتفه، ويخطو إلى الأمام وكأنه داخل في هامش طويل أُعدّ مسبقًا لحاشيته القادمة.
الرجل الواقف تحت القوس الحجري أصغر سنًّا ممّا توقّع، بطاقة تعريف بلاستيكية تتأرجح على صدره مع كل حركة، لا أثر لهيبة «المنسّقة» الهادئة التي تحدّثت عنها رسالة المؤسّسة. قال بلغة فصحى مصقولة، وبابتسامة متحمّسة أكثر مما يقتضي المقام:
«دكتور رفاح؟ أهلًا وسهلًا، نوّرت القصر.»
لم يمهله وقتًا ليصحّح نطقه للاسم أو ليردّ التحية كاملة، فقد كان قد مدّ يده أصلًا نحو مقبض الحقيبة، يشدّه بثقة شابّ تعلّم أن الكرم يبدأ بحمل أمتعة الضيف. تردّد رفاح لحظة، ثم تركه يأخذها، كأن التنازل عن الوزن المادي يسهّل حمل ما بقي في رأسه من قلق ومخططات.
يشير الشاب بيده الحرة نحو الداخل، عابرًا به العتبة المنقوشة دون أي احتفال بروتوكولي، كأنّ وصول أستاذ جامعي من العاصمة حدث يتكرّر بما يكفي لأن يُختصر في حركة معصم سريعة. يحاول رفاح أن يلتقط اسمه من البطاقة المتدلّية ( «سالم شيء ما» ) لكن اللمعان المتكسّر على البلاستيك يطمس الحروف، فيكتفي بأن يسير خلفه، بخطوات متحفّظة، إلى داخل ظِلّ الممرّ الأول.
يمضيان بخطى سريعة تكاد تكون عسكرية تحت ممرّات مبرّدة بالهواء العابر، لا يتركان للعين وقتًا لتستقرّ. لمحة خاطفة لساحة داخلية: نخيل باسق يرمي ظلالًا متكسّرة على أرض الحجر، نافورة صغيرة تتمتم بصوت ماء محتشم، مقاعد حجرية مصطفّة في دائرة مدروسة حول لا شيء. قبل أن يلتقط تلك التفاصيل كجملة كاملة، يكون الشاب قد انحرف به جهة الجناح الإداري المنخفض، جدار مبيّض بالجصّ، نوافذه الضيّقة تشبه عيونًا نصف مغمضة.
«عادةً الضيوف يتجمّعون هنا بعد المغرب… السطح فوق للنجوم… عندنا استقبال للمانحين الأسبوع الجاي،» يكرر الموظّف بنبرة ملساء، كأن هذه الكلمات مسار محفوظ يضغط عليه زرّ فيدمج بين المساء والنجوم والمانحين في جملة واحدة. يهزّ رفاح رأسه في المواضع المتوقَّعة، فيما ذهنه يسجّل فقط كلمة «استقبال» بوصفها موعدًا يُضاف إلى جدول لا يحتمل الزيادات.
حين يفتح الموظّف باب المكتبة لحظة عابرة، إيماءة سريعة بيده نحو رفوف ممتدّة وطاولات قراءة واطئة، يلتقط بصر رفاح عناوين المجلّدات كما لو كانت عضلة مدرَّبة. يلمح طبعات نادرة طاردها عبر إعارات بينيّة في مسقط، مخطوطات قرأ نسخها الرقمية حتى الاهتراء؛ تومض الأسماء المألوفة وسط غشاوة الجولة، ثم تختفي مع نقرة إغلاق الباب الباردة، تاركة في صدره إحساسًا قصيرًا وغير مرغوب فيه بأن هذا المكان يعرفه أكثر مما ينبغي.
وهم يسرعون في الممرّات، ينساب صوت الموظّف في أذنه كجدول لوائح لا ينتهي: مواقيت الصلاة، أوقات إطفاء الألواح الشمسية، نافذة اتصال الإنترنت، مواعيد الوجبات، ومنع إدخال الطعام إلى المكتبة «حفاظًا على المخطوطات». يومئ رفاح في اللحظات المناسبة، أصابعه تشدّ على حزام حقيبته الجلدية، فيما ذهنه يقفز عائدًا إلى مخطّط الفصل عن المروءة والوفاء بالعهد؛ يعيد ترتيب العناوين الفرعية كحجارة سبحة، يختبر في صمت أين يمكن أن تنزلق حكايةٌ ثانوية من ابن قتيبة لتلتحم بسلاسة أكبر في جسد الحجّة، دون أن تبدو كاستطراد عاطفي يسيء لصرامة البناء التي تعلّق عليها ترقيته القادمة.
يتركه الموظّف عند العتبة بإيماءة مهذّبة، وصوت خطواته يتلاشى على البلاط ثم يذوب في همهمة الساحة الداخلية، وفجأةً يتكاثف الصمت داخل الغرفة كأنها كانت في حالة انتظار طويلة وغير معقولة. يبقى رفاح واقفًا نصف خطوة إلى الداخل، يده لا تزال على مقبض الباب المفتوح كأنه لا يثق تمامًا في هذا الانتقال من الخارج إلى الداخل.
الجدران مبيّضة بعناية لا تخفي التموجات القديمة تحت الطلاء؛ بياضٌ بلا لوحة ولا آية ولا بيت شعر معلّق يشتّت العين. نافذة ضيّقة وحيدة تستقبل شريطًا من الضوء المائل، تقطع الجدار المقابل بسخاء بخيل، وتمنحه مشهدًا مقتطعًا لكثيب رملي ينساب خارج الإطار، كجملةٍ مبتورة قبل حرف العطف. هواء الغرفة يحمل رائحة غبار دفين ممتزجة بطبقة خفيفة من عطر العود، تتشبّث بألياف الحصير المنسوج عند الباب وتنهض كلما تحرّكت قدم.
هذه بالضبط المواصفات التي كتبها بيده في استمارة الإقامة: «أقل قدر من المشتّتات، بيئة ملائمة للبحث المركّز». كان ذلك الطلب في حينه يبدو منطقيًا، تقريبًا بريئًا؛ قائمة تقنية لا أكثر. الآن، وهو يتأمّل تطابق الواقع مع ما طلبه سطرًا بسطر، يشعر بانزعاجٍ خفيف، كأن المكان لم يُجهَّز لضيفٍ عابر، بل لنسخة من رفاح كما يتمنّاها الآخرون: آلة عملٍ موضوعة في صندوق أبيض محكم.
يترك الباب مواربًا خليجًا صغيرًا، كأن إبقاءه مفتوحًا قليلًا يسمح لصوت النافورة البعيد بالوصول، فيؤكد أن العالم لم ينكمش تمامًا إلى هذه المساحة المربّعة. يخطو خطوة إضافية في الداخل، يمدّ أصابعه بحركته التلقائية ليتأكّد من ارتفاع السقف، وكأنه يختبر إن كان هذا الحيّز سيضيق على أنفاسه بعد أيام من الجلوس الطويل. هناك سرير منخفض بلحافٍ أبيض مطويّ بعناية أوروبية مفرطة، طاولة كتابة بسيطة بسطح خشبيّ خالٍ إلا من مصباح معدني رفيع، وسجادة رقيقة في الزاوية لا تخطئ اتجاه القبلة.
يضيق صدره بطرفة خوفٍ لا يعترف بها: خواء مدروس، صمت منظَّم، وباب يمكن أن يُغلَق من الداخل بسهولة تامّة. كل شيء هنا يقول له: «لا عذر لك هذه المرّة.»
يضع حقيبته الجلدية على حافة السرير المنخفض، كأنها قطعة معدّات ميدانية لا متاعًا شخصيًا، ثم ينحني فوقها ويبدأ التفريغ بحركة تعرف طريقها دون أن ينظر كثيرًا. الحاسوب أوّلًا، يخرجه بحذر غير عاطفي، يمدّ كابل الشحن إلى زاوية الطاولة كما لو كان يمد شريانًا إلى قلب التجربة كلّها. الدفتر ذو الغلاف الأسود في المنتصف، الأصغر فالأصغر إلى جواره، مكدَّسة بحسب الحجم لا بحسب الأهميّة؛ كأنّ النظام الشكلي وحده كافٍ لتأجيل سؤال: أيّ هذه الصفحات سيُفسد إذا اقترب منه شيء يشبه الحياة.
الأقلام تخرج متتابعة من الجيب الداخلي للحقيبة، ثلاثة على الأقل، تُصفّ في صفّ مستقيم بمحاذاة حافّة الطاولة، رؤوسها كلّها في اتجاه واحد، كفصيلة جنود بانتظار الأوامر. يخرج مجلّدًا بعد آخر من المراجع؛ مختارات شعرية بحوافّ مصفَرّة، دراسات نقدية بطباعة أكاديمية جافّة، مقالات مصوَّرة في ملفات كرتونية، يحمل كلّ منها دبّوسًا معدنيًا يحرسها من التبعثر. الرفّ الضيّق فوق الطاولة يمتلئ تدريجيًا بعمود صامت من العناوين، والسطح الخشبي يتحوّل إلى خريطة عمل دقيقة. الحركة ذاتها تصبح نوعًا من الوضوء المهني، إعلانًا عن أنّ هذه الغرفة وُقِفَت للفكرة لا للراحة، وأنّ جسده مجرّد ملحق ضروري للأوراق.
آخر ما يخرج، ملفوفًا بعناية في وشاح قطنيّ باهت لحماية تجليده الهشّ، هو طبعة أمّه العتيقة من «المعلّقات». تبطؤ يداه فجأة، كأنّ الزمن يثقل في أصابعه، وهو يفكّ عقدة الوشاح بمهلٍ غير معهود عنه. يمرّر أنامله على الكعب المتشقّق، يتتبّع بأطراف الأصابع كسور الجلد اليابس كما لو كان يمسح على ندبة قديمة في جسدٍ حيّ. أخضر الغلاف الذي كان يومًا لامعًا صار مائلًا إلى الرماديّ، لون شيء بقي في الضوء طويلًا ثم قَبِلَ بهدوء فكرة الأفول. لبرهةٍ لا يقيسها، يكتفي بأن يمسك الكتاب بين كفّيه، يشعر بثقله يستقرّ في راحتيه، أثقل بكثير ممّا تسمح به صفحاته الرقيقة، كأنّه لا يحمل قصائد فحسب، بل كلّ ليلةٍ أمضتها منحنيةً فوقه على طاولة المطبخ، بخار الشاي يتصاعد إلى نظّارتها، وعيناه الطفلتان تراقبانها من العتبة دون أن يفهم يومها لماذا يبدو الشعر أهمّ من النوم.
يفتح على القصيدة الأولى كمن زلّت أصابعه لا قصده، فإذا بخطّها هناك؛ حروف دقيقة ملتفّة حول الأبيات المطبوعة، سهام وتعجّبات عند استعارة أدهشتها، علامات استفهام عند حاشيةٍ لم تُقنعها. في الزاوية سطرٌ صغير نصفُه ممحوّ: «اسأل رفاح عن هذا عندما يكبر». تقفز العبارة إلى عينيه، مكتوبةً في زمنٍ لم يكن يحفظ فيه بيتًا واحدًا عن ظهر قلب. ينكمش شيء في صدره، حادًّا وسريعًا، كأنّ الأعوام الفاصلة بين تلك الحبر وهذه الغرفة انطوت فجأة، ووجد نفسه واقفًا في ممرّ المطبخ القديم، الصبيّ الصامت والرجل المنهك يتداخلان في جسدٍ واحد لا يعرف من منهما الذي تأخّر عن الوعد.
يأخذ شهيقًا عميقًا، ثم يطوي المجلّد برفقٍ محسوب، يضغط الغلاف من أعلاه كما لو أنّه يمرّر كفّه على تجعيدةٍ في الذاكرة، ويسحبه إلى أبعد زاوية من سطح الطاولة، خارج المدى الطبيعيّ ليده اليمنى. من هناك، يبقى حضوره محسوسًا أكثر منه منظورًا؛ ثقلًا راسيًا عند حافّة مجاله البصري، كنجمةٍ لا تراها إلّا إذا التفتّ عمدًا. يهمس لنفسه أنّه بذلك يحميه من فوضى الأوراق اليوميّة، لكنّه يعترف في موضعٍ أعمق لا يتكلّم أنّ تلك المسافة حدّ فاصل أيضًا: صوت أمّه سيظلّ خارج الدائرة المباشرة لمشروعه الراهن؛ قريبًا بما يكفي ليستدعيه إذا احتاج شاهدًا أو سطرًا من حنانٍ مستتر، وبعيدًا بما يكفي ألّا يتسلّل إلى إيقاع الانضباط الذي أقسم ألّا يساوم عليه مرّةً أخرى.
تسقط العتمة على الهضبة سقوطًا حادًّا، لا تدرّج فيه؛ يلتهم الجدار الصاعد من النيليّة آخر شريطٍ نحاسيّ من الشمس، كأنّ يدًا خفيّة أغلقت الغطاء على يومٍ مستعمل. ومع أوّل نَفَسٍ للليل، تنسحب الأصوات القليلة التي تعلّمها في الطريق: لا صريرَ مكابح، لا أبواق بعيدة، لا رنين إشعارات يتسلّل من هواتف الآخرين وراء الجدران. ما يبقى هو سكونٌ كامل يشبه شيئًا مفروضًا أكثر منه طبيعيًّا؛ غطاءً ثقيلاً أُلقيَ بعنايةٍ على جسد القصر، وزنُه يتوزّع بالتساوي على الحجر والرمل والصدور.
يجلس رفاح إلى المكتب الخشبيّ الصغير، مصباح الطاولة ينسكب في دائرةٍ ضيّقة من الضوء الأصفر، تستبعد أوّل خطوات الظلام ولا تهزمه. أوراقه مبسوطة أمامه في نظامٍ حازم، كأنّها مخطّط دفاعيّ لا مسودّات بحثٍ فحسب: النصوص الأصليّة مرتّبة إلى يساره، طبعاتٌ نقديّة مشطوبة الحواف إلى يمينه، وفي المنتصف عمود رفيع من أوراق بيضاء يتدلّى فيه خطّ عناوينه المبدئيّة مثل حبل نجاةٍ عموديّ. هذا الترتيب ليس مجرّد ذوق؛ إنّه تحصين. كلّ رزمةٍ مرصوصة تُلحّ على فكرةٍ واحدة: أن عقله لا يزال متماسكًا، مهما أوحت له الرحلة الطويلة وهذه العزلة الجديدة بأنّ خيط التركيز بدأ يبهت.
يُبعد قنينة الماء نصف سنتمتر عن حافّة الدفتر، يضبط ميلان القلم بجانب الدفتر الأصفر، يزيل مورقةً مثنيّة من تحت مجلّدٍ أثقل. حركات صغيرة، مكرّرة، اعتاد عليها في مكاتب الجامعة والمقاهي المزدحمة، لكنّ وقعها هنا مختلف؛ كلّ خشخشة ورقٍ تُسمع بوضوحٍ مبالغٍ فيه، كأنّ القاعة بكاملها تنصت له. يجرّب أن يصغي إلى شيءٍ آخر غير حفيف صفحاته، فلا يجد سوى خريرٍ واهنٍ من نافورة الساحة الداخليّة يتسرّب من النافذة المفتوحة قليلًا، وصوتٍ متخيَّل لخطواتٍ قديمة كانت تصعد هذا السلم يومًا وهي تحمل دواةً وريشة.
يثبّت نظره في زاوية المكتب، حيث يقف مجلّد «المعلّقات» متوارِيًا خارج الدائرة المباشرة للضوء، كتلةً خضراء باهتة على حافّة مجاله البصريّ. وجوده هناك جزءٌ من النظام أيضًا؛ شاهدٌ مؤجَّل على شيءٍ لا مكان له في جدول عمل هذه الليلة. يشدّ كتفيه إلى الخلف، يشعر بعضلات رقبته تحتجّ بخفّة، ثم يطرد من رأسه فكرة أن يستسلم للحظة حنينٍ طارئة، كما لو أنّ السماح لها بالدخول سيبعثر الأوراق ويكسّر خطوطها المنضبطة.
ينحني قليلًا فوق المخطّط، يقرأ العناوين الفرعيّة كما يراجع وحداتٍ عسكريّة قبل تحريكها: «الفخر والعفّة عند الجاهليّين»… «تحويل مفهوم الوفاء في صدر الإسلام»… «أخلاقيّات الحبّ عند العبّاسيّين: بين الزهد والمتعة». العناوين نفسها التي منحته ثقةً في قاعة الاجتماع مع رئيس القسم تبدو هنا غريبةً بعض الشيء، كأنّها ملصَقة على هواءٍ لا على فصلٍ مكتمل. يمدّ يده إلى القلم، ثم يتوقّف في منتصف الطريق. فكرةٌ عابرة، مزعجة في بساطتها، تلمع: «هل يصلح هذا المكان فعلًا لأن يكون معسكرًا للانضباط وحده؟ أم أنّه مصمَّم أصلًا لشيءٍ آخر؟».
يهزّ رأسه لنفسه، ابتسامةٌ قصيرة تلامس زاوية فمه ثمّ تنطفئ. ما الذي يعرفه «المكان» أصلًا عن مقاصد النزلاء؟ الطريق إلى هنا لم يعلن عن نيّةٍ خاصّة؛ مجرّد لوحة صغيرة على جانب الإسفلت: «قصر الوفاء – ٣٠ كم». بقية القصّة كانت في بريده الإلكترونيّ، في توصيةٍ جامعيّة، في توقيع عقد إقامة موقّتة. أمّا هذه الجدران التي تحمل ذكريات زوّارٍ آخرين، بأغراضٍ أُودِعت وغِياباتٍ لم تُذكَر، فهي بدورها لا يعنيها مشروعه الأكاديميّ أكثر ممّا يعنيها اسم صاحب الحقيبة في الغرفة隔. في النهاية، ما يملكه من سيطرة هو هذا: ترتيبُ الأوراق، وضبطُ الضوء، وتضييقُ مجال ما سيسمح له بالاقتراب من نوافذه المفتوحة على الليل.
يلقي نظرة سريعة إلى الركن الأيمن من الشاشة؛ خمسُ دقائق فقط على بداية نافذة الاتصال الموعودة. يغلق على هذا الرقم كأنّه موعد قطارٍ نادر، ثمّ يسحب الحاسوب من غلافه القماشيّ بالحذر ذاته الذي طوى به كتاب أمّه قبل قليل. يفتحه ببطء، كأنّ المفاصل البلاستيكيّة قديمة وتحتاج إلى رفقٍ خاص، وتبقى أصابعه معلّقة فوق لوحة المفاتيح لحظةً طويلة لا تضغط فيها شيئًا.
البريد إلى رئيس القسم مفتوحٌ سلفًا في مسودّة، باردًا كما تركه قبل العشاء: «وصلتُ بالسلامة. المرافق مناسبة. سيجري العمل وفق المخطّط». ثلاث جمل قصيرة، نظيفة، يمكن أن تُنسى فور قراءتها. لا ذكرَ للثقل الغريب المستقرّ تحت عظمة الترقوة، ولا للطريقة التي جعلت فيها زرقةُ السماء نهارًا الطريقَ يبدو أقصر من الحقيقة، وأطول من أن يُحتمل. يعيد قراءة السطور بعين الناقِد الذي لا يرحم، ثمّ يصحّح فاصلة، ويضيف أخرى، ويحذف «أل» تعريفٍ زائدة، كما لو أنّ نحوًا لا خطأ فيه كفيلٌ بأن يجعل وجوده هنا إجراءً إداريًّا صرفًا؛ إقامةً مؤقّتة في ملفّ، لا تجربةً يمكن أن تُخِلّ، لا يقظةً محتملةً لشيءٍ لا يُقاس ولا يُستشهد عليه في الحواشي.
يومض الموجّه الصغير في الزاوية كحشرةٍ كهربائيّة استُدعيت على الموعد، يصدر أزيزًا خافتًا يضيف طبقةً صناعيّة إلى الصمت. يضغط «إرسال»، فينطلق البريد إلى رئيس القسم بلا دراما، ثمّ تنهمر الإشعارات على الشاشة كأنّها تتذكّر فجأةً عنوانه: تعميم من العمادة، إشعار بعددٍ جديد من مجلّةٍ لا يتذكّر أنّه اشترك فيها، رسالةٌ مطوّلة من طالبٍ يتذكّر وجوده قبل أيّامٍ من إغلاق باب التوصيات. تنطلق في يده الحركة التلقائيّة: فتح، ردّ، أرشفة، وضع علامة «مهمّ». نصفه يريد أن ينزلق إلى هذا الإيقاع المألوف، أن يستعيد عزاءَ أن يكون مطلوبًا في كلّ لحظة. لكنّ شريط العدّ التنازليّ في أعلى الشاشة يلمع بالثواني المتناقصة؛ تذكيرٌ مؤدّب بأنّ السخاء الرقميّ هنا مُقنّن. يأخذ نفسًا قصيرًا، ثمّ يغلق صندوق الوارد كما يُغلق بابًا على وفدٍ من الزوّار جاء في غير وقته. يخرج من الحسابات واحدًا واحدًا، يطالع لنفسه كلمة «تسجيل خروج» كمن يوقّع استقالةً مؤقّتة من مهنته الثانية: مهنة الرّدّ الفوريّ. حين تنطفئ آخر نقطةٍ خضراء في زاوية الشاشة، يراها للحظةٍ كجمرةٍ صغيرة أُخمدت عن عمد؛ ضوءًا عنيدًا كان يطالبه أن يبقى يقظًا، أطفأه بيده قبل أن يتذرّع بعدم القدرة.
حين ينطفئ الاتصال فجأةً، يكاد الفراغ يُسمَع. خفوتُ دوران المروحة، ورشفة الماء المتقطّعة من نافورة الساحة، واهتزاز خوص النخيل البعيد في العتمة؛ أصواتٌ كان صخبُ المدينة يبتلعها بلا تردّد، فإذا بها الآن تطفو حادّةً على سطح إدراكه. يلتفت لا إراديًّا إلى النافذة، كأنّه يتوقّع هدير شارعٍ مكتومًا، أو ضجّة طلابٍ تتسرّب من ممرٍّ مجاور، أو قعقعة فناجين من مقهى الطابق السفليّ. لا شيء. الفراغ هنا ليس مجرّد غياب ضجيج؛ إنّه حضورُ سكونٍ له وزن، يتقدّم ببطء إلى الداخل، يُزيل تباعًا المبرّرات الجاهزة للتشتيت والتأجيل التي التحف بها سنواتٍ كاملة، ويتركه وجهًا لوجه مع ما كان يزيحه دائمًا إلى الهامش بحجّة «انشغالٍ لا ينتهي».
يميل إلى ظهر الكرسي، يتدلّى القلم فوق الدفتر بلا حركة، كأنّ الحبر هو الآخر ينتظر جوابًا. يتّسع صدى أفكاره في الفراغ، أعلى من أيّ نغمة إشعار عرفها. لأوّل مرّة منذ أشهر، لا شيء يطالبه بردٍّ فوريّ: لا رئيسَ قسمٍ يستعجل تعديلات، لا طالبًا يستعطف، لا قريبًا يذكّره بالطعام والنوم. العجلة الوحيدة الحاضرة هي تلك التي ظلّ يجري أمامها سنوات: سؤالٌ حادّ عمّا يفعله بنفسه باسم «الوفاء» و«الجدّيّة» و«التفرّغ». حين تقف هذه المحاكمة وحيدةً بلا وسطاء ولا رسائل تغطّيها، لا يبدو الصمت مريحًا بل مهدِّدًا قليلًا؛ كأنّ الصحراء كلّها قد جلست في مقعد المُشاهِد، تنتظر لترى: هل سيستمرّ في الاحتماء بورق العمل، أم يجرؤ أخيرًا على رفع عينيه ليجيب.
يتقلّب على السرير الضيّق كما لو كان يتقلّب فوق صفحةٍ قاسيةٍ لا تقبل سطرًا إضافيًّا. الفراش مشدودٌ بإحكام يذكّره بطاولات قاعات الامتحان، والوسادة مسطّحة حدّ البخل؛ كلّ شيء في الغرفة يوحي باستعمالٍ واحد: الجلوس، الكتابة، الإنجاز. حتّى وضعُ جسده مستلقًى يبدو هنا نوعًا من سوء الاستخدام للمكان. يثبت نظره طويلًا في السقف الأبيض، يراقب ظلَّ المروحة يسبح ببطءٍ في العتمة، فيخطر له أنّه يشبه أفكاره الأخيرة: دورانًا بلا تقدّم.
يحاول الحيلة القديمة: يعدّ الحواشي بدل الخراف. يتخيّل فصول المخطوط مصفوفةً كالسراب على رفٍّ بعيد: «في مدائح العفّة»، «في فضيلة الكتمان»، «في أخلاق الوصل والفراق». يختبر في ذهنه عناوين فرعيّة، يستحضر نصوصًا، يعيد صياغة استنتاجٍ قاله عشر مرّاتٍ في مقالاتٍ سابقة لعلّه يبدو هذه المرّة أكثر إقناعًا له نفسه. لا جدوى. الأفكار تأتي متقطّعة، بلا الحماسة الآليّة التي تعوّدها في مكتبه الجامعيّ، كأنّها أيضًا تتهيب هذا السكون.
وحين ينتبه إلى أنّه يراقب عقرب الثواني في ساعته لا لشيءٍ إلا لتمضية الوقت، يدرك سخافة الادّعاء بأنّه «يرتاح». لا هو نائم، ولا هو يعمل، ولا هو حتّى ينجح في إقناع دماغه بأنّ هذه الوقفة جزءٌ من خطّة إنتاجٍ أوسع. شيءٌ ثالث بين الحالات كلّها، مُعلَّق مثل جملةٍ اعتراضيّة أخطأ في مكانها.
يتنهّد أخيرًا، ذلك التنفّس القصير الحادّ الذي يسبق عادةً قرارًا صغيرًا لا رجعة فيه. يمدّ يده إلى النظّارة، يتحسّسها على الطاولة ثمّ يترُكها؛ الليل خارجًا لا يحتاج إلى وضوحٍ بصريّ. يلتقط دفتره وقلمه بدافع الغريزة أكثر منه النيّة، يزلق قدميه في الشبشب، ويمشي بخفّة من لا يريد الاعتراف لنفسه بأنّه استسلم للأرق.
يفتح الباب بحذرٍ إلى الفناء الصغير الملاصق لغرفته، فيستقبله هواءٌ أقلّ حرارة، كأنّ الحجارة قد أنهت أخيرًا تفاوضها الطويل مع شمس النهار ورضيت بإطلاق ما ادّخرته من وهج. بلاطات الحجر تحت قدميه لا تزال دافئة، لكنّها لم تعد تعاقبه كما في المغيب. يخطو إلى الخارج خطوةً أخرى، ثمّ يتوقّف عند الحاجز المنخفض، يترك الباب نصف مفتوحٍ خلفه كمن يحتفظ بخيطٍ واهٍ إلى الداخل المألوف.
يرفع رأسه آليًّا، فيصطدم بالبذخ الفاحش للسماء. وعاءٌ مقلوب من سوادٍ صافٍ مرصّعٍ بنقاطٍ حادّة، لا يشبه سماء المدينة التي اعتادها، تلك السماء التي تُرى من وراء زجاجٍ ومصابيح، كخلفيّةٍ مهذّبة لا تطالب أحدًا بشيء. هنا، النجوم قريبةٌ على نحوٍ مزعج، كأنّها تميل فوقه لتتفحّصه شخصيًّا، سطرًا سطرًا. يفكّر بلا طرافةٍ تُذكر أنّها تشبه زملاءه في لجنة الترقية: أضواءٌ بعيدة، لكنّ أحكامها نافذة.
يحاول أن يتجاهلها فيحدّق في خطّ الأفق بدلًا منها، فلا يجد شيئًا سوى امتدادٍ غامق من رمالٍ غير مرئيّة، يقطعه فقط ظلّ نخلةٍ عند طرف الفناء. الصحراء في الليل لا تُرى بقدر ما تُفترَض. لكنّ السماء تفرض نفسها فرضًا؛ وهجها يملأ مجال البصر بحيث يستحيل التهرّب منها. يضبط نفسه وهو يشيح بنظره إلى الأرض كما لو كان يتهرّب من مُحاوِرٍ متطفّل.
يستند بمرفقه إلى الجدار الحجريّ القصير، الدفتر معلقًا بين أصابعه بلا غاية واضحة. يحاول أن يستدعي ذلك الإحساس القديم بامتلاك زمام الموقف: ها هو قد «اختار» الخروج إلى الهواء، «اختار» أن يتأمّل قليلاً قبل استئناف العمل في الصباح. لكنّ الحقيقة تنكشف له بجرأةٍ مزعجة: لم يختر شيئًا؛ النوم هو الذي تخلّى عنه، والدقائق ثقيلةٌ إلى حدّ أنّ الغرفة ضاقت به، فهرب منها إلى فضاءٍ أوسع لا يعرف ماذا يفعل به. والنجوم، بما فيها من وقاحةٍ هادئة، تبدو مصمّمةً على ألّا تسمح له بإغلاق عينيه هربًا. كأنّها تقول له ـ بزهوٍ صامت ـ إنّ هذه الليلة، على الأقلّ، لن تُختزَل في حاشيةٍ يضيفها إلى آخر فصل.
يشدّ قبضته على حافّة الجدار، لا لأنّ في الأمر انفعالًا ظاهرًا، بل كأنّ يده تحتاج إلى شيءٍ صلبٍ تتشبّث به بينما الكلمات القديمة تنفلت من مكانٍ حفظها فيه ظانًّا أنّه أغلقه بإحكام. تخرج الأبيات أوّل الأمر تقريبًا بلا وعي، كما يخرج الزفير من صدرٍ ضاق: معلّقات العزلة، مديحُ الرجل الذي يُغلِق باب قلبه دون اللائمة والرجاء، صورةُ العاشق الذي لا يُستَعمل في القصيدة إلا بوصفه مثالًا على ما ينبغي تجنُّبه.
صوتُه لا يكاد يتجاوز الهمس، ومع ذلك يبدو له مُرتفعًا على نحوٍ فاحشٍ في هذا الفناء الضيّق؛ خيطُ بشرٍ رفيع يُقحِم نفسه في نسيج صمتٍ منسوجٍ منذ قرون. كلّ كلمةٍ يشعر أنّها تقع على الحجر أو على الرمل خلفه فتُحدِث تموّجًا لا مرئيًّا، كأنّ المكان نفسه يستمع لا ليتأثّر بل ليقيس انسجام ما يقول مع ما تعلّمه من أفواه رجالٍ آخرين ردّدوا هنا نصوصًا مشابهة، ثمّ رحلوا تاركين وراءهم صدى لا توقيع له.
يتمتم بالأبيات ذاتها التي علّق عليها في مقالاتٍ لا تُحصى، الإيقاع المألوف لشعراء حوّلوا الشوق إلى نوعٍ متكبّر من الزهد. بيتٌ عن رجلٍ «يستنكفُ بابَ الحبيبة» مخافةَ أن يُرفَض، وآخرُ يرسم المحبَّ كعِبرةٍ يتناقلها العقلاء؛ قربانًا محترِقًا على محراب التماسك. صورٌ يعرفها كما يعرف فهارس كتبه، تعود إليه مرتَّبةً، مطمئنّةً إلى مكانها في حججه عن فضيلة الانضباط. كلّ عبارةٍ تسقط من فمه بثقة جملةٍ افتتح بها أكثر من محاضرة، صياغاتٌ صقلها حتّى اللمعان، حفظ ردود الاعتراضات عليها كما يحفظ الأبيات نفسها. لو كان في قاعةٍ مكيّفةٍ في المدينة، لكان هذا التدفق دليلًا على سيطرته على الموضوع؛ هنا يبدو التدفق نفسه أشبه بمحاولةٍ مُلِحّة لإعادة كتابة عقدٍ قديمٍ مع نفسه قبل أن يطالبه أحدٌ بقراءة بنوده عليه.
ومع أنّ الشطر يخرج من فمه موزونًا كما تعوّد، يلمح فيه فراغًا جديدًا، تجويفًا لم ينتبه إليه من قبل. الكلمات نفسها، لكنّ نبرتها مائلة قليلاً، كأنّها تعتذر وهي تُقال. أخلاق «التنزّه عن الحبّ» التي بنى عليها فصولاً بأكملها، تبدو هنا كمذكّرة دفاعٍ يكتبها من يخاطب قاضيًا لا يثق به تمامًا، لا كيقين رجلٍ مطمئنّ إلى براءته.
يتوقّف في منتصف الشطر، لا لأنّ الذاكرة خانته، بل لأنّ انتباهه يلتقط ـ كمن يتعثّر بحجرٍ صغير في طريقٍ يحفظُ كلّ منعطفٍ فيه ـ أنّه لا يُنشد بقدر ما يُحصّن؛ يرصّ الاستشهادات المجرَّبة كأكياسِ رملٍ بينه وبين شيءٍ بلا اسمٍ يضغط من ليلِ الصحراء إلى صدره. القصائد التي كانت يومًا «قرائن» حججه ودرعه النظريّ، تغدو فجأة أقرب إلى تعاويذَ تُمضَغ بعد انتهاء الإيمان بها؛ دفاعاتٍ أُدّيت مرّاتٍ كثيرة حتّى بدأت تُفصِح عن خوفٍ أعمق ممّا تُخفيه. يبتلع العَجُز الأخير، يترك للصمت أن يعود ويتضخّم حوله، وبين ضربةِ نبضٍ وأخرى يحسّ خيطًا رفيعًا من الشكّ يشدّ برفقٍ على أخلاقيّة الامتناع التي أمضى أعوامًا يدرِّب نفسه على السكنى فيها.
يمدّ يده نحو الهاتف ثم يشدّها إلى الخلف كأنّما لامس شيئًا ساخنًا. «اللائحة» التي كتبها قبل القدوم إلى القصر ـ نومٌ قبل الحادية عشرة، لا بريد إلكتروني بعد التاسعة، ساعتان متواصلتان من القراءة التأمّليّة قبل الفجر ـ تومض في ذهنه كصفحةِ نظامٍ داخليّ في مؤسّسةٍ لا موظّفين فيها سواه. يبتسم ابتسامة قصيرة لا يراها أحد: ها هو يخرق البند الأوّل منذ الليلة الأولى، ويتفاوض مع الثاني كالمذنب الظريف الذي يحاجج القاضي في درجة الذنب لا في أصله.
الانقطاع عن الشبكة مُسوَّغٌ في ملفّ المنحة كشرطٍ للإبداع العميق؛ في طبقة أعمق، يشعر به الآن كنوعٍ من العقوبة التطوعيّة. أن يُترَك وحده مع أفكاره، بلا رسائل جديدة تسوّغ له الهروب من نفسه، بلا إشعارٍ يقدّم له إحساسًا سريعًا بالجدوى، يعني أن تنكشف الضوضاء الداخليّة التي كان يغطّيها دائمًا بـ«انشغالٍ ضروريّ». من خلف جدار الغرفة السميك تتسرّب رائحة الخشب والكلس البارد، ومعها وعيٌ غريب بأنّ مَن ناموا في هذا المكان قبل قرون لم يعرفوا شيئًا عن صناديق البريد الإلكترونيّ، ومع ذلك وجدوا طرقًا أخرى ليفرّوا من أنفسهم.
يجرّ كرسيّ المكتب قليلًا، يقيس المسافة بينه وبين الباب، بينه وبين السرير غير المألوف، كأنّ تغيير زاوية الجلوس قد يخفّف من الضغط في صدغَيه. الورق المكدَّس على الطاولة ينتظره بصبرٍ لا يرهبه، بل يُربكه؛ لا أحد يطالبه الآن بالإنتاج، لا موعد تسليمٍ في هذه اللحظة بالذات، ومع ذلك يظلّ جسده متهيّئًا كما لو أنّه متأخّرٌ عن قطار. الفراغُ في الجدول الزمنيّ أوسع ممّا ظنَّ، والليل في الصحراء لا يعرض عليه ما اعتاد عليه من ملهيات المدينة: لا ضوضاء شوارع، لا مقاهٍ مفتوحةٌ إلى الفجر، بل صمتٌ متجانس يضغط من كلّ الجهات، يجعل كلَّ فكرةٍ تمرّ في رأسه أعلى صوتًا ممّا ينبغي.
يقرِّر أن يتعامل مع الليل كـ«امتحان كفاءة» شخصيّ: فرصة لإثبات أنّ الحياة التي اختارها ـ الأوراق قبل الناس، المخطَّط قبل المفاجأة ـ ليست مجرّد احتمالٍ يمكن تحمّله، بل خيارٌ أرقى، أنظف، أكثر احترامًا للعقل. في ذهنه، يشرع في صياغة المحاضرة التي كان سيلقيها على طالبٍ حائر لو جلس أمامه الآن: أنّ الإخلاص الحقيقيّ خطّ واحد مستقيم، نذرٌ يُعقَد مرّة واحدة ثم يُساق العمرُ كلّه في مهمّةٍ واحدة: عدم الحَيْد عنه. لا «فصول تجريبيّة» في سيرة الجادّين، بل التزام بلا التفات.
يستدعي صورة رئيس القسم وهزّة رأسه الراضية في نهاية مناقشة طويلة، والفقرة المتخيَّلة في التقرير السنويّ للمؤسّسة التي تموّل الإقامة هنا: «نموذج تركيزٍ بحثيّ استثنائيّ في بيئةٍ محفِّزة». يصفّ هذه المشاهد الذهنيّة كتمائم صغيرة على حافّة الطاولة، يلمّعها واحدةً واحدة في خياله، يعلّق عليها أسماءً مطمئنة: «ترقية محتملة»، «عرض في جامعة خليجيّة مرموقة»، «مقتطف مقتبَس في خطاب مانحٍ متحمِّس». يحاول أن يجعل من هذه الومضات درعًا ضدّ ذلك الوخز البطيء الذي يتسلّل من أطراف وعيه، إحساسٍ مبهمٍ بأنّ شيئًا ما، خارج جداول الإنتاج وأعداد الهوامش، ينقصه ولا يعرف بعد كيف يسمّيه.
على نحوٍ غير مُستغرَب، تنزلق تلك التمائم الذهنيّة من أماكنها، فيجد نفسه لا يفكّر في عدد الصفحات ولا في احتمالات الترقية، بل في مكتب أمّه: سطحٌ صغير من الخشب المعتَّق كان يضيق بفناجين شايٍ منسيّة، ومسودّاتٍ مكدَّسة، وزهرةٍ ذابلة تتركها طالبةٌ خجولة وتمضي. كان فوضويًّا بكلّ ما يخالف ذائقته الحاليّة، ومع ذلك يحتفظ في ذاكرته بوضوحٍ مؤلم. كانت تجلس قبالته أو قبالة أحد طلابها، تتحدّث ساعاتٍ عن بيتٍ واحد من المتنبّي، تضحك، ترفع حاجبها دهشةً، ثم تعود ـ دون دراما ـ إلى نصّها، وقد ازدحمت الهوامش بجمعٍ غريب بين إحالاتٍ صارمة وتعليقاتٍ جانبيّة صغيرة لا يقرأها سواها. تُقلقه تلك الصورة: حياةٌ لم يكن فيها الانضباط نقيضًا للدفء، نموذجٌ عاش أمامه ثم أعلن، في مكانٍ ما من داخله، استحالته بعد أن رأى كيف حوّله الفقدُ إلى شظايا متناثرة.
يعود في دورته الصغيرة داخل الغرفة، كأنّه يريد أن يثبت لذاكرته أنّها تبالغ. يتمتم، بنبرة من يراجع مادة محفوظة: على الباحث أن يبقى منفصلًا. الشراكات تنتهي بالغيرة. الإعجاب يتحوّل استملاكًا. الخطوبة ـ يزفر ضحكة ساخرة قصيرة عند الكلمة ـ تتحوّل إلى نقطة جرّ، يمسك فيها الآخرون بطرف وقتك، بمبادئك، بتعريفك لنفسك. يكدّس أمثلة من ماضيه كأدلة في ملفّ قضيّةٍ محسومة سلفًا، ثم، من حيث لا ينتبه، يتسرّب مشهدٌ آخر: حضورٌ في آخر زاوية من المكتب، لا يتدخّل ولا يطالب، مجرّد وجودٍ ساكن يشهد الجمل وهي تتشكّل دون أن يمدّ يده لامتلاكها. الصورة تأتيه حادّةً على غير المتوقَّع: فنجان قهوة يُوضَع بلا استعراض قرب كومة الأوراق، نفَسٌ آخر في الغرفة يساير إيقاع كتابته، نظرة مشتركة عابرة بعد عبارة مصاغة بإتقان، كأنّ التصديق على ما كتب لا يحتاج إلى أكثر من ومضة عين. الدقّة في هذا الخيال، ودفؤه المتسلّل من بين شقوق حججه، تربكه إلى حدّ أنّه يكاد يلتفت يبحث عمّن وضع الفنجان غير الموجود.
تتخثّر الفجأة في صدره لتصبح ضيقًا حادًّا؛ يقبض على ظهر الكرسيّ حتّى تؤلمه مفاصله، كأنّ الضغط وحده قادر على سحق الفكرة. «عاطفيّات»، يتمتم بالكلمة كشتيمة، كتقريرٍ بضعفٍ لن يسمح له بالتسرّب إلى أيّ سطرٍ منشور باسمه. يطيل من خطوته بين المكتب والعتبة المفتوحة، كأنّ المسافة الإضافيّة يمكن أن تحرق ما تبقّى من ذلك التصوّر الخائن. يحاول أن يفرض على ذهنه عودةً قسريّة إلى العناوين الفرعيّة وبُنى الحجج، يترجم كلّ وخزة حنينٍ إلى صحبةٍ محتملة بلغةٍ أكثر أمانًا: «تلقّي الجمهور»، «خيال القارئ»، «أفق التلقّي النقديّ». يحدّث نفسه بأنّ ما يشتاق إليه، إن كان ثَمّة اشتياق، ليس «وجودًا» إلى جواره بل قارئًا مثاليًّا بعيدًا، يظلّ افتراضيًّا ولا يطالب بشيءٍ خارج النصّ. حين يبدأ الأفق في التخفّي من سواده، يكون فنجان القهوة المتخيَّل، وتلك الجلسة الصامتة قبالته، قد نُفيا بدقّةٍ صارمة، مطويَّين في الزاوية نفسها من نفسه التي يكدّس فيها، منذ سنوات، كلَّ ما يُصرّ على أنّه لا يحتاجه.
لا يلتفت إلى الساعة؛ يكفيه ثِقل الجفون ليعرف أنّ الليل استُنفِد. يجرّ الدفتر نحوه ببطءٍ مُتعَمَّد، كأنّه يسحب حجرًا من بئر، ثم يفتح الصفحة الجديدة كما تُفتَح ساحة معركة. يثبّت المِعصم على حافّة الطاولة، يمسك القلم بإحكامٍ يبالغ فيه، ويكتب السطر الأوّل بعنادٍ يكاد يكون جسديًّا أكثر منه فكريًّا.
«الشرف بوصفه حدًّا فاصلًا».
تخرج الكلمات مربّعةً، حادّة الزوايا، أقرب إلى هندسةٍ دفاعيّة منها إلى عنوانٍ أكاديميّ. يرسم تحتها خطًّا مستقيمًا، يراجعه بعينٍ ناقدة كأنّه يختبر صلابة سورٍ جديد. يتوقّف لحظة، يدوّي في رأسه صدى تلك الصورة الدافئة التي داهمته قبل قليل، فيسارع إلى إحالتها إلى منفى المصطلحات.
«الوفاء بوصفه اقتصادًا».
يكتبها بثباتٍ أكثر، يضيف نقطتين، ثم سهمًا صغيرًا نحو الهامش حيث يخطّ على عَجَل: «تبادُل الرمزيّات، استثمار الشعور، عقود غير مكتوبة». يضغط على الكلمات حتّى تخدش الورق، كأنّه يريد أن يثبت أنّ الوفاء، في النهاية، قابل للقياس، للمحاسبة، للكبح. لا مكان هنا لفنجان قهوة يُوضَع بلا استئذان قرب أوراقه؛ ما يُوضَع هنا يُدفَع ثمنه بمراجع وإحصاءات.
«الزهد ورأس المال الاجتماعيّ».
يتوقّف عند الكلمة الأخيرة، يبتسم بسخريةٍ باهتة. يدوّنها مع ذلك، كأنّه يسجّل تواطؤًا يعرفه الجميع ويتنصّل منه الجميع. العناوين تتتابع في أعمدةٍ ضيّقة على الصفحة: «التعفّف والسمعة»، «الانقطاع بوصفه عرضًا عامًّا»، «الانسحاب الاستراتيجيّ من شبكات التعلّق». كلّ سطرٍ جديد كِسرةُ طابوقٍ أخرى في جدارٍ يرفعه بينه وبين تلك الليونة التي تسلّلت إليه في العتمة.
ما بين عنوانٍ وآخر، تلمع في ذهنه جملةٌ محتملة عن «الحضور الصامت» أو «شريك القراءة»، فيُسارع إلى تحويلها إلى صياغةٍ أخرى أكثر أمانًا: «إنتاج أُفق توقُّعٍ لدى المتلقّي»، «بناء قارئٍ ضمنيّ». يدوّن مصطلحاتٍ متراصّة: «اتّساق الصورة الذهنيّة للذات العلميّة»، «مقاومة التماهِي مع موضوع البحث»، «تجفيف موارد الإسقاط العاطفيّ».
كلّما لانَت جملةٌ في رأسه، قاسيةً في الورق. يشنّ حملةً صغيرة على كلّ احتمال حميميّ يتسرّب إلى الهامش، يترجم الشعور إلى مفهوم، والحنين إلى «حاجة إلى الاعتراف» يمكن تصنيفها ثم طيّها. وحين يرفع رأسه، بعد أسطرٍ متتالية من العناوين الفرعيّة والسهام والتعاريف المبتسَرة، يلمح الصفحة وقد تحوّلت إلى مخطّط حصار: أسوارٌ من مصطلحات تحيط بمساحةٍ بيضاء صغيرة في الوسط لم يكتب فيها شيئًا بعد.
يتأمّل تلك المساحة لحظة، يغريه أن يملأها بجملةٍ واحدة لا أكثر، جملةٍ لا تصلح أن تُستشهَد في مؤتمر ولا أن تُراجَع في لجنة ترقية. «الرغبة في شاهدٍ لا يطالب بشيء». يرفع القلم، يقترب طرفه من الفراغ، ثم يغيّر مساره بانضباطٍ آليّ، ويكتب: «خاتمة: حدود الأخلاقيّ في اقتصاد العاطفة». يضع نقطةً حادّة في آخرها، كأنّها مسمارٌ في بابٍ يُغلَق من الداخل.
يخترق الأذان البعيد، ممدودًا رفيعًا من جهة قريةٍ لا يراها، هواء الغرفة من شقّ النافذة المفتوحة. لا يدخل بوصفه نداءً، بل كخيطٍ صوتيٍّ واهن، كخطّ تحت جملةٍ لم تُكتَب بعد. يتعثّر صوته لحظةً فوق مائدة الكتابة، يلمس عصبًا قديماً في صدره قبل أن يواصل انسيابه نحو السقف. لا يحتاج إلى استدعاء صورةٍ بعينها؛ يكفيه هذا الرجْع المتكسّر ليتسلّل إلى ذاكرته فجرٌ آخر: همهمة أمّه المنخفضة وهي تخلط بين آيةٍ ودعاء، ارتجافة الملعقة في كوب الزجاج حين كانت تقلّب السكر في الشاي، صفير الغلاية وهو يتسلّق صمت البيت ببطء.
تطرف عينه إلى الهامش الأبيض، ثم ينحرف البصر عائدًا إلى السطر. يردّ على ذلك كلّه بضغطٍ إضافيّ من أصابعه على القلم، كأنّ شدّة القبضة يمكن أن تفصل بين الصوت ومعناه. يرسم خطوطًا تحت المصطلحات الأساسيّة حتّى تغدو الصفحة مثل درعٍ صغيرة، ألواحًا متجاورة من كلامٍ مصقول، لا تتّسع لظلّ غلايةٍ على نارٍ هادئة، ولا لارتعاشة يدٍ ترفع سجّادة الصلاة عن الأرض قبل أن يسطع الضوء تمامًا. كلّ لفظةٍ يُحَصِّن بها النصّ هي، في الوقت نفسه، محاولةٌ لتدجين ذلك الفجر الآخر، حتّى يصبح، هو أيضًا، مجرّد «سياقٍ ثقافيّ» يُشار إليه في الهامش ثم يُتجاوَز.
بحلول اللحظة التي تتجمّع فيها الأضواء في فناء القصر، حادّةً على زوايا الحجر وظلال النخيل، يكون قد أحاط ذلك الوخز المبهم في صدره بسياجٍ من الإحالات والأسئلة البحثيّة المؤجّلة. يدوّن في الهامش: «يُستقصى لاحقًا»، «قابِل للتوسّع في الفصل الرابع»، كأنّ كلَّ إرجاءٍ إضافيّ تأجيلٌ آمن لأيّ اعترافٍ لا يُراد له أن يكتمل. يقنع نفسه بأنّ ما يسمّيه الناس «حُنينًا» ليس إلّا نوعًا فرعيًّا من الفضول المعرفيّ يُسيء العقل المنهَك قراءته في آخر الليل. الأبيات التي دار بها في العتمة يُعيد تصنيفها ببرودٍ مهنيّ: «مقترحات لتصدير الفصول»، «مادّة إبيغراف محتملة». تُحبَس شحنتها في أقواس الاقتباس، كأنّ علامات التنصيص قادرةٌ على تحييد أيّ حرارةٍ تتسرّب من الكلمات إلى صاحبها.
يُرْجِع الغطاء إلى مكانه على رأس القلم ببطءٍ محسوب، كأنّه يُسدِل ستارةً على مسرحٍ لا جمهور له، ثم يُسوّي الأوراق في رُزمةٍ مربَّعة الزوايا، حافّاتُها متطابقة بدقّةٍ تُرضي شيئًا عنيدًا فيه. يمرّر كفَّه على صدر قميصه، يطرد ثنياتٍ صغيرة كأنّها دلائلُ مادية على اضطرابٍ يرفض الاعتراف به. رائحة الحبر الخافتة تمتزج بغبارٍ ساكنٍ وبقايا قهوةٍ باردة تَحَجَّر مزاجها على الطاولة منذ ساعات، فيتنفّسها كدليلٍ صامتٍ على «الإنجاز». يتجاهل نبضَ الصداع في صدغيه وخشونةَ الرمل في زوايا عينيه، ويصوغ في داخله جملةً نهائيةً مُقنِعة: هذا الانهاك المنظَّم ليس استنزافًا، بل شاهدٌ على جدارةٍ أخلاقيّة، علامةُ وفاءٍ للمشروع، لا إنذارُ جسدٍ يُطالِبُه بهدنةٍ لم يوقِّع عليها بعد.
يُدَسّ الدفتر تحت ذراعه ويُزِيح كرسيّ المكتب بقدمٍ آلية، ثم يخطو إلى الممرّ حيث يلكزه وهج الصباح الصاعد، حادًّا كتعليقٍ غير مرغوب فيه. يرمش مرّتَيْن، يُعيد ضبط نبرةٍ «مهنيّة» في رأسه قبل أن يفتح فمه أصلًا. «ترتيب الجداول»، يذكّر نفسه: توزيع ساعات المكتبة، تثبيت نوافذ الإنترنت المحدودة، برنامج زيارات المانحين، بروتوكولات الاستقبال والوداع؛ عبارات رتيبة يكرّرها داخله كأنّها نوعٌ من الذِّكر الواقي وهو يَعبر الفناء نحو المبنى الإداريّ المنخفض، جدرانه المبيَّضة تبدو أهدأ كثيرًا ممّا تُخفيه. يُقنِع نفسه بأنّ ما ينتظره لا يتجاوز استمارات توقيع ورسائل ترحيب صيغت سلفًا، غير مُدرِكٍ أنّ أوّل حديثٍ في ذلك المكتب المتواضع لن يكتفي بضبط إقامته، بل سيطالبه بتمثيل حياةٍ أقسم، في سرّه وعلى صفحات أبحاثه، ألّا يعيشها.
اكتفى بهزّة رأس قصيرة. قال، وهو يمسح بطرف أصابعه حافة الدفتر الجلدي كأنما يتأكد من مادّته: «يكفي. شكرًا.» خرج صوته أهدأ مما شعر به في داخله؛ حافّات الكلمات مشدودة بتعب الطريق الطويل وليلٍ لم ينقطع فيه النوم بل تقطّع إلى مقاطع متوترة، مثل بيت معلّقته المفضّلة إذا أسيء تقطيعه.
لم يجلس. وضع دفتره على طرف مكتبها، بحذر محسوب يترك مسافة كافية لملفّاتها وأوراقها، ثم بقي واقفًا، كتفاه الضيّقتان كأنهما مشدودتان بخيط غير مرئي. عينه، من وراء العدسات المستديرة، انزلقت تلقائيًّا إلى ورقة ملوّنة مثبّتة قرب الباب: جدول الاتصال بالإنترنت. مرّت على التواريخ والساعات كما لو كان يقرأ مخطوطة نادرة، يبحث عن ثغرة، عن هوامش يمكنه أن يحشر فيها شيئًا من عادته في العمل المتّصل.
«محدّد…» تمتم بالعربية الفصحى، نبرة خفيفة من التحفّظ تندسّ تحت الحرف الأخير. كان جزء منه، الجزء الذي يرتّب فصول الكتاب وملفّات الطلبة وجداول المحاضرات، يقدّر الانضباط في هذه القيود. أمّا الجزء الآخر، الأكثر صمتًا، فشعر بانقباضة صغيرة: ثماني ساعات فقط من الاتصال في الأسبوع تعني انتهاء عادة التحقّق القهري من البريد، تعني أن يبقى مع أفكاره وحده في هذا الفراغ الرمليّ الذي يمتدّ وراء النافذة.
النافذة نفسها لم تساعده كثيرًا. شريط ضيّق من الضوء نُسلّ من بين الستارة والحيّز الخشن للجدار الطينيّ، يقطع المكتب المزدحم بالملفّات إلى نصفين غير متكافئين. حبيبات الغبار علّقت في الشعاع، تدور ببطء، كأنّها تذكير ساخر بأن الزمن هنا يسير بإيقاع آخر. ضايقه ذلك الضوء، لا لشدّته، بل لأنه كشف ضيق الغرفة: خزانة معدنية تزاحم الحائط، كرسي وحيد يواجه المكتب، ركن صغير لرفّ كتب عليه مجلّدات عن الإدارة الثقافية، وبعض كتب شعر يعرف عناوينها من بعيد.
شعر فجأة بأن المكان أصغر من صور البريد الإلكتروني التي أرسلتها له الإدارة؛ أصغر من تخيّله لزوايا “الزوايا” القديمة التي قرأ عنها. هو نفسه بدا أكبر مما ينبغي في هذا الإطار المحدود: قامته الطويلة تصطدم ذهنيًّا بالسقف المنخفض، أفكاره المتشعّبة عن الأخلاق والعشق والوفاء تتكدّس عند باب لا يتّسع إلا لملفّ واحد في كلّ مرّة.
كان يسمع خرير النافورة في الفناء، خافتًا، من خلف الجدار، ومعه صفيرًا رتيبًا من جهاز التكييف الصغير المعلّق فوق الباب. هذا الصفير، مع خيط الضوء، بديا له تدخّليْن غير مرحّب بهما: كأن الصمت الذي كان يأمله من الصحراء تعرّض لتقنية مفرطة؛ لا هو صمت خالص يصلح للتأمّل، ولا هو ضجيج المدينة الذي اعتاد أن يغرق فيه لينسى نفسه.
مرّت في ذهنه، بلا استئذان، أبيات لبعض العُذريّين الذين يذكرهم عادةً في هوامشه النقدية لا في مشاعره: حديثهم عن “الخلوة” و”الخلو” و”منقطَع السبل”. ضاق صدره على الفور، فانتهر تلك البادرة الناعمة من الخيال كما ينتهر طالبًا كتب فقرة إنشائية بدل إجابة دقيقة. شدّ قبضته فوق القلم في جيبه، واستقام أكثر، متعلّقًا بواقعة يمكن قياسها: عدد الساعات المتاحة للإنترنت، عدد الأيّام حتى الموعد النهائي، عدد الصفحات المتبقّية في الفصل الثالث.
«أسبوعان لضبط الإيقاع، لا أكثر،» قال في نفسه بالإنجليزية هذه المرّة، كأنّ تغيير اللغة يغيّر المزاج. رفع معصمه ينظر إلى ساعته، رغم أنه يعرف الوقت تقريبًا من زاوية الضوء على البلاط. حركة آلية، تستعيد إيقاع المدينة والجامعة وقاعات المؤتمرات حيث لا مفاجآت في الجداول إلا ما يصنعه الآخرون.
في هذا المكان، بدا له أنّ الذي سيصنع المفاجآت هو الصمت نفسه. ولهذا، حين شدّ على الدفتر بإصبعيه وأبعَدَه قليلاً عن حافة المكتب، فعل ذلك وكأنّه يثبّت شيئًا مألوفًا في وسط غرفة تحاول، بهدوءٍ تام، أن تعرّيه من عوائده.
أغلقت ساميرة الباب بنقرة هادئة حوّلت خرير النافورة إلى همس بعيد، ثم انزلقت حوله بنصف قوسٍ متمرّس، كأنّها تعوّدت على أن تتفادى الرجال الواقفين في منتصف مكاتبهم وهم يتمسّكون بدفاترهم مثل دروع صغيرة. تخلّف وراء حركتها أثر من عطر العود ممزوجًا برائحة القهوة بالهال؛ مزيجٌ دافئ، منزليّ على نحوٍ مستفز قليلًا لرجل جاء إلى هنا بحثًا عن “بيئة بحثية” لا عن إحساس صالون عائلي.
وضعت جهازها اللوحي قرب رزمة من المقترحات المجلّدة بعناية، فصفعته رؤية الأشرطة الملونة على الحواف: أحمر للداعمين، أزرق للفعاليات، أخضر للمشروعات “الإبداعية المشتركة” كما قرأ العنوان من بعيد. لحظتها، لانت في داخله مقاومة طفيفة، أشبه بانخفاض درجة التوتّر في كتفيه بدرجة واحدة لا يقرّ بها علنًا.
أشارت بذقنها إلى الترمس القابع بين كوبين ورقيَّين على الطاولة المنخفضة، ثم التفتت إليه بعينين فيهما بريق خفيف من الدعابة المحسوبة: «قهوة؟ أقوى من الواي فاي عندنا.» قالتها بفصحى مائلة إلى اليومي، ونبرة من يختبر إن كان ضيفه من أولئك الذين يبتسمون لهشاشة العالم أم يتجهّمون لكلّ عطبٍ صغير، كأنّها تزن بسرعة: هل هذا الأكاديمي قابِل لأن يضحك… ولو قليلاً… قبل أن نجرّه إلى خانة “الشراكات الإبداعية” على لوحها المعلّق؟
تبع إشارتها بعينيه قبل أن يتحرّك جسده. توقّفت النظرة لحظة عند فوّهة الترمس المعدنية، حيث تصاعد خيط بخارٍ رفيع كأنه سطرٌ غير مكتمل، ثم انزلقت إلى اللوح الفلينيّ المعلّق فوق المكتب. أسماء، ألوان، مربّعات، أسهم صغيرة. التقط بسرعةٍ حقلًا مستطيلًا كُتب فيه بخطٍّ منضبط: «د. رَفَح البَيْطاني – مكتبة / مسوّدة». إلى جانبه تواريخ، أسهم إلى قاعة الصلاة، إشارة صغيرة إلى «جلسة تعريفية مع الزملاء».
لم يكن يحبّ أن يرى اسمه معلَّقًا في العلن، لكنّ إحساسًا خفيفًا بالارتخاء مرّ عند جسر أنفه؛ على الأقل، أحدٌ هنا يفهم فضيلة التنظيم قبل وصوله. همس: «قليل فقط، من فضلك»، واستجاب لجاذبية الكرسي الوحيد ببطء محسوب، يطوي ركبتيه ويستوي في جلسته كما يجلس من يرفض أن يترك لجسده حرية التراخي ولو تحت لافتة «الراحة». ضبط زاوية الدفتر أمامه، قريبة من حافّة المكتب لا ملامسة لها، كأنه يرسم حدودًا دقيقة بين ضيافة الصحراء وملكيّته الوحيدة التي لا ينوي التنازل عنها: نظامه.
انسكب الخيط البنيّ اللامع في الكوب الورقي، مطلقًا دفعةً أشدّ من رائحة الهال في الغرفة الصغيرة، كأنّه يعلن افتتاح جلسة لا رجعة فيها. وهي تميل الترمس، تتأمّله فوق حافّة الكوب: ياقة القميص منغلقة رغم الحرّ، الأكمام مطويّة بعدل يكاد يكون هندسيًّا، القلم معلّق في الموضع نفسه الذي رأته في صورته على موقع الكلّية، كأنّ الرجل لا يبدّل ترتيب أدواته ولو تغيّر القَفْر من خلف النافذة. قالت، وهي تزحزح الكوب نحوه على سطح المكتب المزدحم بحركة من اعتادت التفاوض بين الأوراق والناس: «نحاول نخلي الإرباك… متوقَّعًا قدر الإمكان. الحرّ، شاحنات التموين، عاصفة رملية من فترة لفترة… كل شيء آخر أرتّبه أنا. ستكتشف أن مسوّدتك هنا تملك أعذارًا أقلّ بكثير مما تحبّ.»
ارتجفت زاوية فمه ارتجافة لا تكتمل ابتسامة، لكنها تكفي لتشقّ شرخًا دقيقًا في صلابته الأولى. أحاط بالكوب الورقيّ كأنه يمسك شيئًا أثقل من قهوة؛ حرارة الورق تتسرّب إلى مفاصله، فتستجيب كتفاه بانخفاض محسوب لا يعترف به. قال بنبرة جافّة مؤدّبة فيها خيط رفيع من انفراج: «إذًا نحن متَّفِقان.» للحظةٍ خاطفة، بين لوْيَة البخار الصاعد ونظرتها الهادئة التي تقيسه بلا استعجال ولا اعتذار، أدرك أن هذه المنسِّقة لن تكتفي بنقل المفاتيح والنماذج، بل ستضبط إيقاع أيّامه هنا، وأنّ شيئًا في مسافة بروده المحسوبة سجّل ذلك واحتفظ به بصمت.
حين سحبت الكرسي إلى الوراء وانزلقت إلى جلستها، أصدر الخشب تلك الهمسة الخفيفة على الحجر؛ ليست ضوضاء بقدر ما هي توقيعٌ شخصيّ على بداية العمل. مرّت نظرتها مرورًا خاطفًا على المربّعات والعلامات التي تركتْها مع الفجر لتضبط نهارها: جدول المناوبات على اللّوح الأبيض قرب الباب، أعمدة الأسماء والسهام الصغيرة التي تشير إلى من سيرافق الشاحنة ومن سيأخذ مجموعة المصوِّرين إلى الكثبان، قائمة الإمدادات المثبّتة عند زاوية المكتب بمشبك أسود، تتدلّى منها ورقة جديدة مكتوب أعلىها: «طلب إضافي – مياه / فواكه – زيارة المموّلين».
تتأكّد من أنّ صندوق الوارد الورقي مقلوب قليلًا على جانبه، في إشارة باتّفق عليها الجميع هنا أنّ «هذه الأوراق لليوم، ليس لغدٍ»؛ تلمح من طرف عينها مغلّفًا بنيًّا أزاحه أحدهم إلى الخلف بالأمس، فتعدِّل موضعه بإصبعٍ واحد من دون أن تنظر إليه مباشرة، كما لو أنّ إعادة الشيء إلى مكانه تكفي مؤقّتًا لتأجيل القرار المتعلّق به.
يمتدّ يدها آليًّا نحو طرف الوشاح الملتفّ حول رقبتها فتسوّي حافّته، حركة قديمة تشبه عادة قضم الأظافر لكنّها تعلّمت منذ زمنٍ أن تُخفيها في هيئة ترتيبٍ بسيط. تسحب القماش إلى الخلف قليلًا، تكشف عن خطّ عظام رقبتها وحافة القميص تحت العباءة، ثم تعيده إلى وضعٍ يسمح لها أن تبدو رسميّة بما يكفي أمام مموّلٍ محتمل، ومسترخية بما يكفي أمام مقيمٍ مرهق جاء من المدينة.
تتنفّس بعمقٍ واحد قصيرة، كمن يغلق ملفًّا ذهنيًّا ويفتح آخر، ثم تترك نظرتها تستقرّ أخيرًا عليه. تعبر عيناها سريعةً على الدفتر المرقّم، القلم المصطفّ بعناية مع حافّة الورقة، وضعية ظهره المستقيم على الكرسي كأنّه يحضر مناقشة علميّة لا جلسة تعارف إداريّة. في تلك اللحظة، يتبدّل شيء خفيّ في ملامحها: ظلّ ابتسامة يعرف طريقه جيّدًا إلى زوايا فمها، ودرجة إضافيّة من الحضور في صوتها حين تقول، وقد استقرت الآن في دورها كامِلًا: «طيب، دكتور رَفَح… نبدأ بالجدول أم بالعقبات المحتملة؟»
يتابع هذه الإيماءات الصغيرة بالدقّة نفسها التي يحتفظ بها عادةً لهوامش المخطوطات: الطريقة التي تدفع بها مصنّفًا مائلًا بإصبعين حازمين حتى يستقيم تمامًا مع حافة الرفّ قبل أن تجلس، النَّفَس القصير الذي تأخذه وهي تمرِّر عينيها على جرد المخطوطات المعلَّق، كأنّها تعيد ترتيب سلّم الأولويّات في رأسها في لحظة، من غير ورقة ولا قلم. الأكاديمي فيه يتعرّف فورًا إلى قرابةٍ غير معلَنَة: شخص آخر تعلّم أن يفرض شبكته الخاصّة على الفوضى، لا أن يختبئ منها.
يلحظ أنّها لا تراجع العناوين كموظّفة تُحصي ممتلكاتٍ مجهولة، بل كمن يعرف تقريبًا أين يوجد كلّ شيء، وماذا يعني غيابه لو فُقِد. في خطّ حركة يدها وهي تمرّ قرب ملفٍّ أحمر بعينه، يلتقط أثر تردّدٍ خافت: هذا ملفّ يسبِّب لها صداعًا، يقرِّر بلا وعي أن يربطه بعبارة «زيارة المموّلين» التي لمحها على الورقة المتدلّية. الرجل الذي تمنّى «منسِّقة شفّافة» لا حضور لها سوى في رسائل المتابعة يضبط نفسه وهو يحفظ، باحترامٍ متحفِّظ لا يعترف به، أنّ هذه المرأة تدير هذا المكان بإحكامٍ لا يقلّ عن إحكامه هو في ضبط الحواشي وملاحق المراجع.
«لقيت كلّ اللي تحتاجه البارحة؟» تسأل وهي تمدّ يدها إلى الشاشة المسطَّحة على جانب المكتب، تلمسها لمستين سريعتين حتى يخرج من سباته زرّ أخضر صغير، ثم تنزلق بأصابع خبيرة إلى ملفّ إقامته. تأتي الإجابة على شكل «نعم، شكرًا»، قصيرة مهذّبة، بوزن جملة أُغلِق بابها قبل أن تُكمِل طريقها. لا يذكر أنّه قضى نصف الليل يراقب الخيط الرماديّ من ضوء القمر على حافّة مكتبه، يعيد ترتيب مخطّط محاضرته القادمة في رأسه بدلًا من ترتيب وسادته.
تلتقط من اقتصاده في الكلام ما تحتاجه: هذا رجل لا يقدِّم إشاراتٍ صغيرة ليفتح مسافةً آمنة للدردشة. تعدِّل في اللحظة نصَّها الداخلي: مزيد من «خطة عمل»، أقل من «كيف وجدت الصحراء؟»؛ أقلّ جسور دفء، أكثر أعمدة جدول.
تنزل عيناها إلى دفتره، تعبران بسرعة محسوبة على الألسنة الملوَّنة، العناوين العربيّة المضبوطة سطرًا سطرًا، الهوامش الضيّقة التي لا تترك فراغًا عشوائيًّا واحدًا، ثم تعودان إلى وجهه مع ميلٍ خفيف في الرأس، كأنّها تعاير ميزانًا داخليًّا. «واضح إنّك راسم أسبوعك بنفسك»، تقولها بنبرة خفيفة، لا فيها سخرية ولا مبالغة في الإعجاب، بل إقرار هادئ بأنّها التقطت حاجته للضبط، ومستعدّة، مبدئيًّا، أن تبني بدقّتها فوق دقّته بدل أن تهدمها.
يهزّ رأسه إيماءةً قصيرة تكاد تكون دفاعيّة، وإبهامه مستقرّ على عصب الدفتر كأنّه صكٌّ لا يريد لأحدٍ أن يوقّعه سواه. في داخله يعيد صياغة فرضيّته الأولى: هذه ليست «منسِّقة نماذج جاهزة»، بل مفاوِضة ستناقش الجدول بندًا بندًا، وتتوقّع منه أن يلتقيها في المنتصف. الاستنتاج ينزل بينهما كصفحةٍ غير مرئيّة على سطح المكتب، نصّها الضمنيّ أنّ فاعليّتهما هنا لن تُقاس بعدد الساعات، بل بمدى قدرة كلٍّ منهما على تحمّل هندسة الآخر للعالم، من غير أن ينسفها أو يستسلم لها تمامًا.
يتتبَّع بعينيه الكتلَ النظيفة التي رتّبتها على الشاشة: ساعات كتابة، وصولًا حصريًّا إلى المكتبة، فترات استشارة قصيرة مع الضيوف والباحثين. النسقُ منضبط بما يكفي ليُقلقه؛ كأنّ أحدًا آخر مدّ يده إلى ساعته الحيويّة وأعاد برمجتها من غير إذنه. يقرّب الكرسي مسافة سنتيمتر واحد إلى المكتب، يفتح دفتره الجلديّ على صفحة جديدة، والقلم مرفوع فوق السطر في وضع استعداد، لا في وضع قبول.
«جلسات الفجر هذه»، يقول وهو يميل قليلًا إلى الأمام، يشير برأس القلم إلى عنقود مربَّعاتٍ ملوَّنة، «تقتطع من نافذة الصياغة الأساسيّة عندي أكثر ممّا يجب.» الجملة مُصاغة بعربيّة مهذّبة، نبرةُ من تعوّد أن يدافع عن حواشيه في اجتماعات لجانٍ لا ترحم، لكنّها تحمل صلابة مَن يرى في كلّ ساعةٍ تُنقل من مكانها فقرةً ستُحذَف من كتابه.
لا يرفع عينيه فورًا إليها بعد الكلام؛ يترك للحبر الافتراضيّ أن يجفّ على الهواء. في ذهنه، الجدول الذي رسمه لنفسه قبل أن يصل إلى القصر: بين الفجر والشروق مسوَّدة فصلٍ كامل، لا اجتماعات، لا تبادل مجاملات على القهوة، لا «جلسة تواصل» مع أحد. تلك الساعات، كما يعرف من سنوات كتابةٍ معطوبة، هي الجزء الوحيد من اليوم الذي لم تنتصر عليه رسائل البريد ولا هواتف الأقارب ولا الطلبة المذعورون.
يضع نقطةً صغيرة غير ضروريّة في الهامش، كأنّها فاصلة قائمة تحرس منطقه، ثم يضيف، بنبرة ما زالت هادئة ولكن أقلَّ مرونةً ممّا قد يقتضيه جوّ «الانسجام المؤسّسيّ» الذي تحاول بناءه: «إنْ اضطررنا، يمكنني نقل الاستشارات إلى ما بعد المغرب. الهدوء موجود هناك أيضًا، دون أن نخسر ذروة الإنتاج.»
ما لا يقوله: إنّ «ذروة الإنتاج» عنده ليست مجرّد لفظة إداريّة، بل الطوق الأخير الذي يضعه حول نفسه كي لا ينفلت إلى أيّ شيءٍ آخر، بما في ذلك الصحراء اللامعة خلف النافذة، أو العينان المقابلتان له الآن، تراقبان الحركة الهادئة لذلك القلم المعلَّق بين القبول والاعتراض.
لا تهتزّ. تمرّ أناملها على العمود نفسه، ثم تنزلق إلى الذي يليه، كأنّها تتتبّع خللًا في وزن بيت شعر. «وبلوكات العزلة الأربع ساعات هذه»، تقول بهدوءٍ لا يخلو من حدّةٍ محسوبة، وتربّت بطرف القلم على مستطيلٍ رماديّ، «تتركنا من غير أيّ مساحة لجولات الموقع التي يصرّ عليها المجلس، ولا لجلسات المجتمع المحلّي. إحنا مش أرشيف مغلق يا دكتور رفاف.»
اللقب يخرج من فمها مصقولًا، رسميًّا تمامًا، لكنّ النبرة لا تترك له المهرب المعتاد إلى المبدأ المجرّد. عيناها ثابتتان في عينيه، لا وقاحة فيهما ولا خجل؛ فقط دعوة صريحة لأن يعترف بأنّ هذا القصر، الذي جاءه ليتحصّن فيه بحروفه، يعيش ضمن شبكةٍ من أعينٍ وتوقّعاتٍ وألسنةٍ لا يمكن حذفها من المعادلة بجرّة قلم.
يلتقط في استعمالها لجمع «إحنا» ما يشبه إعادة كتابة سريعة لدوره: ليس «باحثًا نزيلًا» وحسب، بل جزءًا من «نحن» تحتاجه كي تبرّر وجود المكان كما تبرّر هي وجوده للّجنة. للحظةٍ عابرة، يراها لا كإداريّة تعترض على جدول عمله، بل كمن تحاول أن تُقنع مجلسًا كاملًا بأنّ العزلة التي يطالب بها لا تُلغِي واجب الضيافة، وأنّ كتبه، مهما علت رفوفها، لا تستطيع أن تنفصل تمامًا عن الأقدام التي تمشي في هذا الرمل، وعن الوجوه التي تنتظر قصصًا تُروى لا مجرّد هوامش تُكتب.
يتمدّد الصمت بينهما لحظةً كثيفة، لا يقطعها إلاّ فحيحٌ خافت لمكيّف الهواء، وهمس نافورة الفناء يتسلّل من الشقّ السفليّ للنافذة كآيةٍ تتلى بلا صوتٍ واضح. يرفع يده إلى النظّارة، يدفعها درجةً أعلى على جسر أنفه بحركةٍ آليّة، ثم يهبط بالقلم على دفتره بخطّ مستقيم واحد يمحو ملاحظةً كان قد دوّنها بإصرار الليلة الماضية. الخطّ ليس تراجعًا عشوائيًّا، بل شطبٌ مدروس لنصف ساعةٍ من «قداسة الصباح».
«حسنًا»، يقول بعد زفرةٍ قصيرة بالكاد تُسمَع، كأنّه يوقّع تنازلاً قانونيًّا لا مجرّد تعديلٍ إداريّ. «ننقل هذه الزيارات إلى آخر العصر؛ بعد ذروة الحرّ، وقبل نداءات المغرب.»
تخرج الجملة موزونة، مشغولة كما لو كانت سطرَ حاشية، لا قرارًا حياتيًّا، لكنّ الدقّة فيها تكشف عن طبيعة التنازل: تنازل جراحٍ يغيّر وقت العمليّة لا مبدئها، يعطيهم منفذًا محسوبًا إلى يومه من غير أن يسلّم لهم بالمفتاح كلّه.
تهزّ رأسها مرّةً واحدة، وتعيد ترتيب الجدول على الشاشة وفق اقتراحه، نقراتُ أصابعها الخفيفة على اللوح الزجاجيّ تبدو كختمٍ هادئ على معاهدةٍ لم تُصَغ بعد على الورق. «مقابل ذلك»، تضيف وهي لا ترفع عينيها عن الأعمدة، «تحضر جلسة الدائرة المفتوحة في الفناء كل أسبوع. المجلس يريدك حاضرًا، مش بس اسم على باب غرفة.» نبرتها تقريرية، بلا رجاءٍ ولا اعتذار، لكنّ شيئًا في ذلك السكون القصير بين الجملتين يشي بفضولٍ متكتَّم: كيف سيبدو صوته إذا اضطرّ أن يتكلّم بصفة «رafah الإنسان» لا «الدكتور المراجع للنصوص»؟
تشدّ فكّه عند كلمة «مرئيّة»، كأنّها تطلب منه أن يُعرض لا أن يَعرِض نصوص غيره، ومع ذلك يلتقط في المصطلح نفسه صفقةً ضمنيّة: فسحةُ عملٍ أوسع مقابل أن يخطو، أحيانًا، إلى مسرح القصر الحيّ. «مرّة في الأسبوع»، يقرّر، وهو يدوّنها كأنّه يثبت بندًا في عقد وقفٍ لا يُمسّ. في تلك اللحظة، يتفلّت البرنامج من كونه إملاءً أحاديًّا ليتحوّل إلى عقدٍ مُفاوَض عليه؛ مخطّطٍ هشّ لكيف سيتجاور نظامه القاسي مع هندستها المرنة، من غير أن ينهار أيٌّ منهما فوق رأس الآخر.
تدير اللوح نحوه بالكامل، فيستقرّ بينهما كحاجزٍ من ضوءٍ بارد، أو كحكمٍ مكتوب لا يعلو عليه صوت. تتراصّ الأسماء على الشاشة بخطٍّ هندسيٍّ لا عاطفة فيه: «رفاح البيطاني» فوق «سميرة الحديد»، أو إلى جوارها، لا يهمّ؛ المهمّ أنّهما لا يظهران منفصلَين في أيّ سطر. تمتدّ الأسماء كخيطٍ رفيع عبر البرنامج المقترَح: «جلسة مشتركة: أخلاقيّات الوفاء»، «حوار في الحبّ والشرف»، «حديث الصحراء مع باحثَين في شراكة».
كلّ عنوانٍ منها يلمِّح إلى نوعٍ من الألفة قضى سنواتٍ يحصره بين دفّات الكتب، يعالجه في الحواشي لا في حياته. الآن يراها مكتوبةً كفقرة تعريفٍ في بروشورٍ لامع، محاطةً بأيقوناتٍ ملوّنة لميكروفوناتٍ وكراسٍ مصفوفة، كأنّ الحبّ والشرف و«الشراكة» بنودُ برنامجٍ مسائيّ يمكن ضبطه بضغطات أصابع.
تلمح عينه تفاصيل صغيرة كان سيغفلها لو لم يكن مدرَّبًا على القراءة الدقيقة: الاسم الأوّل في أعلى الصفحة هو اسمُه، لكنّ البريد الإلكترونيّ للتواصل هو بريدها؛ صورةُ القصر في الخلفيّة تتضمّن ظلّين يسيران متجاورَين على حافّة الكثبان، بلا ملامح محدَّدة، غير أنّ هيئة الجسد الأطول تُشبهه على نحوٍ مزعج. في زاوية الشاشة، شعارُ المؤسسة يتعانق مع شعارِ شركة محمود، وأسفلَه سطرٌ ترويجيّ متواضع: «حيث تتلاقى الشراكات الإبداعيّة مع إرث القافلة القديمة».
يتوقّف بصره عند صياغةٍ بالإنجليزيّة في أسفل الصفحة، صغيرة لكنّها واضحة
بما يكفي:
Partners in Residence.
الكلمة تصفعه بخفّة: شركاء. ليس «زميلًا زائرًا»، ولا «أستاذًا محاضرًا»، بل جزءٌ من صيغةٍ مزدوجة، صيغةٍ تفترض، سلفًا، انسجامًا إن لم يكن مودة. يشعر بانقباضٍ خفيف في صدره، انزعاجًا من أنّ البرنامج يصوغ له حياةً لم يستشره فيها أحد، حياة يتسرّب فيها ضمير «نحن» إلى يومٍ بنى جدوله على «أنا» المفردة بعنايةٍ هندسيّة.
يلاحظ، بحدس القارئ المحترف لا بعين الموظّف المطواع، أنّ ما أمامه ليس مجرّد قائمة نشاطات، بل سرديّة مصغَّرة عن ثنائيٍّ يعمل ويتجوّل وينصح ويتكلّم «معًا». سرديّة وُلدت في شاشةٍ مضيئة، لكنّها، إن وافق، ستتسرّب إلى الفناء، إلى الممرّات، إلى نظرات العمّات والعموم والمانحين، وإلى تلك الزاوية في نفسه التي أقسم، منذ سنوات، أن تظلّ بلا شريك.
تحت العناوين، يمتدّ عمودٌ أنحفُ بخطٍّ أكثر حدّة، يربط كلّ فعاليّةٍ بسلسلةٍ من
النتائج المرجوّة: «مؤشّرات المرئيّة»، «رضا أصحاب المصلحة»، وعبارةٌ ثالثة
أكثر فجورًا في صراحتها: تجديد منحة المكتبة، ملوَّنًا بالأحمر إلى جوار جملةٍ
إنجليزيّة لا تخطئها العين:
contingent on demonstrable collaborative synergy.
يقرأها أوّل مرّة بعين المترجم: «مشروط بانسجامٍ تعاونيٍّ قابلٍ للإثبات». لا يعترضه الاصطلاح ذاته بقدر ما يزعجه أنّ «إثبات» هذا الانسجام لا يمرّ عبر الهوامش والمراجع، بل عبر مشاهد ملموسة يمكن عدّها وتصويرها: عددُ الجلسات المشتركة، الصور المنشورة في حسابات المانحين، مقاطع الفيديو القصيرة التي يظهران فيها متجاورَين أمام رفوف الكتب.
السطر القصير يفضح، ببساطةٍ محاسبيّة لا عاطفة فيها، أنّ اجتهاده الفرديّ قد حُوِّل سلفًا إلى وحدة قياسٍ داخل معادلة مزدوجة. كأنّ ساعات قراءته المنعزلة، تلك التي انتزعها طوال السنوات من جسده ونومه، لا تصبح ذات قيمةٍ قابلةٍ للتحويل إلى رقم في ميزانيّةٍ إلا إذا صيغت على هيئة «ثنائيٍّ» يمكن تسويقه.
يدرك، ببرودةٍ أكاديميّةٍ لا تخلو من وخزة، أنّ ما أمامه ليس جدولاً فحسب، بل دفترَ حسابٍ تُقَيَّد فيه حياته العلميّة بعملةٍ اسمها: الشراكة.
تتابع حركة عينيه، نزولهما البطيء على السطور، فتدرك اللحظة التي يشتبك فيها انزعاجه مع فضولٍ حذر. تختار كلماتها كما يختار دليلُ قافلةٍ مسارَه بين كثبانٍ متقلّبة. تذكّره، بنبرة موظَّفة أكثر منها ابنةَ العائلة، بأنّ سياسة المؤسّسة صارمةٌ في ما يخصّ «العلاقات العاطفيّة» بين المقيمين والطاقم؛ ما تقترحه، تؤكّد، ليس علاقةً بل «تنسيق حضور».
«نحن لا نتجاوز الخطّ»، تقول وهي تشير إلى عمود «المخاطر» في وثيقةٍ أخرى على الشاشة، «نحن نرسمه فقط بطريقةٍ تُريح المجلس». تشرح أنّ ما يُطلَب منه ليس حميميّةً بل كوريغرافيا سلوكيّة: قربٌ محسوب في الممرّات، لغة جسدٍ يمكن قراءتها كـ«انسجام مهنيّ»، وتأكيدٌ مدروس لعبارة «تفاهم شخصيّ» لا يتجاوز، رسميًّا، حدود المجاملة.
تضيف، بقدرٍ من السخرية الجافّة، أنّ المجلس يحبّ قصص «الانسجام الملهم» أكثر ممّا يحبّ لوائح القراءة. «هم يريدون أن يروا أنّ المكتبة لا تعيش على الغبار وحده»، تقول، «بل على ثنائيّاتٍ يُمكن وضعها في النشرات السنويّة». ثمّ ترفع نظرها إليه، كأنّها تعرض عليه وظيفةً إضافيّةً غير مدفوعة الأجر: أن يتحمّل، فوق عمله في النصوص، دورَ «النصف الآخر» في حكايةٍ عامّة، مكتوبة بلغةٍ لا يعترف هو بشرعيّتها إلّا على الهامش.
تشرع، بنبرةٍ عمليةٍ لا تحتمل الالتباس، في رسم المشهد له جزءًا جزءًا: جولات المانحين حيث يسيران معًا في الممرّات كـ«مضيفَين مشاركَين»، لا كباحثٍ وناظمة برنامج، محطّات الشرح موزَّعة بحيث يتلقّف أحدُهما جملةَ الآخر بلا فراغٍ يُذكَر. جلساتُ بعد الظهر تُصفُّ فيها الكراسيّ بحيث لا يمكن النظر إلى واحدٍ منهما دون أن يقع البصر على الثاني، ثمّ أمسيةٌ واحدة موصوفة في المسوّدة الإنجليزيّة بـ marquee event، «ذروة حوارٍ متواصلٍ بينهما»، تُسوَّق على أنّها خلاصةُ ما دار خلف الأبواب المغلقة. تشير إلى ملاحظاتٍ جانبيّة من المجلس عن «الكيمياء» و«الانسجام الملهم»، وتصرّح، كأنّما تقتبس قرارًا إداريًّا نهائيًّا، بأنّ الحكايات عن ثنائيّاتٍ متناغمة تُباع أسرع بكثيرٍ من صورة عالمٍ وحيد، وأنّ كلّ ترتيبات الزيارة، من خطّ السير إلى العناوين، قد شُيِّدت سلفًا على هذا الافتراض.
يتسلّل إليه شعورٌ غريب بأنّ اسمه لم يعد اسمَ فردٍ بل نصفَ تركيبٍ ثابت، كحرفٍ لا يُكتَب إلا مشبوكًا بما بعده. يلمح، عند حوافّ الشاشة، الآثار العمليّة لذلك: خططُ النقل، توزيعُ الغرف، بطاقاتُ التعريف… كلّها تفترضُه واقفًا إلى جوارها. عزلته، في الأوراق على الأقل، صارت صنفًا لم يعد متاحًا منفردًا.
يتابع التمرير، ينقر بأسفل الصفحة فيصعد جدولٌ آخر بألوانٍ مطمئِنة أكثر ممّا ينبغي: مربّعاتٌ بلونٍ رمليّ خفيف معنونة بـ «جلسة حوار ثنائي»، أخرى بلونٍ عنبريّ لـ «لقاء عشاء مع المانحين»، وسطرٌ مسطَّر بخطّ أعرض قرب الغروب: «حوار عند المغيب حول الوفاء». اسمان فقط يردان في كلّ هذه المربّعات، متجاورَين كأنّ برنامجًا آليًّا رفض أن يفصل بينهما: «س. الحداد / ر. البيطاني».
يمرّ بإبهامه على صفحة العشاء الرسميّ، فيقرأ الملاحظة الصغيرة أسفلها: «يُفضَّل جلوسهما في منتصف الطاولة، بما يتيح للضيوف ملاحظة التفاعل بينهما». يشعر، للحظةٍ عابرة وسخيفة، وكأنّ أحدًا سوّق له نفسه كجزءٍ من باقةٍ ترويجيّة: إقامةٌ في الصحراء، مكتبةٌ مجدَّدة، و«ثنائيٌّ مُلهِم» يُقدّم على الطاولة مع طبقِ المقبلات.
كلّ سطرٍ يمرّ به يثبّت الإحساس نفسَه: أنّ حكايةً كُتبت حوله سلفًا، دورًا وزمنًا وإضاءةً، وأنّه مدعوٌّ الآن فقط لحفظ نصٍّ لم يشارك في صياغته. تشتدّ عضلة الفكّ مرّةً، ثمّ أخرى؛ انقباضةٌ صغيرة لا علاقة لها بحرارة الجوّ، تفضح ما ظلّ صوته، إلى الآن، ممسكًا عنه.
في هامش إحدى الجلسات يقرأ: «يُستحسن إظهار الانسجام الشخصيّ دون مبالغة». يرفع حاجبًا لا إراديًّا. من الذي يقرّر مقدار «الاستحسان» هذا؟ أيُّ لجنةٍ غير مرئيّة تهندس له مسافة الجلوس، ودرجة الانحناءة حين يصغي، وزاوية الابتسامة حين تقاطعه؟ حتى المسافة بين اسمه واسمها على الشاشة تقلقه: لا فاصلة، فقط شرطةٌ مائلة، كأنّ حياته الأكاديميّة يمكن أن تُختصر في صيغة «هو/هي» ذات استعمالاتٍ شتّى.
يُدرك، على نحوٍ ساخرٍ أكثر منه مذعور، أنّ عزلتَه ـ تلك التي تعب في حراستها سنوات ـ قد أُدرِجت ضمن خانة «غير متوفّر منفردًا» في جداول المؤسّسة. صارت، على الورق أقلّه، خيارًا لا يُقدَّم للضيوف إلا مرفقًا بوصفٍ إضافيّ: «يُرى أفضل في سياقٍ ثنائيّ». يعود بصره إلى الشاشة، ثمّ ينزلق بلا وعيٍ نحو خريطة الكثبان المعلّقة على الحائط؛ يتتبّع بعينه خطَّ مسارٍ حجريّ، كما لو أنّه يبحث بين تلك التعرّجات عن مخرجٍ واحد لا يتلوه، فورًا، اسمُ أحدٍ سواه.
«إذن أنتِ تقترحين أن نتظاهر بأنّ بيننا… شيئًا أكثر من الزمالة
فحسب.»
تخرج الجملة متأنّية، يُسمِع فيها هو نفسَه قبل أن يسمعها لها، والتوقّف القصير
عند «أكثر» يُثقِل الهواء بما امتنع عن تسميته صراحةً. تختار أذناه الحياد،
لكنّ نبرته تقترب من درجة تعقيمٍ لغويّ، كأنّه يجرّد الفكرة من أيّ حرارةٍ محتملة
عبر إحالتها إلى بندٍ إداريّ في نموذجٍ رسميّ. لا يقول «علاقة»، لا «ارتباط»،
لا «حبّ» بالطبع؛ يلتفّ حول الكلمات كما يلتفّ المرء حول بئرٍ يخاف أن يطلّ فيها
فيرى ملامحه مشوَّشة في قاعها.
لا يلتفت نحوها وهو يتكلّم، كأنّ الاعتراف يزداد حقيقةً إذا وُجِه له وجهٌ يسمعه. عيناه تستقرّان على خريطة الكثبان المعلّقة على الجدار، يتتبّع بخطٍّ بصريٍّ صامتٍ مسارًا حجريًّا محفوفًا بنقاطٍ صغيرة، كما لو أنّ الخطّ يخفي إمكانيّة مخرجٍ لم تُسجَّل في الجدول أمامه. يركّز على أسماء التلال، على الأرقام الصغيرة في الزوايا، على أيّ شيءٍ يمكن أن يُقنِعه بأنّ المسألة، كلّها، لا تعدو كونها مجرّد سوء تنسيقٍ زمنيّ يمكن تعديله، لا خطّةً كاملة تطلب منه أن يشارك جسده واسمه في تمثيلٍ اجتماعيّ رسميّ.
«أنا لا أقترح تمثيلًا رخيصًا،» تقول، تشبك أصابعها فوق سطح المكتب، كأنّها توضَع الحدود قبل أن تُفتَح المفاوضة، «بل أن نسمح للناس أن يقرأوا ما يفضّلون قراءتَه… ضمن إطارٍ نحكمه نحن، لا هم.» تتعمّد الوقوف عند «نحكمه نحن»، كأنّها تذكّره بأنّ الخيار ليس بين الصدق والكذب، بل بين قصّةٍ يكتبانها سويًّا وأخرى تُفرَض عليهما من الخارج.
«بهذه الطريقة،» تتابع، وقد استقرّت نبرتها عند درجة هدوءٍ لا تُشبه الاستعطاف في شيء، «مخطوطك يخرج كاملًا، ومكتبتنا تبقى مفتوحة بعد اجتماع الميزانيّة المقبل. البقيّة زينةٌ اجتماعيّة لا أكثر.»
تسقط كلمة «المكتبة» بينهما كتكليفٍ شرعيّ، تستدعي ظلَّ أمّه ووعوده القديمة لنفسه. يضيق هامش الاعتراض فجأة؛ كيف يرفض ترتيبًا يَصون الكتب ويُعرّض، في الوقت نفسه، صورته الشخصيّة لبعض الاهتزاز؟
ثباتها ـ الذي لا يتزحزح أمام حدّة نبرته، ولا يتكلّف اعتذارًا عن الاقتراح ـ يقلقه أكثر من الاقتراح نفسه. اعتاد أن يتراجع الناس خطوةً إلى الوراء حين ينقبض فكه، أن يغيّروا الموضوع إلى طقسٍ أو مواعيد محاضرات؛ أمّا هي فتتلقّى اعتراضه كما لو أنّه بندٌ إضافيّ في جدولٍ يمكن التفاوض عليه، لا صفّارةَ إنذار. للحظةٍ خاطفة يشعر بأنّه هو المعروض على الطاولة، كأنّها تفهرس ردود فعله بهدوءٍ علميّ، تحفظ شدّة كلّ كلمة وطول كلّ صمت، بالعناية نفسها التي يخصّ بها هو حواشي المخطوطات. الإدراك يحرّكه آليًّا؛ يستقيم في جلسته، يقرّب دفتره نحوه كحاجزٍ ورقيّ صغير، ويشدّ على القلم أكثر ممّا يلزم، كأنّ الدقّة في القبضة يمكن أن تمنع تسلّلها إلى ما وراء أسطره المرتَّبة.
من جهتها، تؤكّد لها تلك القسوة المسطَّحة، شبه المعقَّمة، في رفضه لأيّ «إطار رومانسي» ما كانت ترجوه سرًّا: رجل مغلق العاطفة، مفتوح الضمير، أقلّ عُرضةً لخلط التمثيل بالرغبة. ومع ذلك، يلامسها في صيغته شيء مزعج؛ هذه الفكرة عن الحبّ كملوِّثٍ يجب إبقاؤه خارج المعمل النصّي، توقِظ في صدرها غبار غضبٍ قديم على رجالٍ يحمّلون العالم مهمّة التكيّف مع هشاشتهم المقنَّعة. تُزِيح الخيط جانبًا بصرامةٍ مهنيّة، تذكّر نفسها أنّها هنا مديرة لا مُعالجة، لكنّ الوخزة الخفيفة تبقى، كالرمْل الناعم العالق في حاشية كمٍّ مُرتَّب.
تمدّ أمامه نموذج «خطة انخراط المقيم»، تُسوّي حوافيه مع حافّة المكتب بدقّةٍ لا يقرؤها إلا شخص اعتاد العيش بين الجداول الزمنية. تفتح القلم بنقرةٍ قصيرة، ثم ترفع نظرها نحوه كأنّها تنبّهُه: الآن نغادر باب النظريّات إلى ممرّ التفاصيل الصغيرة التي لا يلاحظها أحد… إلا مَن يَعيش داخلها.
«الفطور،» تقول وهي ترسم مربّعًا صغيرًا، «مرّتين في الأسبوع على الأقلّ، في الساحة. الطاولات قريبة من ممرّ المكتب الإداري، هذا يسهّل على الجميع أن… يلحظكم دون قصد.»
يستمع وهو يراقب كيف تتحوّل حياته المقبلة إلى نقاط تعداد:
- «الاثنين والخميس،» يقترح آليًّا، «قبل أن ترتفع الحرارة كثيرًا.»
تدوّن: «فطور مشترك في الفناء، الاثنين/الخميس، حضور مرئي، مدّة لا تقلّ عن
نصف ساعة.»
ينتقلان إلى «جولات الغروب». تشير إلى خريطةٍ للدروب المعلَّمة خارج القاعة. «في أيّام زيارات المانحين، نحتاج إلى مرورٍ واحدٍ على الأقلّ قرب الخيمة الرئيسة وقت الغروب. مشيًا، لا سيّارة. يُفضَّل طريق «لسان الرمل»؛ المنظر هناك… فوتوجيني.» تبتسم ابتسامةً جافّة على الكلمة الأخيرة، كأنّها تعتذر للغة العربيّة عن هذا الاقتحام الأجنبيّ.
هو يكتفي بهزّة رأس، فيُترجِمها قلمها إلى: «نزهة غروب مشتركة في أيّام الفعاليات، مسار ظاهر، سرعة بطيئة تسمح بالملاحظة.» يشعر، على نحوٍ سخيف، بأنّ سرعة مشيه أصبحت الآن بندًا إداريًّا.
«الباب،» تقول، مشيرةً إلى المكتبة هذه المرّة. «من الطبيعي أن تمرّ كلّ يوم تقريبًا. لو توقّفت أحيانًا لثوانٍ، كأنّي أسألك عن تقدّم العمل… أو أذكّرك بالاستراحة، سيبدو ذلك… بشريًّا بما يكفي.»
«تقدّم العمل لا يحتاج إلى شهود،» يتمتم، ثم يلاحظ أنّ اعتراضه، بصياغتها، يتحوّل إلى مجرّد ملاحظة ضمن سياقٍ أوسع لا يغيّره. تُسجّل ببساطة: «توقّف قصير عند باب المكتبة/المكتب، تبادل ملاحظات مقتضبة بصوتٍ منخفض.»
كلّ عنصر يُقال بنبرةٍ محايدة، لكنّ تراكمها يتسلّل إلى جوفه كإحساسٍ بغرفةٍ مفروشة سلفًا ينتقل للسكن فيها: فطور «مشترك»، خطوات «مشتركة»، صمتٌ «مشترك» عند بابٍ واحد. تبدو الورقة، للحظات، وكأنّها ليست خطّة تمويل، بل مسوّدةُ مذكّراتٍ ليوميّاتٍ لم تُعَش بعد؛ تاريخٌ زوجيٌّ مكتوب مسبقًا بقلمٍ أسود، ينتظر فقط أن يُملأ بما لن يسمح لنفسه أن يعيشه.
حين يصِلان إلى مسألة «كيف» سيُسمّيان بعضهما أمام الآخرين، تتباطأ حركة قلمها فوق الورقة، دائرةٌ صغيرة من الحبر تكاد تتكوّن ثم تُمحى بسحبةٍ سريعة.
«زملاء»…» تقول بالعربيّة الفصحى، كأنّها تختبر اللفظة على لسانها، «جافّة
جدًّا. كأنّنا في اجتماع مجلس إدارة.»
تبتسم لنفسها، ثم تزيد بنبرةٍ أخفّ: «شركاء… في مبادرة؟» تبدو الكلمة الأخيرة
وكأنّها خرجت من عرضٍ تقديميّ في فندقٍ مكيَّف، لا من زوايةٍ قديمة في قلب
الصحراء.
يردّ من دون أن يرفع رأسه تمامًا: «متعاوِنون.» وحين يسمعها بصوتها، يدرك أنّها عارية أكثر ممّا ينبغي؛ تصف ما يفعلانه لا ما يُتوقَّع أن يشعر به الناس تجاههما.
«كلمة باردة،» تعلّق، ثم تسكت. ينساب صمتٌ قصير، لا يقطعه سوى أزيز المكيّف ونبض ساعتِه المعصميّة. في النهاية تكتب ببطءٍ محسوب: «شريكان إبداعيّان». الحروف منحنية، أنيقة، كأنّها تحاول أن تمنح العبارة مظهر علاقةٍ حيّة لا مجرّد صفقة.
يتردّد طرف قلمها لحظةً أخرى، ثم تضيف بين قوسين، بخطٍّ أصغر تحته: «تفاهمٌ طويل الأمد». التورية تستقرّ على السطر كابتسامةٍ ملغزة: نصفها مزحة إداريّة، ونصفها وعدٌ لا يجرؤ أيٌّ منهما على نسبِه إلى نفسه. يشدّ هو على قلمه، يشعر بأنّ العبارة، بهذا الغموض المقصود، أخطر من أيّ إعلانٍ صريح؛ كلمة «طويل الأمد» وحدها تمتدّ في خياله زمنًا أبعد كثيرًا من تاريخ مغادرته المقرَّر.
يُضبَطان الحدود بالصرامة نفسها التي ضبطا بها المواعيد والمسارات. تشير بطرف القلم إلى فراغٍ جديد في أسفل الصفحة: «لا مظاهر… عاطفيّة في العلن. أقصى ما يمكن: لمسة خفيفة على الذراع، أو نظرة نتقاسمها إذا اضطررنا.»
يهزّ رأسه، خطّان يقترنان بين حاجبيه. «ولا قصص مختلَقة عن ماضٍ مشترك تخالف سيرتي المنشورة. لا أستطيع أن أكون شخصين في وقتٍ واحد، حتّى من أجل المانحين.»
تدوّن عبارته تقريبًا كما قالها، ثم يضيف، بنبرةٍ أكثر حزمًا ممّا توقّع من نفسه: «ولا أيّ إشارة إلى خطط زواجٍ مستقبليّة أمام عائلتك.»
تتردّد لحظة، ثم توافق: «طبعًا.» تكتبها نصًّا، وتزيد تحتها: «حظر مناقشة الترتيب مع باقي المقيمين. في العلن: تعاون مهني فقط.»
تتأمّل الورقة، ثم ترسم آخر مربّع: «حقّ اعتراضٍ متبادل على أيّ ارتجال.»
يروق له المصطلح؛ يشبه اتفاقًا نقديًّا أكثر منه حيلة اجتماعيّة. لوهلةٍ وجيزة، يشعران أقلّ كمتواطئَين وأكثر ككاتبين يُدافِعان عن انسجام النبرة واستقامة السرد، حتّى لو كان السرد نفسه كذبةً مُتَّفَقًا عليها.
تُدخِل الورقة في ملفّ شفّاف، تُربّت حافّته على سطح المكتب حتّى تستقيم، كأنّ استقامة البلاستيك ضمانٌ أخير لسيطرةٍ هشّة على ما اتُّفِق عليه. تلك الإيماءة الصغيرة، الحاسمة، تبعث فيه طمأنينةً لا يعترف بها. المصافحة التي تليها رسميّة تمامًا، لكن برودة كفّها الجافّة، وضبط ضغط قبضتها كأنّهما معايرة دقيقة لجهازٍ حسّاس. ينتبه، على مضض، إلى أنّ جسده حفظ هذه البيانات قبل عقله. حين يفلت يدها، ينسحب نظره ـ ضدّ رغبته ـ إلى السطر الثاني في النموذج: «شريكان إبداعيّان (مبدئيًّا)». الأقواس الصغيرة تُزعجه أكثر من العبارة نفسها؛ كأنّها هامش تحذير قانونيّ لا يملك وقتًا لقراءته الآن. يشعر، بحسٍّ أكاديميّ يعرف العقود جيّدًا، أنّه وقّع للتوّ على نصٍّ أطول بكثير ممّا يظهر على صفحةٍ واحدة.
عند العتبة، كأنّها تذكّرت على عَجَل زيارةَ التفتيش القادمة، تميل برأسها نحوه وتقول بخفّةٍ مدروسة: «نتمشّى غدًا في المسارات اللي ممكن ياخدونها، عشان ما نخترع حركات تحت العيون.» ثمّ بصوتٍ أكثر رسميّة: «جولة تعريفيّة، بعد العصر؟» تصوغها كأيّ إحاطة لوجستيّة عاديّة. يجيب بالموافقة، ذهنه يضع الموعد في خانةٍ مرتَّبة بين قراءة المخطوطات ومراجعة الهوامش، لكن وهو يخرج إلى باحةٍ يغسلها ضوءُ الصحراء الأبيض، يكتشف خيطًا رفيعًا من توقّعٍ غير مُرحَّب به يمتدّ جوار مقاومته المُعتادة، يشدّ أطراف عزيمته شدًّا خفيفًا، كأنّ شيئًا في الغدّ لا يتعلّق فقط بمسارات المشي أمام المانحين.
تقوده تحت قوسٍ تهشّم جصّه، كأنّ البياض تراجع عن مهمّته فانسحب، تاركًا العظم
الحجريّ عاريًا للهواءِ والرؤية. تشير بيدٍ مدرَّبة إلى زوايا البهو
المنخفض:
«هنا عادةً نمرّر الضيوف أولًا،» تقول بنبرة المنسّقة التي تحفظ أرقام
الميزانيّات أكثر ممّا تحفظ الأبيات. «هذي الزاوية ممتازة لصور الغروب،
الخلفيّة تعطي إحساس العزلة الروحيّة، والضوء يخفّف من حدّة الظلال تحت
العينين… خصوصًا للباحثين المنهكين.»
يلحظ، ببرودٍ متعَمَّد، الإشارة الأخيرة.
«مراعاة جماليّات الاحتراق الوظيفي،» يتمتم بالإنجليزيّة، كأنّه يدوّن
حاشية.
تلتقط طرف العبارة وتبتسم، لا أكثر من ميلٍ خفيف في زاوية فمها. «يا دكتور،
إنّها استدامة العلامة التجاريّة، لا أكثر.»
تواصل الشرح عن «نقاط التلامس» مع المانحين، عن المسارات التي توحي
بالقرب من التراث دون أن تعرّضهم للغبار الزائد أو الحرّ المباشر، عن الزوايا
التي تبدو فيها المكتبة «أصيلة» بما يكفي للصور، و«منظَّمة» بما يكفي لتطمين
المؤسّسات.
حركات يدها سريعة، مقتضبة، كأنّ كلّ إيماءة محسوبة ضمن ميزانيّة الوقت.
ثمّ، فجأة، تبطؤ يدها.
تتوقّف أصابعها فوق سطرٍ باهتٍ من نقشٍ قديم في الحجر، حيث حاول أحد البنّائين
قبل قرونٍ أن يترفّق بالكلمة، فحفرها أعمق قليلًا من سواها: «وفاء».
لا تشير هذه المرّة؛ بل تتتبّع الحروف بأطراف أناملها، كمن يلمس أثر ندبةٍ
يعرف صاحبها.
تكون في وسط جملة عن الجداول الزمنيّة و«المخرجات القابلة للقياس» حين
يختلّ إيقاع صوتها على تلك الكلمة بالذات.
«… لأنّ المشروع اسمه رسميًّا قصر الـــوفاء،» تقول، ثمّ يتقطّع النَفَس لحظة،
قصيرة لدرجة أنّ أيّ مانحٍ عابر لن يلاحظها. لكنّه يلاحظ.
يتنبه إلى الحرف المهموس في آخر الكلمة، إلى الرقّة المفاجئة في النبرة،
إلى أنّها لم تقلها بصوت موظّفة تكرّر عنوان ملفّ «PDF»، بل كأنّ الكلمة سقطت من
مكانٍ أقدم، وأقلّ قابلية للتمويل.
يراقبها وهي تسحب يدها ببطء، تعيدها إلى وضعها «العمليّ» إلى جانب ملفّها
اللوحيّ. تعود نبرتها إلى انضباطها: أرقام، مسارات، لوجستيات.
يقول، ببرودةٍ درعيّة يعرفها في نفسه: «اسمٌ ملائم لمرحلةٍ تشكّك في جدوى
الوفاء أصلًا.»
ترفع حاجبًا، نصف ضحكةٍ، نصف استجواب. «أنت تشكّك، أم نصوصك تشكّك؟»
لا يجيب فورًا. يسجّل في ذهنه: «انزلاق دلاليّ في نبرتها عند كلمة وفاء.
قابل للتحليل في فصل الافتتاح.»
يعلم أنّه يكذب على نفسه؛ فالجزء الذي يسجّل ليس الناقد، بل الرجل الذي توقّف،
رغم كلّ شيء، ليسمع كيف تلفظ هي هذه الكلمة بالذات.
«هذي الخلايا الداخليّة كانت لمجالس السَّهر،» تواصل، وقد استعاد صوتها سرعته المحسوبة. تشير إلى سلسلة غرف ضيّقة متلاصقة: «نوبات تناوب، مطبخ جماعي، حصص مياه مقسَّمة… كانوا منظّمين جدًّا، يعجبك الموضوع.»
يهزّ رأسه إيماءةً حياديّة، يتفحّص الأقواس المنخفضة وهو يحسب في ذهنه: «إمكان مقارنة بنُسُك الجاهليّين وطقوس الزوايا المتأخّرة… فصل لاحق، هامش طويل.»
ثم تضيف، كأنّ الجملة انزلقت من مكانٍ آخر داخلها: «أبي كان يقول إنّهم كانوا يأكلون قليلًا جدًّا في النهار، لدرجة إنّ الجوع كان يحدّ الأشعار… مثل قصبة حبر تَوّها مقطوعة ومَبْرِيّة.»
تتردّد الصورة في رأسه لحظة: معدةٌ فارغة، ليلٌ طويل، يدٌ تمسك قصبة رطبة الحافّة، والحرف يخرج حادًّا لأنّ الجسد نفسه ممسوك على حافّةٍ ما. يفاجئه أن يصدّق العبارة فورًا، دون أن يطالبها بإحالةٍ أو مصدر.
يقول لنفسه إنّها «مادّة ميدانيّة غنيّة»، تصلح لاستفتاح مبحثٍ عن علاقة الجسد بالنصّ. يتعمّد أن يصنّفها كذلك، أن يحشرها في خانةٍ قابلةٍ للفهارس. ما لا يسمّيه هو الجزء الهادئ فيه الذي استوقفه فقط ليستمع لكيف قالت هي: «يحدّ الأشعار»، وكيف مرّت كلمة «أبي» في صدر الجملة بسلاسة من يعرف أنّه لن يعتذر عن وجوده في ذاكرتها.
يلمح بطرف عينه لمعةً خاطفة حين ذكرت أباها، لمعة لا تشبه ابتسامتها الوظيفيّة المعتادة؛ شيء أقرب إلى احترامٍ ممتدّ عبر الزمن. يدوّن في داخله، ببرودٍ مصطنع: «انتقال من خطاب المؤسّسة إلى خطاب الإرث الشخصيّ عند ذكر الأب؛ دالّ على تشابك الخاصّ والعامّ في إدارة الذاكرة الثقافيّة.»
ويعرف، وهو يختار هذه العبارات المتكلّفة، أنّ كلّ ما فعله حقًّا هو أنّه توقّف، للحظةٍ أطول ممّا يلزم، ليُصغي إلى حرارةٍ خفيفة تسلّلت إلى صوتها ولم يكن لأيّ مانحٍ محتمل أن يلاحظها.
يتوقّفان في ممرٍّ غائرٍ ينحسر فيه الضوء إلى شريطٍ بارد على الأرض، كأنّ
الشمس تمرِّر إصبعها بخجلٍ على الحجر ثم تنسحب. تشير إلى تجويفٍ في
الجدار:
«هنا، لو حبّوا الصور “الطبيعيّة” للعمل المشترك،» تقول وهي ترفع يدها كأنّها
ترسم إطارًا غير مرئيّ. «أنت تقف هنا… تنظر بعيد، متفكّر، وأنا شوي وراءك…
أبدو داعمة، مو مزعجة.»
يكاد أن يبتسم. يتخيّل المشهد: وقفته المدروسة، نظرتها المائلة نحوه، تعليق محمود اللاذع حتمًا على «الكابل البحثيّ النموذجيّ». يشعر بالطرف الأيمن من فمه يتحرّك، فيراقبه من الداخل كما يراقب خطأً مطبعيًّا تسلّل إلى بيت شعر. يخنق البسمة قبل أن تكتمل، ويسأل بجفافٍ متعمَّد: «ومتى بالضبط “يُسمَح” للمصوّر أن يوثّق هذا العمق الوجدانيّ؟ في جدول أيّ يوم؟»
حين يعلو الهبوب لحظةً، ينساب خيطٌ رقيق من الرمل على طول الحجارة كستارةٍ شفّافة، فتقترب خطوةً ليتمكّنا معًا من قراءة نقشٍ باهت حمى زاويةُ الجدار ما تبقّى من حروفه. يبرد الهواء بينهما على خلاف القيظ من حولهما، محمّلًا بعطر عودٍ خفيف يختلط بنفَس هيلٍ دافئ؛ فيرتبك ميزان انتباهه للحظات، نصفه عند الكلمات، ونصفه الآخر عند اقتراب كتفها من ذراعه. يميل بدوره إلى الأمام بذريعة تفكيك الخطّ الملتفّ، يقرّب وجهه من الحجر لا منها، وأصابعه مُعلَّقة فوق الحفر، لا تستقرّ عليه، كأنّ مجرّد ملامسة السطح قد تفضحه لو ارتجفت. يسمعها تهمس: «يمكن “ص”… أو “ض”…» فيتعلّق بذلك الغموض الحرفيّ، يختبئ في نقاش الاحتمالات الصوتيّة، هاربًا من احتمالٍ واحد لا يريد أن يلفظه: أنّ ما يقرأه جسده الآن لا يقلّ وضوحًا عن أيّ كلمةٍ منقوشة أمامه.
«غالبًا بيوقفونا هنا،» تقول وهي تشير برأسها إلى فسحةٍ صغيرة مفتوحة للسماء، محاطة بجدارٍ نصفه أطلال. «هذي الزاوية يحبّونها… الأزواج للصور.»
تتعثّر الكلمة بينهما. تصحّح بسرعةٍ مهنيّة أكثر من اللازم: «أقصد… الشركاء. المتعاوِنون.»
يلتقط التعديل كما يلتقط خطًّا أحمر في مسوّدة: واضحٌ، لا يمكن تجاهله. يهمس وهو يسحب نبرته إلى جهة الورق والجداول: «إذًا نحتاج نخطِّط أقلّ قدرٍ ممكن من الإيماءات… لا ارتجال، كل شيء محسوب.»
لكن على كلمة «أقلّ»، ينزلق بصره، دون إذنٍ منه، إلى تلك الخصلة التي أفلتها الهواء عند صدغها، تتمايل وحدها مثل جملةٍ خرجت من السطر. يشدّ عضلة عنقه بعيدًا، كأنّ النقش المقابل فجأةً يتطلّب منه قراءةً عجولة، ويُقنِع نفسه أنّ ما يدرسه فعلًا هو الحجر، لا الارتباك الخفيف الذي مرّ في عينيها عندما قالت «الأزواج».
تبطيء خُطاها عند قوسٍ متهاوٍ، كأنّ الحجارة المكسورة تستحقّ نوعًا آخر من المشي. تمرّر أطراف أصابعها على الحافّة الخشِنة، لا بحركة سائحٍ يفحص أثرًا، بل بحنانِ مَن يربّت على كتفٍ عجوز، تسأل الصمت عن شيءٍ لا تسمّيه. لا تلتفت إليه؛ عينها مرفوعة إلى الفتحة التي يقتطع فيها القوسُ شريحةً من السماء، زرقاء باهتة في ضوء العصر.
حين تتكلّم، لا يبدو أنّها تقصد السمع العام، بل تترك الكلمات تسقط في الهواء الدافئ كما لو أنّها تفكّر بصوتٍ مسموع بالكاد: «الحبّ مرآة… مَن نظر فيها انكسر.» تقف لحظةً، وكأنّها تتذوّق الوزن، ثم تضيف بنبرةٍ أخفّ، أقرب إلى ابتسامة لا تجرؤ أن تكتمل: «أو… يمكن “انكشف” أحسن من “انكسر”، بس هو قالها كذا.»
يستشعر في نبرتها شيئًا لا يخصّ المتصوّفة ولا الأطلال، شيئًا يشبه الاعتراف المتستّر بثوب الاستشهاد. البيت يخرج من فمها لا كمن يلقي شاهِدًا في ورقة بحثيّة، بل كمن يعيد جملةً قديمةً لنفسه، جرّبها كثيرًا حتّى اهترأت في الداخل. الهواء يحمل الحروف قليلًا، يمدّها، ثم يبعثرها مع ذرّات الغبار قبل أن تصل إليه كاملة.
يميل برأسه دون أن يقترب، كأنّه يطارد الصدى لا الأصل. يتعرّف على التركيب فورًا؛ قرأه في هوامش مخطوطٍ ما، مرّ عليه في مقالةٍ عن المجاز الصوفيّ. في ذاكرته، كان مثالًا صالحًا على المبالغة الوجدانيّة التي يحبّ أن يفكّكها أمام طلّابه. لكن هنا، في هذا الممرّ الضيّق حيث يعلَق صدى صوتها بين الحجارة، يتصرّف البيتُ كشيءٍ آخر: لا نصًّا، بل جسرًا ممدودًا بين ما تقوله وما لا تقوله.
تضغط هي بإبهامها على شقٍّ عميق في الحجر، كأنّها تختبر مدى تحمّله. «يمكن،» تضيف همسًا، كأنّها تكمل حوارًا داخليًّا تأخّر عنها، «المرآة مو هي اللي تكسِر… هي بس تورّي الشقوق اللي من أوّل.» الكلمة الأخيرة تخرج شبه ضحكة، شبه تنهيدة، وتهتزّ معها خصلةٌ على جبينها ثم تستقرّ من جديد.
في ذهنه، تتحرّك آليّة النقد تلقائيًّا: صورة المرآة مستهلَكة، التلاعب بين الانكسار والانكشاف متوقَّع. يمكنه، لو أراد، أن يعلّق على البناء البلاغيّ، على انزياح المعنى من الجسد إلى النفس. لكن شيئًا في الطريقة التي قالت بها «من أوّل» يوقف المحرّك لحظة؛ كأنّها، في غفلةٍ عن دورها كمديرةٍ لمشروعه الوهميّ، تسمح لنفسها أن تقف عاريةً أمام المعنى نصف ثانية ثم تسحب الستارة سريعًا.
ينفلت ردّه أسرع ممّا ينبغي، حادًّا بدرجةٍ يسمعها هو قبلها. يلتقط أوّل ثغرةٍ في كلامها كما لو أنّه سؤال طالبٍ في قاعة محاضرة، لا جملةٌ رمَتها على استحياء في هواء الممرّ. «المخيِّلة ما قبل الحديثة كانت تحبّ المبالغة،» يقول، ونبرته تنزلق تلقائيًّا إلى إيقاع الشرح؛ الجملةُ موزونةٌ، فواصلها في أماكنها، كأنّه واقفٌ وراء منبرٍ خشبيّ، لا في ظلّ قوسٍ متهدّم. يلمس بصوته الكلمات التي قالتها، لا بحنانٍ يلتقط السرّ الذي تسرّب فيها، بل بورق زجاجٍ ناعمٍ يحاول أن يلمّع السطح حتّى يختفي أيّ أثرٍ شخصيّ. «مفيدة رمزيًّا طبعًا،» يضيف وهو يمدّ الكلمة الأخيرة قليلًا، كأنّه يمنحها شرعيّةً أكاديميّةً بدل أن يصدقها، «بس ما هي… ملزِمة أخلاقيًّا، ولا تُؤخذ على ظاهرها.»
يتعمّد أن يترك وقفةً قصيرةً قبل «ملزِمة»، فراغًا يوهمه أنّه تحكُّم لا تردّد. يثبّت نظره عند قدميه، حيث تتداخل الحصى مع ظلّ الجدار، ثم ينحني قليلًا نحو السطر المحفور في الحجر أمامهما، كأنّ النقش القديم يلحّ على إسعافٍ علميّ عاجل لا يحتمل أنصاف سكَتات. يشير بطرف القلم في يده إلى التواء حرفٍ ما، يتعامل مع الحافة المكسورة كما لو كانت هي موضوع الحديث الوحيد، وكأنّ الانكسار المرسوم في الصخر أسهل بكثيرٍ من أيّ شقٍّ آخر لَمَحه منذ لحظةٍ في صوتها.
تلتفت إليه أخيرًا، نصف جسدها ما يزال في جهة القوس، نصفه الآخر في ظله. ترتفع حاجبٌ واحد، حركة صغيرة لكن حادّة، ويشدّ طرف فمها كأنّه يمسك تعليقًا آخر في طريقه للخروج. «مو كلّ أحد يقرأ الشعر كمنهج حياة، يا دكتور البيطاني،» تقولها بهدوءٍ مقصود، كلّ مقطعٍ في لقبه يأخذ وقته. «بعضنا مسموح له… بس يستمتع.»
تسقط «دكتور» بينهما كختمٍ رسميّ على ورقٍ كان يُفترَض أن يبقى مسوَّدة. هو يعرف، بدقّةٍ لا يعرف بها عدد درجات الحرارة اليوم، أنّها تكاد لا تستخدم اللقب هنا؛ في المكتب، في الساحة، هو «أستاذ رباح» أو «رباح بس». الآن، الحوافّ النَشِفة في الكلمة تقول إنّها تذكّره بمسافَته، لا بمنصبه. تضع خطًّا رفيعًا تحت الدور المتَّفق عليه بينهما: من حقّها أن تحبّ البيت، ومن حقّه أن لا يقترب منه أكثر ممّا تسمح به البنود غير المكتوبة لعلاقتهما المزيَّفة.
يلسعه لقب «دكتور» أكثر ممّا يقرّ لنفسه، كأنّه تذكيرٌ علنيّ بدرعٍ ظنّه شفّافًا. يقوم في مكانه رمشةَ عين، يستقيم ظهره آليًّا، ويُخرِج الدفتر الجلديّ كمن يلتجئ إلى وضوءٍ سريع قبل مناظرة. ثِقَلُه في كفّه يعيد توزيع دمه، يذكّره بنسخةٍ أقدم منه، أقلّ تورّطًا. يقلّب صفحةً فارغة، يقرّب القلم من الحاشية دون نيّةٍ حقيقيّة للكتابة؛ مجرّد حركةٍ تحفظ ماء وجهه أمام نفسه. «ممكن نلاحظ،» يقول، في نبرةٍ مصقولة بطبقةٍ من الحياد الوظيفيّ، «إنّ المموّلين يميلون لمفردات أقلّ… وُجْدًا.» يرسم نقاط التعليق كخنادق صغيرة بينه وبين الكلمة التي استخدمتها. الجملة، في ظاهرها، حِرصٌ على «الصورة المؤسّسيّة»، أمّا في باطنها فمحاولةٌ متعجّلة لجرّ الحوار من حافّة المرآة إلى رملٍ جافّ مألوف، حيث العاطفة تُذكَر فقط في الهوامش.
تنظر إليه لحظةً أطول ممّا يسمح به بروتوكول الحياد، ثم تزفر من أنفها زفرةً قصيرة، تحوّل بصرها فوق كتفه إلى الفناء الخالي الذي سيتزاحم فيه المموّلون قريبًا. «تقصد مفردات ما تزعجك أنت،» تقولها بخفّةٍ مشحوذة الحوافّ، كأنّها مزحةٌ معلّقة من طرفٍ واحد. تترك الجملة تتدلّى بينهما، مثل لافتةٍ صغيرة لا يحتاج أحدٌ لقراءتها كي يفهمها، ثم تدير كتفها بخطوةٍ أسرع قليلًا، تعيد ترتيب وشاحها كما لو أنّها تعيد ترتيب الحدود أيضًا. «تمام،» ترميها بلا التفات، «نقصقص الوجد من السكربت لمّا نرجع ندرّب فقرة: كيف تعرّفنا.» الطريقة التي تقصُّ بها العبارة تجعل المعنى أوضح من أن يُشرَح: انسحابُه سجّلته في دفترٍ ذهنيٍّ آخر، وسيبقى هناك، مُؤطَّرًا.
تضغط الكلمة الأخيرة قليلًا، «بروشور»، كأنّها أقسى إهانةٍ يمكن أن تُوجَّه له في هذا الفناء الصغير. يختلط ثقلها بحرارة الجدار وراءه، وبالعرق الذي بدأ يتجمّع عند ياقة قميصه رغم الظلّ. يرفع نظّارته بإصبعٍ واحد ويدعها تستقرّ مرّةً أخرى على جسر أنفه، حركة دفاعٍ آليّة، قبل أن يعيد النظر إلى بطاقة الكرتون في يده، كأنّ النصّ المطبوع عليها دفاعه الأخير ضدّ كلّ ما هو «غير قابل للتفسير».
تميل ساميرة برأسها قليلًا، تنظر إلى البطاقات بين أصابعه، ثم تعود بعينيها إلى وجهه. هذه المرّة لا تحاول إخفاء الضيق. «المموّلين،» تقول ببطء، كأنّها تشرح قاعدة في النحو لطالبٍ عنيد، «ما يتبرّعون للـ…» تلوّح ببطاقته في الهواء. «للعزلة والوصول للأرشيف وبس. يبغون قصّة. إحساس. شيء يحسّونه هم بعد، مو بس حضرتك في الهامش النقديّ.»
يشدّ على البطاقات حتّى تُسمَع خشخشة خفيفة. «والقصّة،» يردّ، محافظًا على انخفاض صوته، «ليست ملزِمة إذا لم تكن صادقة. أنا لم أشعر بأيّ ‘انجذابٍ غير مفسَّر’ إلى روح المكان. وصلت بسيّارةٍ مكيَّفة، بعد مراسلاتٍ طويلة، وبجدولٍ واضح للأبحاث. هذا ما حدث.»
ترمش عينها مرّةً، بطيئة، كأنّها تقيس المسافة بين الحقيقة المفصَّلة والحقيقة القابلة للبيع. «طيب،» تقول، والنبرة تطرى من جديد لكن بحدٍّ داخليّ، «نغيّر التركيب. نقول: كنت تظن إنّك جايّ بس للعزلة والأرشيف. وبعدين، مع الوقت، اكتشفت…» تتوقّف لحظة، تلوّح بيدها بينهما كأنّها تبحث عن كلمة لا تجرحه ولا تبيع نفسها. «اكتشفت شيء أعمق. مو لازم نسمّيه روح. نسميه…» تبتسم ابتسامة قصيرة، خالية من المزاح هذه المرّة. «جوهر المكان، مثلًا. أو أثر الناس اللي مرّوا من هنا. هذي مو كذبة، يا أستاذ رباح. هذا تأطير.»
يهمّ بالاعتراض، جاهزًا بسلسلةٍ من الجُمل عن الفرق بين التأطير والتزييف، لكنّها تسبقه، رافعةً بطاقةً أخرى بين أصابعها كمن يقدّم بندًا في عقد. «أنا ما أطلب منك تعترف بحبٍ عظيمٍ قدّامهم، لا تخاف،» تقول بنبرةٍ جافّة تكاد تضحك من نفسها. «بس إذا أنت، الباحث الكبير في أخلاقيّات الحبّ والوجد، ما تقدر تتحمّل جملةً فيها شوية إحساس، كيف تبغاني أقنعهم إنّ شراكتنا…» تتعثّر لحظة عند الكلمة، ثم تكمل بسرعة، «مشروعنا المشترك، مشروع حيّ مو بس ورق؟»
تضرب كلمة «شراكتنا» وترتدّ في صدره قبل أن تُستبدَل. يلتقطها ذهنه كما يلتقط سطرًا شاردًا في مخطوطة، يدوّنه بسرعة في مكانٍ لا يصل إليه القلم. يشدّ فكّه ثانيةً، ثم يرخيه. ينقل نظره من وجهها إلى النافذة التي تطلّ على الفناء الكبير، حيث تُنصَب الكراسي وتُجرّب مكبّرات الصوت استعدادًا لليلة التقديم. هناك، بعد أقلّ من ثمانٍ وأربعين ساعة، سيُطالَب بأن يؤدّي دور رجلٍ جاء إلى الصحراء لأنّ قلبه سمع نداءها قبل عقله.
يرتدّ نظره إليها، إلى الطريقة التي تمسك بها البطاقات، كأنّها لا تمسك كرتونًا بل توازنًا دقيقًا بين راتب الموظّفين، وثقة العائلة، وخيط الأمان الذي يفصل أختها عن مجلس خطّابةٍ متحفّزة. يسمع نفسه يقول، بنبرةٍ أقلّ صلابةً ممّا أراد: «ما أرفض الإحساس، يا أستاذة سميرة. أرفض المبالغة فيه. أرفض أنّكم تستخدمونه كعملة.»
ترمشان عيناها هذه المرّة بسرعةٍ أكبر، كأنّ الكلمة الأخيرة أصابت مكانًا لم تقصده. تسحب نفسًا، تعدّله إلى ضحكةٍ قصيرة. «عملة؟» تردّ، ترفع حاجبًا. «حلو. وأنت، حضرتك، تستخدم العقل كجدار حماية. كلّنا عندنا عملاتنا، دكتور.»
يتوتّر فكه مرّةً ثالثة عند «دكتور»، لكنّها تتابع قبل أن يشتعل ردّه: «اسمع. نجرّب جملة وسط. تقول: ‘كتبتُ إليهم لأنّ المكان جمع بين العزلة التي أحتاجها…’» ترفع يدها الأخرى، تقرّبها من صدره، ثم تتراجع قبل أن تلامسه، كأنّها تتذكّر فجأة الكاميرات غير الموجودة. «و… أثر تاريخٍ طويلٍ من الرفقة بين الشعر والتعبّد. هذا،» تضيف بسرعة، «مو بروشور. هذا وصف بحثك أنت، لو بس تسمح له يطلع من الهامش للجملة الرئيسيّة.»
يتردّد. الجملة، كما صاغتها، ليست خيانةً كاملةً لما يراه. هو، في لحظات الأرق، حين يخرج إلى السطح ليعدّ النجوم بدل الحواشي، شعر فعلًا بأنّ للصمت هنا طبقاتٍ سابقة عليه. لكن الاعتراف بذلك في نصٍّ موجَّهٍ لمموّلين، وتحت عينيها المرفوعتين، يشبه كثيرًا فتح نافذةٍ صغيرة في درعٍ عمل سنواتٍ على تلميع سطحه.
«أثر تاريخٍ طويل،» يكرّر ببطء، يختبر التركيب على لسانه كما يختبر بحرًا جديدًا في بيت شعر. يترك السكون يمتدّ لحظاتٍ ثلاثًا، ثم يومئ إيماءةً قصيرة، تكاد لا تُرى. «ربما،» يقول، كأنّ الكلمة حبرٌ غالٍ لا ينبغي الإسراف فيه. «إذا بقيت ‘أثرًا’ ولم تتحوّل فجأةً إلى ‘روحٍ نادتني من وراء الغيب’.»
تضحك، هذه المرّة ضحكةً حقيقيّة تلتقي فيها عيناها بعينيه دون التفاتٍ إلى جمهورٍ متخيَّل. «وعد،» تقول. «نخلّي الأرواح للقصائد. المموّلين يكفيهم الأثر.»
تدوّن بسرعةٍ على البطاقة، تعدّل سطرًا، تشطب آخر، ثم تمدّها له. يمدّ يده، يتأخّر نصف ثانيةٍ قبل أن يلمس الورق من أصابعها. التماسٌ خاطف، أقصر من أن يُسمَّى، أطول من أن يُنسى. يسحب البطاقة إلى جهته، يمسح إبهامه بلا وعيٍ على الحبر الجديد، ثم يرفع عينيه إليها.
«مرّة ثانية من البداية،» تقول، تعود إلى مكانها المحدَّد كمن يعود إلى علامةٍ على المسرح. ترفع ذقنها، توجه بصرها نحو الجمهور غير المرئيّ، لكن ظلّ ابتسامتها الصغيرة يبقى موجَّهًا إليه. «أنا ساميرة الحديد، مديرة قصر الوفا… وهذا،» تشير إليه إشارة خفيفة، «باحثٌ ظنّ أنّه جاء يهرب من الوجد، فاكتشف أنّه…» تتوقّف لحظة، تلتفت إليه بقصدٍ واضح هذه المرّة. «أنّ الوجد ممكن يصير مادة بحثيّة آمنة، صح؟»
يعلم أنّها تمازحه، يعلم أنّها تدفعه خطوةً أخرى فوق الخطّ الذي رسمه لنفسه. ومع ذلك، يجد نفسه يردّ، بصوتٍ جافّ فيه حافةٌ من استسلامٍ متحفّظ: «قلنا أثر، يا أستاذة، لا وجد.»
تبتسم، ترفع البطاقة كمن يعلن تثبيت صيغة نهائيّة، لكن عينيها تقولان إنّ الملفّ لم يُغلَق بعد.
يشدّ كتفيه كمن تلقّى صفعةً غير متوقَّعة، ويقسو خطّ فكّه حتى يكاد يؤلمه. «هذا مو الكلام اللي كتبته،» يقطعها قبل أن تصل إلى مكان الوقف المرسوم في السكربت، نبرةُ الاعتراض تسبق حتى وعيه بأنّهما «يتمرّنان» فقط. يرفع البطاقة بين أصابعه كدليلٍ براءة، ثم يعيد نظره إليها، كأنّه يتهمها بتزوير اعترافٍ لم يوقّع عليه. «أنا قلت إنّ الملجأ يوفّر عزلة، ووصولًا منظَّمًا للأرشيف، وأقلّ قدرٍ ممكن من المشتّتات.» يلفظ الثلاثيّة كما لو كان يقرأ بنود عقدٍ قانونيّ، كلُّ كلمةٍ تُوضَع في مكانها بسكّين جراح. الثقل لا يأتي من المعنى وحده، بل من جفافه المتعمَّد، من إصراره على تقليص التجربة إلى شروط استخدام.
يتوقّف لحظة، كأنّه يسمع بنفسه أوّل مرّة، لكنّه مع ذلك يزيد: «لو بدأتُ أدّعي إنّي جيت بسبب ‘أرواح ما تنوصف’، راح أطلع قدّامهم نسخة من بروشور، مو باحث محترم.» يختار لفظ «أرواح» بحرص، ثم يدفنه بين علامتَي اقتباسٍ مسموعتين، يحوّله إلى مصطلحٍ أجنبيّ داخل لغته، شيءٍ يقوله غيره، لا هو. الكلمات تترك في الجوّ أثرَ هواءٍ مكيَّف داخل فناءٍ حجريّ: بارد، منضبط، لا رطوبةَ فيه، ولا نافذة.
تبهت ابتسامتها، كأنّ أحدهم خفّض فجأةً مستوى الإضاءة في المشهد. ينسحب الملح من نبرتها مع الانسحاب البطيء للهزل. «البروشور،» تقول، وهذه المرّة لا تحاول تلطيف الكلمة، «هو اللي يخلي مخطوطاتك تحت هواءٍ مكيَّف، مو في عُلبة كرتون عند واحد من عمامي.» تلوّح بالبطاقة بينهما، كأنّها فاتورة غير مدفوعة. «المموّلين ما يدفعون على ‘أقلّ قدر ممكن من المشتّتات’. يدفعون على حكاية، على إحساس يقدرون يحكونه بعدين في مجلسهم.» تسكت لحظة، تسحب نفسًا قصيرًا، ثم تكمل بنبرةٍ أكثر ثباتًا ممّا تشعر به: «لـمّا تطيح في القصّة قدّامهم، مو بس تحمي نقاوة بحثك. تقصّ رجلين الشغل اللي أسويه عشان يبقى هالمكان أصلاً موجود، لك ولغيرك.»
تتوتر أصابعه حول دفتره عند كلمة «النقاوة»، كأنّها لمسة على عصبٍ مكشوف، فيرتفع الاعتراض تلقائيًّا إلى حلقه. «في فرق،» يقول، والصلابة القديمة تشحذ حواف صوته، «بين حكايةٍ… وبين تشويه.» يميل بجسده قليلًا للأمام، كأنّه في ندوةٍ لا في فناء. «لمّا أقف قدّامهم وأتصرّف كأنّي سمعتُ نداءً غيبيًّا يجذبني لهالفناء، هذا مو تدرّج، هذا. ينحبس التكملة في صدره، كأنّ الحرف نفسه خجل من الخروج.
تتدلّى اللحظة بينهما كحبلٍ مشدود فوق حرارة البلاط. يزفر، كأنّه يتخلّى عن موقعٍ حصين، وتنخفض عينيه إلى الحجارة المرصوفة. «نقدر… نعدّل الصياغة،» يقول أخيرًا، كلّ مقطع يخرج محسوبًا، كأنّه يدفع ثمنًا غير مرئي. «أقدر أقول إنّ المكان… تاريخه هو اللي جذبني. إنّه حسّيته غير عن أيّ إقامة ثانية.» يتعثّر قليلًا عند «حسّيته»، لفظةٌ أكثر ذاتيّة ممّا يحبّ أن يعترف به بصوتٍ مسموع. نبرته لا تزال مشدودة، لكن فيها انحناءةً صغيرة، كخشبٍ قاسٍ بدأ يلين عند الحافّة. تراقبه لحظةً، كأنّها تقرأ سطور تنازلٍ مكتوبة بحبر سرّي، ثم تومئ إيماءةً قصيرة؛ قبولًا للمساومة، لا مغفرةً كاملة. بينهما لا يزال شيءٌ غير محلولٍ في الهواء وهما يتحرّكان نحو القنطرة المظلَّلة، حيث تنتظر نصوصٌ أقدم من خلافهما، محفورةً في الحجر، أقلّ قابليةً للتفاوض.
لم تكن تقصد أن تقدّم شيئًا يخصّها؛ كانت تتهيّأ، كما في كلّ مرّة، لأن تناور بحكاية عمليّة صغيرة تُبقيها على الضفّة الآمنة. لكن الذكرى تنفتح وحدها، كشقٍّ في جدار جافّ لم يحتمل صمت الشمس. «كان يجيب معنا ترموس شاي،» تكمل، نبرتها أخفض، كأنّها تخاطب الحجارة لا الرجل الواقف إلى جوارها، «ويخلّينا نجلس هنا في العتمة.» تبتسم ابتسامة ضئيلة على كلمة «عتمة»، كأنّها تصحّح لنفسها: ليست ظلمة الخوف، بل ظلمة الامتحان. «بلا فانوس، بلا شي. بس النجوم… وصوته.»
تنزلق عيناها إلى السطر الباهت، تتفادَيان وجهه بمهارة خبيرة. أنامل يدها اليمنى ترتفع قليلًا، ترسم في الهواء فوق الخطّ المرقّط، تتبع مسار الحروف بوعيٍ جسديٍّ قديم، دون أن تمسّ الحجر فعلًا؛ عادةُ من تربّى على احترام النصوص، حتّى حين يكون النصّ مشتبكًا مع شيءٍ أكثر خطورةً من الحبر. «كان يردّد هالبيت،» تهمس، وشفتيها تتحرّكان مع النصف الثاني من الشطر قبل أن تنطقه، «وبعدين يلتفت لنا، الواحد واحد، ويسأل: ‹ها، اليوم على أيّ كذبة متمدّدين؟›» تنفلت منها ضحكة قصيرة، مشروخة عند الحافّة، تجرّها سريعًا إلى ابتسامةٍ معتذرة. «كنت أكره السؤال.»
تتوقّف هناك، لكن وقفتها نفسها تحمل تكملةً لا تقال. تسهُل عليها عادةً إعادة صياغة أي شيء: ملاحظة متذاكية لمانحٍ متردّد، مزحة خفيفة تسكّن عمّةً كثيرة التعليق، حتّى ألمها تعرف أن تدخله في جملةٍ خبريّة وتستكمل الاجتماع. الآن، الكلمات التي تصلح للعرض المهنيّ ترفض أن تأتي. «أكرهه،» تعيد، هذه المرّة كمن يعترف أمام نصّ لا أمام شخص، «لأنّه ما كان يرضى بإجابات… مهذّبة. يقول لنا: مهنتكم، مهنتي، كلّها قائمة على الحكي المهذّب. هنا لا. هنا يا تطلع الصدق… يا تطلعون أنتم.»
يسرح بصرها نحو الفتحة التي تقطّع السماء إلى مستطيل أزرق باهت. «تدري؟» تسأل، ولا تنتظر إذنه كثيرًا، «في مرّة قلت له: أنا ما أصدّق الحبّ أصلاً، فمرتاحه.» تضحك، هذه المرّة بوضوحٍ أكبر، في مذاقه مرارةُ شايٍ ترك كثيرًا على النار. «ضحك عليّ طول الطريق. قال لي: حلوة هالكذبة. صغيرة على سنّك، بس حلوة.» تسكت لحظة، تبتلع تتمّةً كان يمكن أن تقولها: أنّ السؤال، بعد رحيله، لم يختفِ؛ صار نبرةً داخليّةً لا تُطفأ بفانوسٍ ولا بإنجازٍ جديد.
يميل برأسه قليلًا، كأنّه يغيّر زاوية الضوء لا زاوية الفهم، ويقرأ الشطر المبتور حتى آخره في داخله قبل أن تهمس به هي. المصادفة تطرق صدره طرقًا خفيفًا: بيتٌ يشرحه ببرودٍ لطلّابه في قاعاتٍ مكيّفة، وقد تحوّل هنا إلى طقس عائليّ تحت سماءٍ مفتوحة. يتسلّل شيء شبيه بالغيرة من هذا التداخل بين النظريّ والعيشيّ، بين «النصّ» و«البيت».
«اختار لكم معلّم قاسي.» يحاول أن يعلّق بنبرةٍ خفيفة، لكن الخفّة تقع أرضًا قبل أن تصل إليها، فيبدو كلامه أقرب إلى تشخيصٍ أكاديميّ منه إلى مزحة. يسند كتفيه للحجر، يختبر برودة السطح في ظهره؛ نقطة تماسٍ ثابتة مقابل ثقلٍ نابض خلف عينيه، ثقل الليالي المنزوعة النوم والجداول المزدحمة بالهوامش.
يدور بعينيه على القنطرة، على الشقوق الشعريّة في الجدار، ثم يعود إلى السطر الباهت، كأنّه يلتمس إذنًا من الحروف قبل أن يتدخّل في الحكاية. «جاوبتِه صدق… مرّة؟» تخرج الجملة أخفض ممّا خطّط، مشذّبة من أيّ تعميمٍ نظريّ. فيها حافّة فضولٍ شخصيّ لا يليق بصورة الأستاذ الممسك دومًا بمسافةٍ آمنة بينه وبين اعترافات الآخرين. يشعر وهو ينتظر جوابها كأنّه هو الذي وُضع الآن تحت نجوم امتحان أبيها، لا العكس.
تضحك ضحكةً قصيرة، يابسة الحوافّ، أقرب إلى زفيرٍ مستسلِم منها إلى مرحٍ حقيقي. «مرّة وحدة،» تقول، كأنّها تعترف لمرجعٍ قديم لا لرجلٍ من لحمٍ وورق ملاحظات، «كنت ستّعش، ومقتنعة إنّي أحبّ ولد يرسل لي غزليات فظيعة على الواتساب.» تتردّد الكلمة الأخيرة في الفراغ الحجريّ فتبدو أشدّ نشازًا، كأنّها أداة كهربائيّة تُقحَم في مجلس إنشاد. تتدلّى الصورة بينهما: شاشةً صغيرة تضيء تحت لحاف، وأبياتًا مكسورة الوزن تعبر ليلَ مراهقةٍ تتعلّم مبكرًا كيف تجمّل النشاز باسم «الإحساس».
«أبوي ما قال إنّ القصايد هي المشكلة،» تكمل، وعينها لا تزال على السطر، لكن نبرتها قفزت خطوة إلى الأمام. «قال لي: المصيبة مو في الولد، المصيبة في بنتي اللي مستعدّة تبلع أي شي إذا نقال بصوت يشبه الإخلاص.» تنقل بصرها إليه أخيرًا، النظرة هذه المرّة ثابتة، لا تستعير خفّة المزاح ولا قناع المهنيّة. «قال لي: إذا حبّك ما يقدر يتحمّل ينحطّ تحت سؤال هنا… بين هالجدران، فالأغلب إنّه تمثيل، مو نجاة.» للحظةٍ، يبدو الهواء نفسه كأنّه يختبر كلمتها: هل ستصمد، أم تنكسر مثل تلك الغزليّات القديمة في صندوق هاتفٍ منسيّ؟
ينقبض فكّه عند كلمة «تمثيل»، كأنّها اصطدمت بموضعٍ حسّاسٍ في صورته المصقولة عن نفسه. يعيد نظره إلى النقش، يتعلّق بالحروف كمخرجٍ آمن، لكن انحناءة السطر لا تفعل إلّا أن تذكّره بقربها، وبالأرض الشخصيّة التي دخلاها بلا اتّفاقٍ مسبق. «أهلي كانوا يحبّون التمثيليّات المحترمة،» يقول أخيرًا، يلتقط كلماته كما يلتقط شواهد بحثٍ دقيق، «قصصًا مرتّبة… بلا أسئلة، بس أدوار.» يترك الفراغ يكمل القائمة عنه: خطيبٌ مثاليّ، ابنٌ مطيع، باحثٌ لا يخطئ. «أمّا الحدّة،» يضيف، «فكانت عندهم مرحلة تمرّ… زي الحمّى، يفترض الواحد يعقل بعدها.» يبتسم ابتسامةً قصيرة، بلا فرح، على مفارقة أن يُدرَّس «الحمّى» اليوم في قاعاتٍ مكيّفة بوصفها تراثًا جماليًّا لا عدوى تطلّب عزلًا.
للحظةٍ، لا يُسمع سوى فحيح الريح وهي تحكّ حافّة القنطرة المكسورة، كأنّها تمحو ما تجرّأ الكلام على كشفه. الحبكة المهنيّة المصقولة التي كرّراها طول الصباح أمام جدار الخيال عن «قصّة تعاونهما» تبدو الآن رقيقة، ورقةَ عرضٍ فوق نهر اعترافات جانبيّة لم يُخطَّط لها.
«ومع هذا تشتغل على شعراء حرقوا عمرهم عشان هالحدّة نفسها،» تقولها نصف ملاحظةٍ ونصف تحدٍّ، بلا حدّة اتهام، بل بحيرةٍ هادئة تحفر أعمق ممّا تسمح لهجة العمل. لا ينظر إليها؛ أصابعه فقط تنغلق أكثر حول دفتره الجلديّ، كأنّه الشيء الوحيد القابل للسيطرة في هذا الفراغ المكشوف. «يمكن،» يقول بعد لحظةٍ من تنقية الجملة في رأسه، «شغلي هو التفاهم اللي رضيت فيه مع الحياة.»
الكلمة تستقرّ بينهما كحجرٍ جديد في هذا الجدار القديم، صادقة بالقدر الكافي لتقلقه هو نفسه. تلتقط هي الرعشة الدقيقة في صوته، تسجّلها في ملفٍّ داخليّ لا اسم له بعد، حتى وهي تعيد ترتيب كتفيها ونبرتها، تُلبِس حروفها من جديد بدلة التنسيق والمواعيد، قبل أن يتجرّأ أحدهما على تسمية ما مال ميزانه خلسةً بينهما.
تضرب النَفحةُ القوسيّة كأنّها سكينٌ من هواء، تدخل من الفتحة المكسورة وتخرج من ناحية الوادي، تحمل معها شريطًا من رملٍ ناعم يلسع وجهيهما ويحوّل الممرّ الضيّق إلى خطوطٍ ضبابيّة متحركة. ترتفع الحبيبات في دوّامة صغيرة ثمّ تهوي، تنثال على كتفيها وعلى ملفّ الأوراق في يدها مثل رمادٍ مُتعب.
تميل بجسدها تلقائيًّا، تعرف حركة هذا الهواء كما يعرف موظّف الاستقبال طباعَ ضيوفه المتكرّرين؛ تدرّبَت على الانحناء بحيث يغطي طرفُ حجابها عينيها من اللسعة الأولى. لكنّ خطواتها، المعتادة على تذكّر كل نتوءٍ في هذا الصحن الحجريّ، تخونها للحظة: كعبُ الحذاء يلتقط حجَرًا صغيرًا مختبئًا تحت طبقة الرمل الجديدة، حجَرًا لم يكن هنا في الجولة الصباحيّة. ينزلق الجلد على الحصى، وتفقد قدمها الخلفيّة يقينَها.
يتحرّك اللوح البلاستيكيّ المعلَّق في يدها كجناحٍ مكسور؛ الأوراق المشبّكة عليه تتحرّر واحدةً واحدة، أطرافُها ترفرف كطيورٍ مذعورة تحاول النجاة من قبضات الريح. تسمع طَقّة المشبك المعدنيّ، حادّةً بشكلٍ غير متناسب مع ضجيج الهواء، ثمّ خَشخشةَ الورق وهو يتبعثر حولهما منحنيًا مع اتّجاه العاصفة.
تتأخّر وعيُها نصف ثانية عن جسدها؛ تعرف، دون أن ترى، الحافّة غير المتساوية للحجارة المكسورة التي تؤطّر الفراغ أسفل القنطرة. مرّت من هنا عشرات المرّات، شرحت لمقيمين متوتّرين كيف عليهم أن يراعوا «اختبارات الطريق» التي تفرضها الصحراء عندما تتحرّك الرمال نصف مترٍ في ليلةٍ واحدة. الآن، هي نفسها، المنسّقة التي تحفظ خرائط الممرّات وتواريخ الصيانة، تشعر بثقل جسدها يميل نحو ذلك الفراغ الصغير الذي يكفي لكدمةٍ سيّئة وملفّ حادثٍ في سجلّ الضيوف.
تحاول أن تعوّض الانزلاق بسحب قدمها الأخرى إلى الأمام، لكنّ الرمل يخونها مرّةً ثانية؛ يتحوّل تحت نعلهَا إلى حبيباتٍ منزلقَة، كأنّ الأرض قرّرت أن تذكّرها بأنّها مؤقّتة هنا، ضيفة على طبقاتٍ تتحرّك بلا إذنٍ ولا جدول أعمال. في جزءٍ من الثانية يتقلّص العالم إلى ثلاث نقاط: صرير الهواء في أذنها، طعم الغبار على لسانها، والإدراك الهادئ المذعور بأنّ يدًا واحدةً فقط تمسك بالواقع.
تسبق عضلاته أفكاره؛ الجملة النقديّة التي كان يهمّ بصياغتها تتبخّر بلا أثر. ينفلت دفتره قليلًا من تحت إبهامه، ينزلق الجلد المصقول على عرق كفّه، فيما تنطلق يده الأخرى كاستجابةٍ مدرَّبة لا تعترف بالبروتوكولات. أصابعه تطوّق ساعدها من أسفل المرفق بشبرٍ واحد، القبضةُ ثابتة أكثر ممّا يقرّ به لاحقًا. قماش الكمّ صار، مع قيظ النهار وتآكل الغسلات، رقيقًا إلى حدّ الفكرة؛ تحت الكتّان يشعر بخطّ الوتر، واستدارة العظم، والارتجافةِ الضئيلة للعضلة وهي تقاوم السقوط وتحاول استعادة توازنٍ تعرف أنه يُفترض بها ألا تخسره أصلًا.
شهقتها ليست صوتًا كاملًا؛ هي استنشاقٌ مبتور، فاصلة هواء قصيرة تنغرز في الفراغ بين جلده وجلدها. يهتزّ الساعد تحت كفّه اهتزازًا خفيفًا، لا يدري أهو من خوفها أم من ضغطه هو، ويتدفّق دفءٌ حادّ من نقطة التلامس إلى أعلى ذراعه، كأنّ عصبًا خامدًا أُعيد إيقاظه فجأة. يدرك، في مكانٍ جانبيّ من وعيه المُنهك بالتوثيق والملاحظات، أنّ هذا النوع من الإمساك لا يليق بزميلة عمل ولا بشريكةٍ في «ترتيبٍ تنظيميّ مؤقّت». ومع ذلك، يتأخّر عقله جزءًا من الثانية عن أن يأمر أصابعه أن تُرخي.
في تلك الومضة، تنمحـي الخرائب وحدودها الحجريّة، ويتبقّى شيءٌ أقرب إلى مسوَّدة رسمٍ ضيّقة لهيئتيهما: قدمُه المغروسة في الرمل كوتد خيمةٍ عنيد، وجذعُه يميل قليلًا ليكسر زاوية السقوط، وحذاؤها ينزلق قوسًا صغيرًا قبل أن تعثر نعلُه على خشونة صخرةٍ ثابتة. يدُها الفارغة تصعد بدافع الغريزة لا التفكير، تبحث عن جدارٍ تستند إليه؛ تصطدم أولاً بحافّة دفتره الجلديّ المحشور بينهما، عموده الفقريّ يضغط في ضلوعه، ثمّ تستقرّ كفُّها فوق صدره مباشرةً، مبسوطةً بامتداد أصابع موظّفةٍ تحاول أن «تثبّت المستند» قبل أن يطير.
من خلال قماش القميص القطنيّ، يشعر، بصورةٍ فاضحة لا تليق برجلٍ بنى سمعته على التحليل البارد، بنبض قلبه يرتفع إليها: خفقٌ متسارع، غير منضبط، يقيس له فجأةً المسافة بين ادّعائه الزاهد وبين هذا الجسد الذي يفضحه. في الجيب الصغير الذي يصنعه كفّها فوق عظمته، يبدو الصوت أعلى من فحيح الريح، كأنّها لو أرادت لتمكّنت من قراءة سطرٍ من سيرته الداخليّة براحة يدها وحدها.
يتمطّط الزمن كخيطٍ رفيع فوق هوّةٍ غير مُسمّاة، لحظةٌ معلّقة لا تشبه أيّ فراغٍ آخر في يوم العمل. تسجّل، في مكانٍ لا علاقة له بذاكرتها الإداريّة، ثباتَ قبضته عليها، ذلك الإصرار الهادئ الذي يشبه الحماية أكثر ممّا يشبه مجرّد «مساعدة»، ثمّ الرجفة الخفيفة المتناهية في أطراف أصابعه، رجفة لا تنسجم مع صورته المحفوظة في ذهنها: الأستاذ المتيقّن، الذي لا تهتزّ نبرته حتى وهو ينسف ورقة بحث أمام صاحبها. في المقابل، يلتقط، بدهشةٍ بطيئة متأخّرة، قفزة نبضها تحت إبهامه، الوثبة القصيرة التي تتكرّر مرّتين، ثلاثًا، قبل أن تحاول أن تستقرّ؛ يشعر بحرارة جلدها تُخلخل المسافة الرسميّة التي ظلّ يحرسها بالألقاب والضمائر. أصابعها المنشورة على صدره، المفرودة أولاً كحركة دفاع بحثًا عن اتّكاء، تستقرّ في وضعٍ يمكن تأويله على أنّه تثبيتٌ لتوازنها… أو ادّعاءٌ خجول لموضعٍ كان، حتّى هذه اللحظة، محجوزًا للكتب والهوامش فقط. لا أحد منهما يجد للغة مدخلاً إلى هذا الفراغ؛ الكلمات، التي يتقن كلاهما تشغيلها في تقارير أو مقالات، تقف الآن متيبّسة عند الحنجرة. العالم ينقبض إلى معادلةٍ واحدة: زفيرُه المتقطّع يمرّ قريبًا جدًّا من خدّها، شهيقُها يحتكّ بحافّة قميصه، وأنينُ حبّات الرمل وهي ترتطم بأقمشتهم في إيقاعٍ رتيب، كساعةٍ رمليّة تُحصي ثواني وعيهما الجديد ببعضهما، حتى تغدو الفكرة نفسُها ــ فكرة الاستمرار في هذا القرب ــ غير محتملة.
يفلت ساعدها أخيرًا، كمن يتذكّر نفسه في اللحظة الأخيرة؛ أصابعه تنفتح واحدةً واحدة، كحركةٍ مقصودة أكثر ممّا يلزم، قبل أن يتراجع خطوةً محسوبة بنصف طول قدم، يثبتها كرقمٍ في هامش، وعيناه تسبقانه إلى الحجارة. قال، وهو يمسح نبرته من أيّ أثرٍ للآن: «يلزم أن نُصنَّف هذا الممرّ غير آمنٍ للمشي ليلًا… عثرات محتملة.» تسقط العبارة بينهما كخطّ حدودٍ رُسم على عجل فوق رملٍ تعرف الريح كيف تمحوه. تستقيم في وقفتها، تُسوِّي طرف وشاحها بيدٍ ليست ثابتةً تمامًا، ثم تُخرج القلم من الجيب الجانبيّ لملفّها. «مُسجَّل»، تقولها وهي تُنزل رأسها إلى الصفحة، لتُخفي رجفةً خفيفة في الحروف الأولى، كأنّها تدون بندًا روتينيًّا في تقييم مخاطر، لا أثرًا أوّل لانزلاق واجهتهما المصقولة تحت وطأة لمسته.
يتقلّص الممرّ بين جدارين حجريّين منخفضين، كأنّ البناء القديم يتعمّد دفعهما إلى مدارٍ واحد. لا يعود هناك متّسع لترف «المسافة المهنيّة» التي يفضِّلها؛ كتفُه يمرّ على بُعد شبرٍ واحد من كتفها، فيضطرّ إلى ضبط مشيته كما لو كان ينسّق فقرةً متوازنة في مخطوط، لا خطوات إنسانين عاديّين في ممرّ ضيّق. حبيبات الرمل تحت أقدامهما تطحن صمتًا دقيقًا، صوتُها الخافت يختلط، في أذنه، بالخرير البعيد لنافورة الفناء، الذي يصلهم كنقطة تعليق في آخر سطر.
يُسدل بصره إلى الحجارة بإصرارٍ يكاد يكون عنادًا أخلاقيًّا. يبدأ، بلا وعي، بعملية فهرسة دفاعيّة: هذا الشقّ يمتدّ سبعة سنتيمترات تقريبًا، تلك اللبنة مائلة بدرجةٍ قد تصلح مثالاً في محاضرة عن الإهمال البنائيّ، المسافة بين مصباح الحائط والعامود التالي ستّ خطوات من قياسه، قابلة للتحويل إلى أرقامٍ دقيقة في دفتر الملاحظات. كل شيء يصلح أن يكون موضوعًا للملاحظة… إلا حرارة الكتف القريب.
يدرك، بوضوحٍ مزعج، كيف أنّ رائحة عطرها الخفيفة ــ مزيجٌ من وردٍ جافّ وقهوةٍ سوداء ــ تتسلّل عبر ثغرات تركيزه، تستقرّ في مكانٍ ما خلف أذنه، حيث كانت أمّه تدسّ الآيات القصيرة قبل النوم. يقرِّر أن يتجاهل ذلك أيضًا، فيضيف طبقةً أخرى من التوثيق العقيم فوق الإحساس: زاوية انكسار الضوء على الحائط، نصيحة محتملة لصيانة الإضاءة الخارجيّة، ملاحظة عن ضرورة كتابة تنبيهٍ للمقيمين حول عدم المشي هنا ليلًا بلا مصابيح يدويّة.
إلى جانبه، تعدِّل من خطوتها حتّى لا تصطدم حقيبتها الجلديّة بذراعه في كلّ متر. في ذهنها، تحاول أن تتذكّر إن كان هذا الممرّ قد ذُكر في تقرير السلامة الأخير، تُراجع بسرعةٍ قوائم الأعمال المتراكمة لهذا الأسبوع: زيارة المموّلين، إعداد برنامج الأمسية الشعريّة، تهيئة قصّة «الشراكة الإبداعيّة» التي يجب أن تحفظها عن ظهر قلب أمام الجميع. ثمّ، رغماً عنها، تنزلق وعيًا نصفَ واضح إلى هذا الحيِّز الضيّق الذي يجمعهما: المسافة بينهما تقاس الآن بعدد حبّات الرمل العالقة بحافّة عباءتها وكمّ قميصه، لا بعدد البنود في لوائح المؤسّسة.
يتحرّك الهواء بين الجدارين بحذر، كأنّ المكان نفسه يخشى أن يُحدِثَ نسمةً تدفع أحدهما إلى الآخر أكثر قليلًا. يسمع أنفاسها تتباطأ لتواكب إيقاعه، أو ربّما يتوهّم ذلك؛ لا بأس، يتّهم سمعه بالمبالغة ويسجّل في داخله ملاحظةً صلبة: «تأثيرُ ضيق المكان على توهّم الاقتراب العاطفيّ. مثالٌ ميدانيّ». يعجبه، للحظةٍ قصيرة، أنّه نجح في تحويل هذا الضيق الحسيّ إلى مادة بحثٍ يمكنه التعامل معها بارتياحٍ أكاديميّ.
وهو يرفع عينه لحساب عدد الأقواس المتبقّية قبل أن ينفتح الممرّ على الفناء، تلتقط زاويةُ رؤيته ظلَّ وشاحها وهو يلامس الجدار المقابل، فيترك خلفه خطًّا خفيفًا من الغبار على الحجر. يفاجئه أنّ الصورة تشبه إلى حدٍّ مؤذٍ سطرًا من قصيدةٍ صوفيّة قرأها منذ زمن: مرورُ المحبّة على القلب كأثرِ يدٍ على جدارٍ قديم. يُسرع إلى نفي الارتباط، يصرّ في داخله على أنّ ما يراه لا علاقة له بالشعر، وأنّ ما يشعر به بين الجدارين مجرّد نتيجةٍ لضعف التهوية.
مع كلّ خطوةٍ إضافيّة، يزداد وعيُه بالتوتّر الهادئ الذي يشدّ الهواء بينهما، كوترِ عودٍ لم يُضرَب بعد، قائمٍ فقط على احتمال الصوت. يزدرد ريقه، يختار أن يحدّث نفسه عن جدوى إعادة رصف هذا الممرّ قبل الموسم المقبل، عن فواتير، ومناقصات، وأرقام. أي شيءٍ عدا سؤالٍ واحدٍ بسيط: لماذا لا يمانع، تمامًا كما كان يتخيّل، هذا القرب الذي يفترض أن يزعجه؟
منذ أن انزلقت الآية من بين شفتيها في ظلّ القوس المهدَّم، وهي تدور في ذهنه كطيْرٍ حبيسٍ يرفض أن يهدأ. لا يعود يذكر على وجه الدقّة إن كانت قد قالتها بمناسبة الحديث عن المتصوّفة، أم كتعليقٍ عابرٍ على انعكاس الضوء على الحجارة؛ الذي يثبّت في ذاكرته هو الطريقة التي توقّفت بها عند كلمة «مرآة»، كأنّها تختبر شيئًا في الهواء بينهما قبل أن تتابع الشرح بنبرتها الإداريّة المعتادة.
يتسلّل إليه، في البدء، الدافع المألوف: أن يصحِّح الإحالة، أن يضع البيت في إطاره النصّي، أن يميّز بين رواية الشيخ الأكبر ورواية غيره، أن يعزو، أن يشرح، أن يحوِّل الجملة إلى حاشية. هكذا درِّب نفسه دائمًا على التعامل مع كلّ بيتٍ يلمسه: يفكّكه إلى مصدرٍ وسياقٍ وطبعةٍ محقَّقة.
لكن، مع ارتفاع هذا الدافع، ينهض من تحته شيءٌ ألين، أقلّ قابليةً للتصنيف؛ اعترافٌ متردِّد بأنّه اشتاق إلى أن يسمع الشعر بصوتٍ آخر غير صدى رأسه. قبل أن يتمكّن من الاحتماء مجدّدًا بصمته المريح، تفلت منه الجملة، مبحوحةً من قلّة الاستعمال: «لـمّا اقتبستِ ذاك البيت قبل قليل… تبع المرآة… هو لابن عربي، صح؟»
تتعثّر خطوتها تعثّرًا يكاد لا يُرى، كأنّ الحجر تحرّك نصف مليمتر تحت قدمها ثم ندم. تلتفت نحوه بزاويةٍ محسوبة، تكفي فقط ليُباغَت بوميض الدهشة في عينيها قبل أن تُسدل عليهما السِّتر المألوف: ملامحُ المنسّقة الهادئة التي تزن كلّ كلمةٍ بميزان اللائحة الداخليّة. «قلّةٌ مَن ينتبهون إليه»، تقولها بنبرةٍ خفيفة، كأنّ المسألة مجرّد ملاحظة عابرة في حديثِ جولةٍ ميدانيّة، لكنّ ظلًّا من شيءٍ آخر يمرّ في صوتها؛ رضى صغير، مكتوم، بأن أحدهم التقط طبقةً غير المرئيّة من حديثها، طبقةً لا علاقة لها بالجداول الزمنيّة أو تقارير الصيانة. للحظةٍ خاطفة، يشعر أنّها تستقيم أمامه لا كمديرة مشروع، بل كابنةِ شاعرٍ يسرّها أن يُرى أثر الأب في اختيار بيتٍ واحدٍ تحت قوسٍ مهدّم.
الاعترافُ بالبقيّة يشبه، في داخله، اختبار صلابة سدٍّ يعرف أنّ تحته ماءً كثيرًا مؤجَّلًا. يبلع ريقه، يمرّر أنامله على حافّة دفتره الجلديّ كما لو كان يبحث في جلده المستهلك عن شجاعةٍ مستعارة، ثمّ يدع الكلمات تهرب على مسؤوليّتها: «أمّي كانت تردِّده وهي تظنّني نائمًا»، يقولها، فيتفاجأ بأنّ وقعها على الهواء ألينُ ممّا توقّع، أقلّ دراميّةً ممّا تخيّل، أشبه باعترافٍ متأخِّر بين فقرتين في هوامش بحث. «كانت تقول إنّ المحبّة تكشف… لكنها تطلب أيضًا نوعًا من التسليم. وأنا قرّرت، منذ زمن، أنّ التسليم غير فعّال». الكلمة الأخيرة ترتطم بالفراغ بين الجدارين ارتطامَ مصطلحٍ إداريّ وُلحِمَ بعَجَلةٍ إلى شيءٍ مقدَّس، فتبدو في أذنه نشازًا مقصودًا يفضح الفجوة بين لغتَين يعيش فيهما ولا ينتمي تمامًا لأيٍّ منهما.
تجيبه ضحكتُها – خافتة، غير مصدِّقة تمامًا، ولكن مطوَّقةٌ بعطفٍ لا بشماتة – فتتسلّل إلى صدره كخيطٍ يفكّ عُقدة التمثيل هناك. «مو كلّ شي قيّم لازم يكون فعّال، يا رَفَح»، تقولها بمزجٍ هادئ بين الفصحى ولهجتها، فينكمش اسمه ويتّسع في آنٍ واحد؛ يُقال ببطءٍ، كأنّها تجرِّبه على لسانها لا بصفتِه لقبًا رسميًّا في مراسلات المؤسّسة، بل اسمَ رجلٍ يمشي إلى جوارها تحت سماءٍ فارغةٍ من الشهود. لا يلتجئ هذه المرّة إلى تصحيح المصطلح أو إلى نكتةٍ دفاعيّة عن «مؤشّرات الأداء»، لا يغيِّر الموضوع إلى الجدول الزمنيّ للمانحين؛ يكتفي بأن يُبقي الخطى على إيقاعها نفسه إلى جانبها، متنبِّهًا فجأةً إلى رِقّة الدرع التي يظنّها صلبة، وإلى أنفاس الصحراء الواسعة من حولهما وهي تتمدّد في سكونٍ يقظ، كأنّها تفرش أمامه احتمالًا لا يسمّيه أحد، انتظارًا لقرارٍ لم يمتلك بعدُ شجاعةَ صياغته، وإنْ كانت صيَغُه النظريّة جاهزةً منذ سنين في مقالاتٍ لم يصدِّقها تمامًا.
الضوء تحت النخلات في ذلك الصباح بدا ألين، كأن الفجر نفسه قد تآمر على إبطائهما. النسيم يداعب سعف النخل في حركة شبه صلاتية، وظلّ الأوراق المخرّم يرتجف على الورق الأبيض وبين فناجين القهوة الصغيرة. جدول الأعمال المطبوع ممدود على الحجر بينهما، تثبّته حصاة صغيرة عند الزاوية كي لا تقلبه النسمات، لكن لا أحد منهما يمد يده نحوه.
كان بإمكانهما، بكل سهولة، أن يشرعا في مراجعة “النقاط الرئيسة لعرض الشراكة مع المانحين”، كما عنونتها سامirah بعناية في رأس الصفحة. كان بإمكانه أن يسألهـا: «كم متوقَّع الحضور من الوفد الكويتي؟» أو أن تعيد عليه: «رجاءً لا تنسَ الإشارة إلى الإحصائية الأخيرة عن الإنتاج البحثي.» كل ذلك كان متاحًا، سهلًا، مهنيًّا، نظيفًا من أي أثر للحديث الليلي على السطح. ومع ذلك، صمتا.
رفح يحدّق في صفحة دفتره الجلدية المفتوحة أمامه؛ صفحة ناصعة لم يجرؤ قلمه على خدشها بعد. يضيّق عينيه خلف العدسات المستديرة، كأن بياض الورق يلمع أكثر من ضوء الصباح. تقلّصت الكتابة عنده مؤخرًا إلى معركة مع الجسد، وكل سطر جديد يستدعي مفاوضة مع الألم.
يتنفس ببطء، يرفع يده إلى جسر أنفه بحركة اعتادها حتى فقد معناها عند الآخرين، لكنها لم تعد تمرّ على سامirah كإيماءة عابرة. هذه المرّة يضغط بإبهامه ضغطًا أطول، كأنّه يحاول أن يسطّح وخزًا داخليًّا لا يراها أحد.
“كذبتُ.” يقولها دون مقدمات، وعيناه لا تزالان معلّقتين في الفراغ بينه وبين الورق. ثم يتدارك، في محاولة بائسة لـ«تصحيح» العبارة: “أو… حرّرتُ.” يتوقف، يبحث عن صياغة تليق بأستاذ جامعي يراجع ذاته كما يراجع نصًّا قديمًا. “الصداع ليس عَرَضيًا.” يسعل ضحكة قصيرة بلا مرح. “هو… يومي. أقيس ساعات الإنتاج العلمي بمدى قدرتي على تأخير اللحظة التي يتحوّل فيها الألم من خَلفي إلى… أمامي.” يحرّك أصابعه في الهواء، كأنّه يرسم قوسًا من مؤخرة رأسه إلى ما وراء عينيه.
الجملة، من حيث التركيب، تكاد تصلح لفقرة في فصل عن “جسد الناقد تحت ضغط النصّ”، جافّة، مضبوطة، مهنية. لكن يده ترتعش ارتعاشة خفيفة جدًّا وهو يضع القلم جانبًا، رنّة المعدن على الحجر أوضح من رعشة الجلد. هو نفسه يلاحظها، فيقبض كفه بسرعة على حافة الدفتر، كأن اتّكاءه على الورق سيعيد له ثباته.
كان جزء منه يودّ أن يتراجع فورًا، أن يحوّل كلامه إلى مزحة عابرة عن “آثار جانبية طبيعية للالتزام الأكاديمي”. فالاعتراف، في خبرته مع المخطوطات، خطوة لا رجعة فيها؛ ما إن تكتب الهامش حتى تخون براءة النص الأول. لكن شيئًا من سكون الصحراء التي تحيط بالقصر، ومن أثر سؤالهـا في الليلة السابقة عن “الخوف المتخفّي في هوامش كتاباته عن الحب”، قد تسلل إلى عضلات فكّه. لم يعد يستطيع شدّه إلى تلك الدرجة.
يميل قليلًا إلى الخلف، يسند كتفيه إلى الصخرة الباردة، غير واثق هل تحدّث إلى سامirah أم إلى فضاء النخلة فوقه. “أحيانًا…” يتوقف، يختبر اللفظة على لسانه قبل أن يطلقها، “أحيانًا أعرف أن عليّ أن أتوقف، أن أُطفئ الشاشة، أن أخرج إلى الفناء قبل أن يبدأ الطَرق.” يضغط بإصبعه على صدغه، كأنّه يحدّد موقع مطرقة وهمية. “لكنّ الموعد… الفصل الأخير… مراجعة المراجع… كلّها تدفعني خطوة أخرى إلى الأمام. ثم خطوة. ثم… لا يبقى إلا الصداع نفسه، وأنا أعمل حوله، لا قبله.”
الكلمات تخرج مرتّبة، بضمائر كاملة، كأنّه يقدّم تقريرًا عن حالة طالب يشرف عليه، لا عن جسده هو. ومع ذلك، يفضحه الصمت القصير بين جملة وأخرى؛ ذلك الفراغ الذي لا تملؤه الاستشهادات ولا المخطوطات القديمة. الصمت الذي لم يعتد مشاركته مع أحد.
تظلّ أصابع سامirah معلّقة في الهواء فوق قائمة المانحين، كما لو أنّها نسيت الجملة التي كانت تستعدّ لشرحها. للحظة كاملة لا تقول شيئًا؛ تكتفي بأن تنظر إليه، لا إلى سيرته الذاتية ولا إلى اسمه في خطابات الترشيح، بل إلى انقباض فكّه، إلى الطريقة التي تنحني بها كتفاه قليلًا كمن يتوقّع توبيخًا على تأخّر غير معلَن.
حين تتكلّم أخيرًا، لا ترفع صوتها أكثر مما يلزم لتفوق خرير النافورة في وسط الفناء: “تدري إن هذا مو طبيعي، صح؟” تتأمل كلمتها لحظة، ثم تضيف بلغة أفصح، كأنها تعيد الصياغة لتتناسب مع مقام الاعتراف الذي فتحه: “هذا ليس طبيعيًّا.” تسحب نفسًا قصيرًا. “أبي استمرّ في التدريس مع الشقيقة… مع الصداع النصفي… إلى أن سقط في الفصل.”
تنزلق كلمة “سقط” من فمها أرقّ مما خطّطت له، حافّة الحرف تكشط شيئًا من ثباتها المصقول. يمرّ ظلّ سريع على ملامحها؛ ليست الدكتورة المنسّقة الواثقة التي تجادل المانحين بأرقام ونِسَب، بل ابنة رجل كانت تراقب يده ترتعش وهو يكتب على السبّورة، وتعدّ أنفاسه بين سؤال وآخر. يدها التي لا تزال مرفوعة فوق الورق ترتجف رجفة خفيفة، تكاد لا تُرى، لكنها تكفي لتشقّ شعرة في قشرة الاتزان التي ترتديها كل صباح.
تتعلّق كلمة «سقط» في أذنه كخطأ نسخي فادح في مخطوطة نادرة؛ لا يستطيع أن يتجاوزها. يرفع نظره إليها تمامًا، كما لو أنّه يراها لأوّل مرّة منذ وصوله، بلا حواجز الألقاب ولا هوامش السيرة الذاتية. لا يبقى في ملامحه ذلك البُعد المهذّب الذي يتقن ارتداءه في الندوات، بل فزع صريح واعتراف متأخّر بأن ما قالته ليس «حكاية تحذيرية» بل شقًّا في جدار قديم.
يتعثّر لسانه على أبسط صيغة تعزية: “أنا… آسف.” الكلمتان، حين لا تتعلّقان بنصّ ولا شخصية روائية، تثقلان فمه كجملة غير منقّحة. عينه تتحرّك على وجهها، تتوقّف عند انشدادٍ خفيف في زاوية فمها، عند الطريقة التي ترفع بها كتفيها كمن يستعدّ لوابلٍ غير مرئيّ. يدرك، على مهل موجِع، أنّها لا تلوّح له بقصّة أبيها كأداة إدارة موارد بشرية، بل تفتح أمامه باب حزنٍ تحتفظ بمفتاحه بعيدًا عن المانحين والموظفين. في لحظة خاطفة يخطر له أنّها، مثله تمامًا، تعيد كتابة سيرة جسدٍ خانَ صاحبه باسم «الرسالة»؛ لكنّها، على خلافه، تجرؤ على نطق الفعل بصيغة الوقوع لا الاجتهاد.
الهواء بينهما يتغيّر، كما يفعل قبل هبوب عاصفة رملية؛ ينخفض الضغط، وتحدّ البصيرة. لثوانٍ لا يمدّ أيٌّ منهما يده إلى الاحترافية كدرع. تتابع، كأنها تخاطب النخلات فوقهما: “كان يقول لي دائمًا إن الإخلاص يعني أن تعطي حتى يؤلمك. صدّقته سنين.” يمرّ نفس من صدرها بين ضحكة مكتومة وغصّة. “والآن أقضي أيامي وأنا أقنع الآخرين أن السقوط ليس ثمنًا مشروعًا لأي رؤية.” حين تعود بنظرها إليه لا يبقى في عينيها أثر للمنسِّقة؛ فقط ابنة دفعت الثمن مرّة، وتحذّره، بلا تصرّف، من أن يدفعه عنادًا باسم العلم.
تهتزّ الأوراق فوق المقعد بنسمة عابرة، وتتبعثر نقاط الحديث المخصّصة للمانحين كأشياء واهنة لا علاقة لها بما يقف بينهما الآن. يجلسان هناك، جسدان طموحان انتبها فجأة إلى حدودهما، لا يواجهان توقّعات المؤسّسة فحسب، بل ذلك الجهاز الهشّ من أعصاب ودم أُجبر على حمل الرسالة وحده. يطوي رَفَح دفتره من غير أن يضيف سطرًا. يقول ببطء، كأنّه يجرّ جملةً من عمق جمجمة تؤلمه: “لو أرسلتُ المسوّدة متأخّرة… لن ينتهي العالم.” ليست نذرًا بطوليًّا، لكنها أوّل مرّة يسمّي فيها عمله شيئًا قابلاً للتفاوض أمام أحد. إيماءتها في المقابل صغيرة، جادّة، وحين تزحزح جدول الاجتماع غير الممسوس بظهر كفّها إلى جانب، يبدو الفعل كاتفاق هدنة هادئ: بين مشاريعهما وأجسادهما، بين المجازات اللامعة وتلك الذوات الفانية التي تعلّمت، على استحياء، أن تعترف بضعفها بصوت مسموع.
في صباح اليوم التالي، والحرارة قد بدأت تُزاحم الظلّ القليل في الفناء قبل أن تبلغ الشمس كبد السماء، يجلسان في موضعهما المعتاد تحت النخلات، وأكواب القهوة تبرد أسرع مما يتقدّم «نصّ المانحين». يمرّان على الجمل المكرّرة ذاتها، لكن الكلمات، بعد ليلة الأمس، تبدو له كأنّها قشرة رقيقة تغطي شيئًا أكثر خشونة وأسئلةً لم تُصَغ بعد.
حين يصل رَفَح إلى العبارة المحفوظة: «الثقة الفطرية»، تتعثّر عيناه عليها.
لا يواصل القراءة. يضغط شفتيه، ثم يرفع رأسه.
“هذه…” يتوقف، يبحث عن صيغة أقلّ مباشرة، فلا يجد. “ليست دقيقة.”
تلتفت إليه، القلم معلّقًا بين أصابعها فوق الهامش. “أي جزء؟”
ينقر بإصبعه على السطر، كمن يصحّح خطأً مطبعيًا في عقدٍ قانوني: “الثقة هنا لم
تكن فطرية. كانت… موضوعة قيد النقاش، لا مفترضة سلفًا.”
يتغيّر شيء في ملامحها؛ دهشة خفيفة من كونه مستعدًّا ليمسّ لغة صيغت بعناية
على مقاس خيال المانحين. “قيد النقاش؟” تعيد الكلمة، تمطّها كأنها تختبرها
على لسانها.
يهزّ رأسه مرّة واحدة، جادًّا على غير عادة اعترافاته. “مُراجَعة، مُختَبَرة، معَلَّقة
في الهامش.” يمرّ ظل ابتسامة على فمه، فيه شيء من السخرية من نفسه أكثر مما
هو منها. “مثل حاشية ظللتُ أعود إليها متوقِّعًا أن تنهار حجّتُها , ولم
تنهَر.”
تخرج منها زفرة صغيرة، تشبه كثيرًا ضحكة مكتومة اختلطت براحةٍ لا تعترف
بها. تلين كتفاها، وتنزل عيناها إلى الورقة، لا لتعيد صياغة الجملة فحسب،
بل لتمنحها وزنًا جديدًا.
“حسنًا،” تقول، وتخطّ فوق «فطرية» سطرًا حاسمًا. “فلنقل: ثقة بُنِيَت مع الوقت.”
تتردّد لحظة، ثم تضيف، دون أن تنظر إليه: “وثقة اختُبِرت تحت الضغط.”
يصمت، يراقب خط يدها وهو يعيد نحت العبارة، ويشعر، على غير عادته، أنّه ليس موضوع الدراسة بل شريكًا في صياغة نتيجة مشتركة. تمتدّ أصابعه، بتردّد، إلى صفحته هو؛ يشطب كلمة «اختار» حين يتحدّث عن قدومه إلى القصر، ويستبدلها بعد تردّد بـ«قَبِل». الفعل الجديد أقل بطولة، وأكثر صدقًا مع العدد الحقيقي للمصادفات، الضغوط، والإغراءات التي أوصلته إلى هنا.
تلمح التعديل بطرف عينها، لكنّها لا تعلّق فورًا. تكتفي بأن تميل برأسها
قليلًا، كمن يسجّل ملاحظة سرّية لصالحه. بعد دقيقة، ترفع صوتها بالنبرة
الرسمية التي يحفظانها:
“جئتَ إلى قصر الوفاء لأن…؟”
ينظر إلى السطر المعدَّل، ثم إليها. “لأنني ظننت أنّه مكان يصلح للاختباء خلف
العمل.” يتوقّف، يضيف، ببطء محسوب: “ثم اكتشفتُ أنه مكان يُسيء إلى من يحاول
الاختباء كثيرًا.”
ترمش، ويظهر الخطأ السريع في تنفّسها قبل أن تستعيد نبرة التنسيق
الهادئة: “هذه، مع الأسف، جملة ممتازة للمانحين.”
يبتسم، ابتسامة قصيرة لا تتجاوز فمه لكنّها تترك أثرًا في عينيه. “أخشى
ذلك.”
بينهما، على الطاولة الحجرية، يتحوّل النص شيئًا فشيئًا من ملصق بروتوكولي إلى مستند حيّ، يحمل آثار محوٍ، وإضافات، وهوامش صغيرة كُتِبت على عجل: «راجِع» في زاوية، و«كثير من الصدق» بجانب جملة أخرى، كتبتها سامirah بنصف مزاح. يمرّ نسيم دافئ يبعثر الأوراق لحظة، فيمدّ كلاهما يده في الوقت نفسه ليحفظها من الطيران؛ تنزلق أصابعهما على الحافة ذاتها، يتراجعان في اللحظة نفسها، كأنّهما متفاهمان على أن تبقى ملامسة الأيدي خارج المسوَّدة، مهما تمكّنت الاعترافات من التسلّل إلى متنها.
تتشكل لنهاراتهما بنيةٌ غير معلنة حول هذه الإعادات المتكررة، لإخراج نصٍّ يبدو للمانحين مصقولًا، بينما يعيدان في الخلفية تحرير نسختين أكثر عنادًا: نسختيهما من نفسيهما. في الشريط الضيّق من الظلّ تحت النخلات، يبدآن رسميَّين: خطوط زمنية، صيغًا محسوبة، سيناريوهات للأسئلة الصعبة. لكن الجلسة لا تبقى في خانة “العمل” طويلًا؛ تنزلق، كما اعتادا، إلى منطقةٍ أخرى.
تسأله، وهي تقلب صفحة جدولٍ مطبوع: “طلابك… كل واحد منهم أزمة صغيرة تمشي
على قدمين. كيف لا تُستنزَف منهم؟”
يفكّر لحظة، يختار ألفاظه كما يختار مراجع الحاشية: “أسمح للأزمة أن تنتهي
عند باب المكتب، نظريًا.” يمرّر يده على صدغه. “عمليًا… لا تنتهي.”
يردّ الكرة: “وأنتِ؟ بعد تلك المرّة التي اختفى فيها المموِّل، لماذا لم يرحل
الفريق؟”
ترفع حاجبًا، بنبرة جافة: “بعضهم رحل. الباقون لم أبقِهم أنا. هم قرّروا
البقاء. أنا فقط تعلّمتُ ألّا أعدهم بما لا أملك.” تضيف، بعد وقفة قصيرة:
“وألّا أستدين من صحّتي لأدفع فواتير انطباعات الآخرين.”
يتأمّل حدّها الصارم مع ذاتها قبل غيرها، ويرى فيه نوعًا من التقشّف يشبه نسخته هو، لكن باختلاف في الهدف لا في الحزم. يعلّق، كأنه يختبر جرأة ملاحظة شخصية: “أنتِ أقلّ تهوّرًا بكثير مما توحي به ابتسامتك أمام الضيوف.”
تضحك، ضحكة قصيرة لا تحمل دفاعًا بل اعترافًا أن قناعه لم يخدعها: “وأنتَ أقلّ برودًا بكثير مما توحي به في مقالاتك.” لا تضيف “وليلة البارحة”، لكنه يسمعها في الفراغ بين الجملتين.
لا يمدّ أيّ منهما يده أبعد من تلك الملاحظات، لكن القولين يبقيان معلّقَين في الهواء كتصويبين هادئين على مسودة صورة كلٍّ منهما عن الآخر. شيئًا فشيئًا، لا يعود الدفاع الافتراضي هو درجة الحرارة الافتراضية في الحديث؛ يخفّ التوتّر الحذر، لا ليغيب، بل ليتحوّل إلى انتباه أهدأ، يسمح بأن تبقى الأسئلة مفتوحة، دون شعورٍ دائم باقتراب محاكمة.
نافذة الاتصال القصيرة بعد الظهر تنفتح كشقٍّ في جدارٍ سميك، ومعها يندفع سيل جديد من الرسائل: تذكيرات لجانٍ متراكمة في بريده، واستفسارات رعاةٍ متحفّزة في بريدها. يجلسان متجاورين في مساحة العمل المشتركة، شاشتان مضيئتان في عتمة حجريّة باردة، وهدير المكيّف يمتزج بنقرات لوحات المفاتيح.
تومض رسالة من معلّمٍ قديم في صندوقه، عنوانها الجافّ يتحدّث عن “تغيُّر في
مؤشّرات الإنتاجية”. يتجمّد لحظة، كأنه يتلقّى ضربة في مكان يعرفه وحده. إصبعه
يحوم فوق زرّ الحذف، ثم يتذكّر – على غير عادته – حديث الصباح.
تقول سَـميرة، وهي تلمح قبضته المنكمشة أكثر مما تلمح الشاشة: “أسمح؟” لا
تطلب الاطّلاع على البريد، بل على ما شدّ يده بهذا الشكل. يتردّد، ثم يزيح
الحاسوب قيد سنتيمترات، كأنّما يفتح كُوّة في جدارٍ داخلي، حتى يبدو لها سطر
العنوان.
تقرأه، لا تتصفّحه. تهزّ رأسها ببطء، وتقول بنبرة منخفضة لا تشبه تلك التي تستخدمها مع المموّلين: “هم لا يعرفون كيف يقيسونك إلا بعدد الصفحات، وعدد التقارير. لا أحد منهم يسأل إن كنتَ تخرج سليمًا من تحت هذا الركام.”
الجملة، على بساطتها، تسقط في صدره سقوط حجر في بئرٍ عميقة، فيسمع رجع صداها في أماكن لم يجرؤ منذ زمن على الاقتراب منها. اعتاد أن يبرّر، أن يعتذر مقدّمًا، أن يكتب سطورًا دفاعية قبل أن يُطلَب منه الدفاع. هذه المرّة، يجد أصابعه تفتح صفحة جواب جديد، ثم تتوقّف في منتصف السطر الأول.
يلتفت إليها، وكأنّه يطالب شاهدًا على خروجه عن النصّ المحفوظ: “تساعدينني
في صياغة الرد؟”
تعلو حاجباها قليلًا. “على أستاذك؟”
يهزّ كتفيه بحذر من يجرّب لغةً جديدة: “على زميلي السابق في… عبادة
الأرقام.”
يُريها المسودّة الأولى: رسالة خالية، تقريبًا، من الاعتذار المسبَق. لا يَعِد فيها بتعويض كل “نقص” في أسرع وقت، بل يذكر، بجفاف محسوب، حدود الوقت، وحدود الجسد، وحدود ما يقبله من نبرة. تميل نحوه، تقترب بما يكفي لأن يشمّ رائحة قهوتها الباردة، وتبدأ تقرأ بصوت شبه مسموع، تعدّل كلمة هنا، تحذف جملة متواضعة أكثر من اللزوم هناك.
“هذه،” تقول وهي تشير إلى عبارة “آسف جدًّا على الإخفاق”، “تشبهك في عُمر الخمس وعشرين، لا في عمرك الآن.” تشطبها، وتستبدلها بـ: “أُعيد تقييم أولويّاتي بما يضمن جودة العمل واستمراري الشخصي.” ترفع عينيها إليه: “هكذا أفضل. أقلّ ركوعًا، وأكثر احترامًا لنفسك.”
ينظر إلى الجملة الجديدة كما لو كانت غريبة عنه، ثم يجرّبها في ذهنه، فيكتشف أنّها لا تنفجر فيه كما توقّع. يضغط زرّ الإرسال، والإيماءة الصغيرة تشبه إلى حدٍّ ما توقيع معاهدة مع نفسه، لا مع المرسِل وحده.
يدرك، في اللحظة ذاتها، أن السماح لها بلمس لغته المكتوبة – تلك المنطقة التي ظلّت دومًا الأكثر تحصينًا في حياته – هو نوع من فتح الهوامش أمام قلمٍ آخر. ليس فقط على رسالةٍ عابرة، بل على المسودة غير المُعلَنة لحياته كما اعتاد أن يديرها.
في ذلك المساء، والسماء فوق الكثبان تميل إلى بنفسجيٍّ مكدوم، يتدرّبان على
«دخول» الفناء أمام المانحين: خطوات محسوبة، توقيت الالتفات، الموضع الذي
سيمدّ فيه يده إلى مرفقها فوق الحجر غير المستوي. اللمسة، في الخطة، ليست
سوى إشارة مُدرَبة على الألفة. لكن حين تُطبق أصابعه فعلًا على ساعدها، يتغيّر
شيء صغير وحادّ في الهواء. تشعر بقفزة خاطفة في نبضها تحت جلده، ويشعر هو
بأن كفّه تشدّ قبضتها لحظة أطول مما يسمح به المنطق واللائحة قبل أن
يتركها.
“يجب أن تبدو الحركة طبيعية،” تقول، نبرتها ثابتة لكن أخفّ من
المعتاد.
“يبدو أن أدائي يحتاج تدريبًا إضافيًّا،” يجيب، محدّقًا في الماء المتكسِّر حول
نافورة الفناء بدلًا من عينيها. ما بينهما، في المسافة القصيرة بين المرفق
واليد، يهتزّ الخطّ الفاصل الذي رسماه بحرص بين المهنيّ والتمثيليّ، كأنّ حدوده
بدأت تُمحى بصمت.
في ليلة فعالية النجوم التي يديرها محمود، تصعد ترسّبات تلك التحوّلات الصغيرة معهما إلى السطح كغبارٍ لا يُرى. يجعل حديث الصباح عن الثقة والبقاء النصَّ المُمَثَّل لعلاقتهما يبدو، للمرّة الأولى، أضيقَ بكثيرٍ ممّا جرى حقًّا بينهما. بينما يتوزّع الضيوف بين المناظير والوسائد، يلتقط محمود نظرة رفاح، ويرفع إبهامًا خفيًّا إعجابًا بـ«مدى الإقناع» الذي يبدوان عليه معًا. هذه المرّة، لا يشعر رفاح بتصلّب الانزعاج المعتاد، بل بمزيج مربِك من الحرج واعترافٍ متردّد بأن الواجهة لم تَعُد واجهةً خالصة. وحين تبتعد سميرة خطوة عن دائرة الضوء وتنسلّ إلى حافّة السطح، يتبعها؛ ليس فقط ليظهرا كـ«جبهة واحدة» أمام الحاضرين، بل لأنّ زاوية الظلّ تلك صارت، دون اتفاقٍ صريح، مكانًا يلجآن إليه كي ينزلق الحديث تحت سطح النصّ المتَّفَق عليه، نحو الجروح والعهود التي توشك أن تُسمَّى باسمها.
السؤال يعلّق بينهما، كخيطٍ مشدود من ضوء النجوم وغبارٍ دقيق لا يُرى.
تقول سَميرة، بصوتٍ منخفض حتى يكاد يضيع تحت ضحكة محمود السهلة وهمهمة
الضيوف:
«شغلك عن أخلاقيات الحب… هو فعلًا عن الحب؟ ولا عن الخوف؟»
أول رد فعل عند رفاح هو الدفاع؛ تستقيم كتفاه قليلًا، وتشتدّ أصابعه على
حافّة السور الحجري الخشن.
«العالِم،» يقول وهو يثبت نظره على الأفق الداكن، «مُلزَم أن يقاوم العاطفية.
وإلا تحوّلنا إلى مُدافعين لا نُقّاد.»
الجملة مصقولة؛ سبق أن قالها في محاضرات وقاعات ندوة، وكانت دائمًا تُقابَل بهزّات رؤوس مقتنعة أو اعتراضات منهجية يمكن احتواؤها. لكن هنا، في هواء الليل الرقيق، تسمع الجملة كأنها شيء هشّ يقرؤه من بطاقة قديمة، لا كقناعة حاضرة.
تلتفت نحوه قليلًا، لا لتجادله بل لتقيس المسافة بين ما قاله وما لم يقله. تترك ثواني صامتة تمرّ، وكأنها تمنحه فرصة التراجع عن الحصن الذي استدعى منه هذا الشعار.
«مقاوَمة العاطفة،» تعيد كلماته بهدوء، «ليست هي نفسها مقاومة أن نحكي
الحقيقة عن أنفسنا.»
لا تضغط. الجملة تخرج وكأنها ملاحظة جانبية، لكنها تقف بينهما كطاولة لم
يقرّرا بعد ماذا يضعان فوقها.
يُدرك فجأة أن استقامته المبالغ فيها فضحته أكثر مما حَمته. يشعر بعضلات ذراعيه متيبّسة حول الحجر، فيرخي قبضته ببطء، كأنّه يعترف بأن الحجَر لا يحتاج إلى هذا القدر من الدفاع.
«الحقيقة،» يقول بعد لحظة، متشبّثًا بنبرةٍ جافة، «مكانها في الهوامش، لا
في السيرة الشخصية.»
يُفاجِئ نفسه بهذه الجملة؛ ليست من مخزون محاضراته، بل من تلك المسافة
الغائمة بين المبدأ والتبرير.
ترمش عينا سَميرة، تنقلان نظرتهما بين يده والحافّة القاتمة
للصحراء.
«عجيب،» تهمس، والنبرة نصف ساخرة نصف متأمّلة، «أن تكتب عن الوفاء، ثم تُنفِي
عن نفسك أي حقّ في أن تشعر بشيء يشبهه.»
يتوتّر فكّه، ثم يضحك ضحكة قصيرة تخلو من المتعة: «أكتب عنه لأنّي أعرف
خطورته.»
تجيبه، دون أن تلتفت هذه المرّة: «أم لأنّك عرفت ثمن غيابه؟»
الجملة الأخيرة تسقط بينهما ثقيلة، لكنها لا ترتطم؛ تبقى معلّقة في الهواء، تنتظر إن كان سيلتقطها أو يدعها تتطاير مع رمل الليل.
لثوانٍ طويلة، لا يجيب سوى السماء. يصلهم صوت محمود من الدائرة المضيئة خلفهما، وهو يرفع يده نحو كوكبة الجبّار، يمزح عن أن «حتى النجوم تمشي في قوافل»، فتتعالى ضحكاتٌ مكتومة وتخفت. نسمةٌ رقيقة تصعد من حافة السطح، تلتقط طرف شال سميرة وتُرجِعه في نصف التفافة، حاملةً بينهما أثر عودٍ خفيفًا يختلط برائحة الحجر البارد.
يُدرِك رفاح، في ذلك الفراغ الهادئ بين مزحة محمود وهمهمات الضيوف، أن كلماته قبل قليل كانت أخفّ من السؤال الذي وُجِّه إليه؛ كأن عباراته عن «الموضوعية» و«مقاومة العاطفة» أوراقُ برديّ شفافة لا تستر شيئًا فعليًّا. يشعر بالسؤال الذي طرحته ما يزال مضغوطًا تحت أضلاعه، جملةً لم يجاوِب عنها بل دفعها إلى الداخل.
يرفع رأسه، ينظر إلى العنقود الضوئي المنضبط فوقهما؛ تلتمع الثريّا كقبضةٍ من نارٍ باردة معلّقة في العتمة. يلاحظ، في حِدّةٍ غريبة، كم يشبه هذا التجمّعُ العنايةَ المُفرِطة التي حشر بها ماضيه في هوامشٍ منظّمة وحواشٍ أكاديمية أنيقة: كل وجعٍ مؤرَّخ، كل خسارةٍ محوَّلة إلى حُجّةٍ أو حاشية.
يمتدّ الصمت حتى يصير له جسم، كأنه ضيفٌ غير مدعوّ جلس بينهما على الحافة الحجرية. في البداية يبدو الصمت مريحًا، حجابًا مهنيًّا مألوفًا يحميه من التورّط. ثم، شيئًا فشيئًا، يشعر بأن هذا الحجاب نفسه يضيّق تنفّسه. يَعي أن التملّص، الذي كان دومًا خياره الآمن في الندوات والحوارات العامة، قد صار هنا أكثر انكشافًا من أن يعفيه. فجأة، يبدو له أن الاستمرار في الاختباء وراء النظريّة أخطر من أن يترك شقًّا صغيرًا في جدار سيرته.
تتحرّك يده فوق الحجر، كأنها تبحث عن موطئ آخر غير هذا القبض الدفاعي. تتسلّل إليه فكرة مزعجة بأن سماحه للصمت بالتمادي لن يحفظ شيئًا هذه المرة؛ سيحفظ فقط صورته التي يتعلّق بها، صورة الباحث الذي لا يُمسّ، بينما يتعرّى ما وراءها أمام امرأةٍ تقف على بُعد شبر، تنتظر، ولا تُلحّ. فيُدرك، على مهل، أن اللحظة لم تعد تقبل أن يُعامِل نفسه كنصٍّ ثانويّ يُؤجَّل إلى ملحقٍ لاحق.
«كنتُ مخطوبًا مرّة،» يقول أخيرًا، لا ينظر إليها، بل يثبّت عينيه على الثريّا
كأنها نقطةُ اهتداءٍ لا يجوز أن يضيعها.
تسقط الجملة بين كتفيهما بثقلٍ يكاد يكون ماديًّا، كأن الهواء الضيّق فوق
الحافة الحجرية ضاق أكثر.
«خطّطنا لكل شيء،» يواصل، كلماته مقطَّعة بانضباطٍ قديم. «جولات مؤتمرات،
زمالات زيارة، تقويمٌ كامل لحياتنا مرسومٌ حسب مواعيد التقديم والفصول
الدراسية.»
تتقلّص أصابعه فوق الحجر، تنطوي يده في قبضةٍ متصلّبة لا يراها هو لكنّها لا
تغيب عن سَميرة.
«ثم جاءت تشخيصاتُ أمّي.» يتنفّس بين الكلمتين كأنّ الفاصل نفسه جرح. «بقيتُ معها. فوّتُّ موعد منحة. هي سمّت ذلك “لا مسؤوليّة عاطفيّة”… قالت إنّي أدمِّر مستقبلنا من أجل عاطفة.»
تتعثّر الكلمة الأخيرة على لسانه لحظةً قبل أن تخرج مصقولة كاصطلاح نقديّ، لكنّ حدّتها لا تشبه مصطلحًا أكاديميًّا. «العاطفة» هنا ليست موضوعًا في فصلٍ ثانٍ من الأطروحة؛ هي التهمة التي حاكمت قراره.
ينطق الإنكليزية التي استخدمَتها خطيبته, sentiment, بإنجليزيّتها الدقيقة، يلفظ حروفها كما لو كانت مصطلحًا في مقالةٍ محكَّمة، ثم يحمّلها قدرًا محسوبًا من المرارة لا ينسجم مع نبرته المحايدة المتكلَّفة.
في داخله، يشعر أنّه يعيد سرد ملخّص حالةٍ سريرية أكثر مما يعترف بسيرةٍ تخصّه؛ نسخة من الأحداث رتّبها بما يكفي من الانضباط اللغوي كي لا يضطرّ إلى لمس ما تحتها. لكنّ حقيقة أنّه نطقها هنا، على هذا السطح، في ظرف حكايةٍ لا تُكتَب في تقرير، تخونه؛ تجعل كلّ فاصلةٍ في كلامه تبدو أقلّ يقينًا، وكلّ صمتٍ بين جملةٍ وأخرى أشبه باعترافٍ لم ينجز صيغته بعد.
يبلع ريقه، وتتحرّك أوتار عنقه في ضوء الفانوس كخيطٍ مشدود أكثر مما
يلزم.
«تركتني،» يقولها بالعربيّة هذه المرّة، أخفض نبرةً، وكأنّ الذكرى تسطّح حروفه
وتمحو أيّ تزيينٍ بياني. «أنهيتُ الرسالة. اللجنة كانت… منبهرة.»
تتبعثر همزة «منبهرة» على شفتيه قبل أن تستقرّ في صيغةٍ منضبطة؛ كلمةٌ ناجحة في تقرير سنويّ، لكنها هنا تبدو كقشرةٍ لشيءٍ لم يعد يجرؤ على تسميته. يضيف، بعد وقفةٍ يكاد لا تُسمَع: «نُشِر الفصل الأوّل في مجلّة مرموقة.» كأنّه يسجّل إنجازًا على لوحٍ معلّق في دهليز مظلم.
في جانب وجهه المضاء والهالة الداكنة حول عينيه، تراه سَميرة كمنحوتةٍ من ظلّ ونجوم: الباحث النموذجيّ، واقفًا بالضبط في المكان الذي يُفترَض أن يكون فيه، يحمل أطروحةً ومسار نشرٍ منتظمًا بدلًا من حياة.
تسمع الفراغ بعد كلمة «منبهرة» كأنّه مقطعٌ إضافيّ في الجملة، أبلَغ من الكلمة نفسها؛ حسابًا صامتًا لما دُفِع ثمنًا لتلك الانبهارات. يختلط في أذنها طقطقة لوحة المفاتيح التي تخيّله يواصل بها العمل ليلًا بصوتِ بابٍ أُغلِق، وخطواتٍ ابتعدت في ممرّ جامعة أجنبية.
ينقبض صدرها اعترافًا خفيًّا؛ ليس فقط لجرحه، بل للبناء كاملًا الذي شَيَّده فوقه: «الموضوعيّة» كدرعٍ حديديّ، «الإنتاجيّة» كوثيقة إثباتٍ أنه اختار «الصواب» وأنّ التضحية لم تكن عبثًا. تدرك، في ومضةٍ خاطفة، كم يشبه هذا البناءُ استراتيجيّاتها هي نفسها، وإن اختلفت الموادّ.
في حركتها الخفيفة نحو السور المنخفض، تشعر أنّ الاعتراف الذي أطلقه قد فتح قفلًا قديمًا في صدرها هي أيضًا. تقترب كتفها من كتفه حتى يصبح الهواء بينهما شبرًا واحدًا يمكن لنسمةٍ واحدة أن تُلغيه أو تُبقيه. تقول، بنبرةٍ تحاول أن تبدو تقريرية: «ابنةُ خالتي تزوّجت للاستقرار.»
يتابع رفاح خطّ ضوء الليزر الأحمر الذي يرسمه محمود نحو النجم القطبي، بينما تمتدّ كلمات سميرة على نفس الخطّ، كأنّها تحاول أن تثبّت لنفسها شمالًا خاصًّا بها. «رجلٌ طيّب، وظيفة ثابتة، أهلٌ راضون…» تُكمِل، ثم تضحك ضحكةً قصيرةً بلا فرح. «تُرسِل لي رسائل صوتيّة… دائمًا أقلّ من دقيقتين… عن “تعديل التوقّعات”، وعن أنّ الواقعيّة فضيلة.»
تلتقط الكلمة الأخيرة بالإنكليزيّة، realistic, تلفظها كما لو كانت توصيةً علاجيّة من اختصاصيّة نفسية لا من قريبٍ يختنق في شقّةٍ مفروشة على أطراف مدينةٍ مزدحمة. تنفرج شفتاها لتقول شيئًا ساخرًا، ثم تنطبقان في خطٍّ مشدود قبل أن تفرج زفرةً طويلة.
«وعدتُ نفسي،» تضيف بصوتٍ أخفض، «أني لن أساوِم على عملي لأجل رجل. لا على ساعاتي، ولا على قراراتي، ولا على هذا المكان.» تشير برأسها إلى الفناء والأسطح والقِباب الصغيرة كما لو كانت تشير إلى حصنٍ بناه تعبُها حجَرًا فوق حجر. ينزلق نظرها إلى الساحة البعيدة تحت السطح، حيث يلمع خيط الماء في النافورة كنبضٍ شحيح.
«لكن أحيانًا…» تتردّد، كأنّ العبارة التالية هي أوّل جملةٍ في اعترافٍ غير مُمَرن، «أتساءل ما الذي يكلّفني إياه هذا العهد.» تسكت، وتدرك متأخّرة أنها لم تجعل الجملة في صيغةٍ جمعٍ مريح: «ما الذي يكلّفنا»؛ تركتها مفردة، تخصّها، بلا درعٍ نظريّ.
يحسّ رفاح بأنّ الجملة الأخيرة التصقت بكلماته هو، بالخيط الخفيّ بين خوفه من أن يضيع في الحبّ وخوفها من أن تضيع بدونه. يتبدّل شيءٌ صغير في الهواء؛ كأنّ الحوار المحفوظ الذي تمرّنا عليه في الصباحات (عن «اختياره الواعي» و«رؤيتها للمكان») انزلق درجةً من مقام التمثيل إلى مقامٍ أوطى وأكثر خطرًا، حيث لا توجد جملٌ مكتوبة سلفًا، بل احتمال أن يُكتَب نصٌّ جديدٌ لا سلطان لهما الكامل عليه.
في الصباح التالي، حين تنفتح نافذة الإنترنت المتقطّعة كشقّ في جدارٍ سميك، يرنّ هاتف سميرة بسلسلةِ إشعاراتٍ متلاحقة من مجموعات العائلة: «بنات خالك»، «أخبار الأهل»، «قهوة الخميس». تهتزّ الشاشة فوق الطاولة الخشبية ككائنٍ نفد صبره.
يلتقط رفاح من طرف عينه ذلك التوتّر الدقيق في كتفيها قبل أن تمدّ يدها إلى الهاتف؛ انحناءةٌ طفيفة في العنق يعرفها جيّدًا من مراقبة المخطوطات: لحظة ما قبل أن يفتح المرء صفحةً يعلم أنّ فيها ما لا يريد تمامًا أن يراه.
«الاتصال الفيديو من خالتي سهام،» تقول بضحكةٍ قصيرةٍ مصطنعة، أكثر توجيهًا له من الهاتف، ثم تبتعد بضع خطواتٍ نحو حافة الفناء حيث يصل الواي فاي على استحياء. تتغيّر نبرتها في اللحظة التي تومض فيها صورة الخالة على الشاشة؛ تصبح أعلى نصف درجة، وأشدّ حلاوةً مما تحتمل حرارة الصباح.
«سَمييييرة! يا حبيبتي!» يأتي صوت الخالة مفرط الحماس، تتبعه مباشرةً: «وين العريس؟ خلّيني أشوف هذا البطل اللي صابر عليك.»
يميل رفاح برأسه قليلًا دون أن يرفع عينيه عن السطر الذي كان يراجعه، يسمع الكلمة «صابر» فتطعن أذنه كما تطعنه دائمًا في سياقاتٍ أخرى: صبر على ماذا بالضبط؟ على وجودها، أم على طموحها؟
تقول سميرة، بابتسامةٍ يسهل عليه الآن أن يميّز شدّتها: «والله يا خالتي، رفاح ما يقصّر…» وتشرع في بناءِ الصورة المتّفق عليها: «يقوم بدري، يمشي معاي للمكتب، ويذكّرني بالقهوة والفطور…»
هنا، يدرك أنّ لحظة الدخول إلى المسرحيّة قد حانت. يضع قلمه بعناية على الطاولة، ينهض من تحت النخلات دون كلمة، ويتّجه نحوها بخطى عاديّة تمامًا، كأنّه يقوم بطقسٍ صباحيّ لا علاقة له بكاميرا تترصّده. يمرّ خلفها بحيث تلتقطه عدسة الهاتف في طرف الإطار، يحمل فنجان قهوةٍ ساخنًا، يضعه على الحافة الحجرية قرب يدها في اللحظة التي تقول فيها بثقةٍ مرحة: «تخيّلي، يحفظ جدولي أحسن منّي!»
تتعالى من الهاتف زغرودةٌ صغيرةٌ مكتومة، وضحكة رضا: «ما شاء الله، الله يثبّتكم يا بنتي. لقيتي واحد يفهم الظروف، احمدي ربّك كثير.»
لا تلتفت سميرة، لكنها تسمع حرَكة الفنجان وموضعه الدقيق، وتشعر بمروره قريبًا من كتفها؛ مجرّد ظلّه يكفي. شيءٌ في عمودها الفقري يلين نصف درجة، وكأنّ هذا الكوب هو الدليل المادّي على قصةٍ كانت قبل لحظاتٍ مجرّد حبكةٍ مُتَّفَق عليها في هواء السطح ليلًا.
يزيد رفاح، وهو ما يزال في مرمى الكاميرا، إيماءةً صغيرةً برأسه باتّجاه الشاشة حين تلمحه الخالة: «صباح الخير يا خالتي،» يقول بالفصحى المكسوّة بحافةٍ خليجيةٍ خفيفة، نبرة احترامٍ بلا استعراض. تفيض الخالة بدعواتٍ مباركة وعبارات ثناءٍ على «أدبه وهدوئه»، بينما يعتذر هو بلطفٍ عن العودة إلى «العمل» كي لا يطيل الظهور ويُسرف في مصداقيّةٍ لا يريد التورّط فيها أكثر مما يلزم.
يعود إلى مقعده تحت النخل وهو يسمع من بعيد نبرات خالته التي تخفّ قليلاً، وقد هدأت غريزة التفتيش مؤقّتًا. يلتقط كتابًا لا يقرأه، وعيناه معلّقتان على الخطِّ الرفيع الممتدّ بينه وبينها الآن: خطّ قهوةٍ وادّعاءاتٍ مشتركة، بدأ كنصٍّ مفبرك، ويأخذ، ببطءٍ مزعج، ملامح شيءٍ يصعب تمييزه بين الكذب الصرف والحقيقة الناشئة.
هناك، عند حافة الفناء، تواصل سميرة الحديث، تسند خاصرتها إلى الحجر الدافئ، وفوق فنجان القهوة الذي قدّمه لها، تبني طبقةً جديدة من «الواقعيّة» التي تتوقّعها منها العائلة، متّكئةً من دون أن تنظر على الرجل الصامت عند الظلّ، الذي صار، بطريقةٍ لم ينتبها إليها في الاتّفاق الأوّل، جزءًا من استراتيجياتها في البقاء كما هي دون أن تُتَّهَم بأنّها تطلب «أكثر ممّا يحقّ لها».
مع انقطاع الاتصال واستقرار الصمت في المكتب الصغير، يبقى الهواء مشحونًا ببقايا الضحكات المعلّبة عبر الشاشة. ابتسامة سميرة المدرّبة تنحلّ ببطء، تاركةً حول فمها ارتعاشةً خفيفة، كأنّ العضلات لم تعد تعرف أيّ وضعٍ هو الطبيعيّ.
«قالت لازم أحمد ربّي إن في واحد “مستعد يتحمّل ساعاتي”،» تتمتم، تُنزِل الهاتف مقلوبًا على سطح المكتب الخشبيّ كما لو أنّه جمرة. ينعكس ضوء الظهيرة على زجاج الشاشة المقلوبة، فتبدو كعينٍ مطفأة تواصل المراقبة من بعيد.
يجلس رفاح في الجهة المقابلة، بينهما طاولةٌ تتناثر عليها أوراقٌ وملفّات ومذكّرات مانحةٍ لم تطّلع قطّ على هذه التفاصيل الدقيقة من حياة موظّفيها. لا يمدّ يده بعبارات مواساةٍ جاهزة؛ لا يجيدها، ولا يصدّق معظمها. عوضًا عن ذلك، يجرّ نحوه دفتره الجلديّ المفتوح، ثمّ يدفعه ببطءٍ في اتّجاهها.
على الصفحات خطوطٌ محكَمة بخطّه النظيف، أسهمٌ وتعليقاتٌ جانبيّة، ومربّعاتٌ صغيرة تحيط بعباراتٍ بالإنكليزيّة والعربيّة: «leverage: سرديّة الرؤية البعيدة»، «إعادة توزيع الزيارات»، «تخفيف الضغط الإعلامي». في إحدى الزوايا رسم جدولًا يربط بين مواعيد المانحين ومواسم الحرّ، وأسفل الجدول سطرٌ مكتوب بخطٍّ أدقّ: «مساحة تفاوض لكِ، لا لهم».
«لو نقدر نرجّع زيارة المانح الأساسيّ لبداية الموسم البارد،» يقول وهو يشير بطرف القلم إلى تاريخٍ محدّد، «يصير عندِك حجّة إنّ البرامج تحتاج توسيع. أكثر استقلاليّة، أكثر وقت. استعجالهم نفسه نقدر نستخدمه لمصلحتِك لو صغنا الحكاية صح.»
لا يرفع عينيه فورًا إلى وجهها؛ يكتفي بمتابعة حركة إصبعها وهي تمرّ على الخطوط، كأنّها تتحسّس إمكانية مستقبلٍ مختلف قليلًا عمّا رسمته لها مكالمات الخالات والجارات.
تنحني سميرة فوق الدفتر، تتابع بعينٍ مدرَّبة توزيع الأسهم والمربّعات كما لو كانت تقرأ خريطةَ معركة، ثمّ تتوقّف عند التفاصيل الصغيرة: عند استبدال «المؤسّسة» بـ «نحن»، و«البرنامج» بـ «مشروعنا»، وعند تعليقٍ جانبيّ كتب فيه: «مساحة مناورة لنا لو ضغطوا على تسريع القرارات». تتسرّب ابتسامةٌ خفيفة إلى زوايا فمها، غير مصنوعة هذه المرّة.
«سويت هذا كلّه أمس في الليل؟» تسأل، وهي تسمع في خلفيّة رأسها جملة خالتها عن أنّه «يتحمّل ساعاتها»، وتقارنها بهذا الشكل الآخر من الاحتمال: أن يوسّع أحدهم الساعات بدل أن يتحمّلها. يهزّ رأسه بإيماءةٍ قصيرة، كأنّه يخشى أن يبالغ في قيمة ما فعل.
«مو لازم تساومين وحدِك،» يقول بهدوء، بدون نبرة إنقاذيّة أو شفقة، كأنّه يقرّر حقيقةً إداريّة فحسب. تسقط الجملة في صدرها بثقلٍ غير متوقَّع؛ في حياةٍ بُنيت على الاعتماد المتشدّد على الذات، لم تعتد أن يعيد أحدٌ ترتيب خططه هو ليحصّن خططها هي.
تمشي أناملها على حافّة الصفحة، تقلبها برفق، فيحتكّ ظاهر يدها بأصابعه للحظةٍ قصيرة. لا يعتذر هو، ولا تسحب هي يدها سريعًا. يخيّم بينهما صمتٌ دقيق، ليس صمتَ غرباء، بل صمتَ شخصين انتبها فجأةً إلى أنّهما لم يعودا يؤدّيان مشهدًا مكتوبًا بالكامل، وأنّ هذا الاحتكاك العابر بين الورق والجلد جزءٌ من نصٍّ جديد يتكوّن على مهل.
على مدى الأيّام التالية، يعيد هذا التواطؤ الصامت تشكيل نسيج المسرحيّة بينهما. في اجتماعات الظهيرة مع الطاقم، يتعمّد رفاح أن يقول: «حسب الجدول اللي أنا وسميرة رتبناه»، فيرسّخ سلطتها أمام الموظّفين الأكبر سنًّا الذين ما زالوا يمتحنون شرعيّة قيادتها بنظراتٍ أكثر من كلمات. على المائدة، حين يهبط أبناء عمومةٍ «صدفةً» من القرية القريبة، يلوّحون بأسئلة مغلَّفة عن «نيّته» و«الخطوة الجادّة». لا يهرب هذه المرّة إلى تنظيراتٍ عن «أخلاقيّات الحب» و«الفكر العباسيّ»، بل يتكلّم بلهجته الهادئة عن كيف أنّ «هذي الشراكة» دقّت رؤيته، وأنّ انتقاله إلى الصحراء لم يكن منطقيًّا لولا مشروع تقوده هي، يربط إنجازه بقيادتها كلّما استطاع. في كلّ مرّة يفعل ذلك، تلتقط عيناها عينيه عبر الطاولة؛ تومض في وجهها، تحت قناع الاحتراف، دهشةٌ ممتنّة، كأنّه يعيد بهدوء كتابة القصّة التي يحاول الآخرون فرضها عليها: من امرأةٍ يجب أن يُحتمل طموحها، إلى صاحبة مشروعٍ لا يكتمل من دونه.
الثقة التي بدأت كمجاملةٍ حذرة تتكثّف إلى شيءٍ أمتن في الفواصل الهادئة التي يفرضها عليهم المكان. في عصرٍ مثقلٍ بحرارةٍ تدفع الجميع إلى الغرف وتنقطع فيه الشبكة مجدّدًا، يجلسان في فضاء العمل المشترك على طاولةٍ واحدة، لا رفيق لهما سوى أزيز المولّد البعيد ورائحة الورق والحبر.
تقلب سميرة ملاحظاته عن استراتيجيات المانحين، فيما يراجع هو مخطّطات فعالياتها، أوراقهما تتداخل على نحوٍ يربك الحدود بين «مشروعه» و«مشروعها». يشير إلى هامشٍ كتبه بخطٍّ أدق: «إطالة المدّة البحثيّة = تقصير نفَس المتدخّلين في حياتك الشخصيّة».
«لو قدّمنا البرنامج كسكنٍ بحثيّ طويل الأمد،» يقول وهو لا يرفع عينيه عن الورق، «يكون على المجلس يبرّر أي محاولة يضغط فيها عليك… لتسوياتٍ شخصيّة مستعجلة.»
تلتقط أذنها التلطيف، فيرتفع رأسها بسرعة، ثمّ تنحني زوايا فمها بابتسامةٍ صغيرة حقيقيّة. «أنت بارع في هندسة المستحيلات،» تقول، نبرتها نصف ساخرة نصف ممتنّة، «المواعيد النهائية، توقّعات العائلة…».
يرسم رفاح شبه ابتسامةٍ جافّة، كأنّه يجرّب عضلةً صدئة. «أنتِ مو استحالة يا سميرة،» يجيب بهدوء، «أنتِ متغيّر لازم أحسب له.» الجملة ثقيلة التركيب، حادّة الزوايا، لكنّ صدقها ينعكس في عينيه، فتتركها قائمة بلا تعليق ولا دعابةٍ تنقذها.
في ذلك الفراغ القصير بين أزيز المولّد وتقليب الصفحات، تدرك أنّ خطّ التمثيل الفاصل بينهما انزاح قليلًا إلى الوراء؛ ما عادت حمايتها مجرّد دورٍ متّفق عليه، بل صارت له ملامحُ جبهةٍ مشتركةٍ يدافع فيها كلٌّ منهما عن حياةِ الآخر كما لو كان يدافع عن مشروعه الأهمّ.
الممرّ المؤدّي إلى الزاوية القديمة شبه معتم، أضواءه الجانبيّة تومض بكسل، وصوت المكيّف المعتاد انخفض إلى أنينٍ متقطّع يشبه حشرجة صدرٍ مُنهَك أكثر ممّا يشبه آلة. في الخارج، بلغت الحرارة حدًّا عدائيًّا؛ ضوءٌ أبيض فاقع ينعكس عن الحجارة كصرخةٍ مستمرّة، وهواءٌ يضغط على الجدران كأنّه يحاول اقتحامها. في الداخل تنكسر هذه الهجمة عند العتبة؛ الهواء أبرد بدرجتين أو ثلاث، ساكن، تتراقص فيه ذرّات الغبار في خيوط الضوء القليلة كأنّها حروف لم تكتمل كتابتها.
تُدخل سميرة الكود على اللوحة الصغيرَة، أصابعها لامعة من العرق، فتومض الشاشة الخضراء وتصدر قفلةُ القفل الكهربائيّ طقطقةً خافتة. تدفع الباب الثقيلة بكتفها. «لو وصلوا المتبرّعين في عزّ انقطاع ثانٍ،» تقول بنبرةٍ مازحة تحاول أن تحوّل الاختناق إلى سلعة، «نبيعهم الجوّ على أنّه: أصالة، تراث، وانقطاع كهرباء روحاني.»
يرتسم على فم رفاح شيءٌ أقرب إلى النفَس المقهقه منه إلى الضحك، كأنّ عضلة الضحك نفسها تحتاج إلى إعادة تشغيل، ويمدّ يده إلى أعلى قميصه، يفكّ الزرّ الأوّل بتحريكٍ محسوب كأنّه يتفاوض مع قواعد الاحتشام والحرارة في آن. مع كلّ خطوةٍ يخطوانها على السجّادات المهترئة يخفّ صرير الأحذيّة، وتتسلّل إليهما رائحةٌ خفيفة من العود الممزوج بغبارٍ قديم، كأنّ المكان ما زال يحاول أن يتجمّل أمام ضيوفٍ افتراضيّين غابوا منذ قرون.
تتمدّد القاعة أمامهما بطولٍ هادئ، سقفها الخشبيّ المنخفض يظّلّل صفوفًا من المحاريب الحجريّة الصغيرة في جدار القبلة، محاريب تحضن ظلالًا متراكبة تشبه رُزَم مخطوطاتٍ مطويّة أكثر ممّا تشبه فراغًا. على الجانبين، رفوفٌ بسيطة كانت تحمل كتبًا ذات يوم، الآن تحمل طبقاتٍ من الزمن وشيئًا من برودة الطين.
يلتقط رفاح تفاصيل المكان بعين الباحث رغم أنّه جاء ذريعةً للهروب من الحرّ: شقٌّ رفيع في جدارٍ جانبيّ، أثر إصبعٍ قديمٍ في الجصّ عند زاوية المحراب، حافّةُ سجّادةٍ مُرمَّمة بخيطٍ مختلف اللون. تمرّ في خاطره جملةٌ كان قد كتبها في مسودّته عن «الأمكنة بوصفها ذاكرةً متجسّدة»، فيكاد يبتسم لسخريّة أن يجد نفسه الآن مَحفوظًا داخل ذاكرة مكانٍ آخر.
«لو انقطع المكيّف نهائيًّا،» تضيف سميرة وهي تمسح راحة يدها بطرف عباءتها، «ممكن نضيف للبرنامج فقرة: تجربةَ الصوفيّين مع الصبر على القيظ.»
هذه المرّة يخرج منه صوتٌ واضح، نصفه سعالٌ ونصفه ضحكة. «شرط،» يجيب بهدوء، «نكتب في النشرة: قد يختبر الضيوف حالاتٍ من الكشف… بسبب ضربة الشمس.»
تتحرّك معه إلى داخل القاعة، تُبطئ مشيتها تلقائيًّا كأنّ البلاطات العتيقة تفرض إيقاعها على الأقدام. يشقّ الضوء طريقه من نوافذٍ عالية ذات مشربيّات خشبيّة، ينساب في أعمدةٍ رفيعة من الغبار الذهبيّ، يرسم على الأرض خطوطًا من النور المائل بين العتمة، كأنّ المكان نفسه يعلّمهم الفرق بين العلن والسرّ.
«هنا،» تقول سميرة وهي تشير إلى الوسط، فيعود صوتها إلى نبرةٍ أكثر رسميّة، أقرب إلى المنسّقة المحترفة منه إلى المزاح السابق، «هذي المساحة الصغيرة هي مسرحك. تتخيّل ثلاثة مانحين، بالكثير، جالسين هنا. الجوّ: حميم، جدّي، وسهل الانبهار إذا حكيت لهم القصّة الصح.»
تتحرّك بخفّة إلى جانب المحراب، تتموضع كما لو كانت واحدةً من هؤلاء المتبرّعين؛ تكتّف ذراعيها برحابة، ليس دفاعًا بل انتظارًا، ووجهها يحمل ذلك التركيب المربك من الانفتاح والحذر الذي تعيش به حياتها اليوميّة. نظرتها مستقيمة، فيها شيءٌ من «أقنعني» وشيءٌ من «إيّاك أن تبيعني كلامًا فارغًا»، لكنّها هذه المرّة موجّهة إليه لا إلى مجلس الإدارة.
يهزّ رفاح رأسه بإيماءةٍ قصيرة، يتقدّم خطوة، وتلمس أنامله بخفّة حافّة رَكْوةِ مصحفٍ خشبيّة موضوعة قرب الجدار، كمن يستعين بوزنٍ مادّيّ بسيطٍ ليمنع أفكاره من الانزلاق. يتوقّف عند النقطة التي كان يقف فيها الإمام قديمًا، يستشعر تحت قدميه تراكم سجداتٍ صامتة لا يعرف أصحابها، ويتخيّل فوقها كرسيًّا عصريًّا ودفتر ملاحظات وزائرين ببدلاتٍ صيفيّة.
للحظةٍ لا يقول شيئًا؛ يملأ صدره بالهواء الثقيل قليلًا، يسمع صدى شهيقه يعود إليه من الجدران، مضاعفًا وهادئًا، كأنّ المكان يردّ عليه نَفَسَه سؤالًا قبل أن يردّ عليه كلامه.
يتحرّكان ببطءٍ على امتداد القاعة، كأنّ البلاطات القديمة تفرض عليهما إيقاعًا أبطأ من عادة النهار اللاهث في الخارج، تخفت معه الأصوات وتصبح الخطوات مجرّد همهماتٍ من قماشٍ يحتكّ بالصوف. يتفلّل الضوء من المشربيات العالية في أعمدةٍ نحيلة، يقصّ الأرض بشرائط من ذهبٍ باهت، تقطع السجّاد المهترئ إلى مربّعات من عتمةٍ ونور، كأنّ المكان يتدرّب على استقبال مشاهدين قلائل بعنايةٍ مبالغٍ فيها.
«طيب،» تقول سميرة وهي تسمح لصوتها أن ينزلق بسلاسةٍ إلى نبرة المنسّقة، تتقدّم نصف خطوة فتسبق كلمتها جسدها، «هنا بالضبط راح تتكلّم عن أخلاقيّات التعلّق… تتخيّل ثلاثة مانحين بالكثير، جالسين، الجوّ حميم، جدّي، وسهل انبهاره لو حكيت القصة الصح.»
تتموضع حيث يتخيّل المرء واقفًا يساوم على تبرّعٍ كبير؛ كتفاها يرتاحان إلى الخلف، ذراعاها مكتوفتان بخفّة، لا دفاعًا بل انتظارًا، ووجهها يحمل تلك السكينة المتأهّبة التي تستخدمها دائمًا حين تختبر المقابل: هل سيحترم ذكاءها أم سيكتفي بترديد شعاراتٍ محفوظة؟
يهزّ رفاح رأسه كأنّه يسلّم بالمشهد، تمرّ أنامله على حافّةِ رَكوةِ مصحفٍ خشبيّة قريبة، يلمسها لمس من يبحث عن ثقلٍ مادّيّ يوازن اضطرابًا داخليًّا لا يعترف به، ثمّ يتقدّم إلى الموضع الذي كان يقف فيه الإمام قديمًا.
يقف هناك لحظةً بلا كلام، يترك لجسده أن يسبق لغته: يمدّ قدميه قليلًا ليشعر بملمس السجّادة الرخوة تحت النعل، يملأ رئتيه بالهواء الأبرد درجةً أو اثنتين، يسمع صدى شهيقه يعود إليه من الجدران العالية وقد صار أعمق ممّا كان، كأنّ المكان يعيد إليه نَفَسَه بعد أن يختبره. بينه وبين سميرة خطّ مستقيم من الضوء الذهبيّ، وفي المسافة بينهما تتراكم أسئلةٌ غير منطوقة أكثر من عدد المتبرّعين الذين تحاول أن تُقنِعهم بهذا «العرض الحميم».
حين يبدأ الكلام، يخرج صوته في نبرته المحاضِرة المعتادة؛ موزونًا، دقيقَ المفاصل، كأنّه يقرأ من مخطوطٍ محفوظ في ذهنه. «في الشعر الجاهليّ والعبّاسيّ،» يقول بالعربيّة الفصحى المصقولة التي يستخدمها في القاعات المكيّفة، «تتشكّل عبادة المحبّ غالبًا من توتّرٍ بين الواجب والرغبة…».
يتحدّث عن الأيمان الثقيلة، عن عشّاقٍ ممزّقين بين بيعة القبيلة وبيعة القلب، عن شعراء اختاروا الترحال على الأمن، والتيه على بيتٍ مضمون. يقتبس بيتًا، ثمّ آخر، يشرح بإيجازٍ كيف «التعلّق» عند القدامى ليس ضعفًا بل امتحانًا للأمانة، وكيف أنّ الوفاء أحيانًا يمرّ عبر الخيانة الظاهرية.
في منتصف جملةٍ عن «الكفّ عن اللذّة حمايةً للعهود»، تتعثّر إيقاعاته. يسعل المولّد في الخارج سعلةً طويلة ثمّ يصمت دفعةً واحدة، فينزاح همهمة الكهرباء من خلفيّة صوته كستارٍ أُسدل، وتغور القاعة إلى سكونٍ أكثر كثافة.
تثقل أعمدة الضوء النازلة من المشربيات، كأنّ الغبار نفسه توقف عن الدوران ليستمع. يسمع رفاح صدى كلماته الأخيرة يرتدّ من الحجارة وقد صار أبطأ، أقلّ يقينًا. أمامه، لا تجلس سميرة بوجه «المنسّقة» الذي حفظه جيّدًا، بل بوجه شخصٍ يترصّد التكسّرات تحت اللغة.
عينها معلّقة على فمه لا على يده التي تشرح، حاجبها الأيمن يرتفع قليلًا عند كلّ كلمة «واجب»، كأنّها تعدّها عليه. لا تكتب ملاحظات، لا تهزّ رأسها بالطريقة المهنيّة المطمئِنة؛ تكتفي بأن تستقبل صوته بكلّ وعيها المشدود، فيشعر بنظرتها ككفٍّ ثابتةٍ بين كتفيه: تسنده، نعم، لكنّها قريبةٌ بما يكفي لتدفعه خطوةً أبعد ممّا تعلّم أن يذهب.
تتسلّل إليه فكرةٌ عابرة أنّه لو تلعثم الآن فلن تنقذه أي «لغة أكاديميّة»، وأنّ هذا الامتحان لا يمكن أن يُجاب عنه بحواشٍ ومراجع.
«كنتُ قد زعمتُ يومًا،» يسمع نفسه يقول، والكلمات تنفلت من النصّ المتّفق عليه من غير استئذان، «أنّ الحبّ… أحكمُ ما يكون حين يُترَك حبيس الصفحة.» ينخفض صوته درجةً، تتخفّف نبرته من حوافّها الوعظيّة المصقولة؛ الجملة الأخيرة لا تشبه افتتاحيّات مقالاته بقدر ما تشبه اعترافًا سهوًا في آخر هامش.
يلتفت نحوها بقصدٍ واضح: أن يعود بسرعةٍ إلى منطقةٍ يعرفها، إلى نظريّاتٍ محفوظة وأمثلةٍ جاهزة. لكنّ وجهها في نصف الظلّ ليس وجه «المنسّقة» التي تتدرّب معه على عرضٍ للمتبرّعين؛ لا توجد عليه تلك الابتسامة المهنيّة المطمئِنة ولا ذلك الميل الخفيف في الرأس الذي يعني: «تابع، الخطّة ناجحة». عيناها ثابتتان، لا تتهرّبان، فمها مرسوم بخطٍّ جدّيّ لا قسوة فيه، وعلى صدغها لمعانُ عرقٍ رقيق يكشف شراسة القيظ خلف البرودة النسبيّة للمكان.
في تلك اللحظة يدرك أنّ المسافة الأكاديميّة التي يتّكئ عليها عادةً لا تعمل هنا؛ الجزء منه الذي يحفظ المراجع والأسانيد يصمت فجأةً كجهازٍ قُطِع عنه التيّار. يشعر كأنّ ذخيرته من المصطلحات انسكبت على أرض السجّادة وبقي هو، بلا درع لغويّ، تحت ضوء عينيها المباشر. «لكن النصوص،» يكمل، وقد لانت حواشي كلامه، «كلّها مكتوبةٌ بأيدي أناسٍ… خاطروا بغير ذلك.»
يتردّد صدى «خاطروا» في القاعة، أثقل قليلًا ممّا قصد، كأنّ الكلمة نفسها تطالب بتجسيدٍ لا بشرح. يتكوّن بينهما سكونٌ صغير، ليس من نوع الفراغ الذي يبادر عادةً إلى ملئه بإحصاءاتٍ أو اقتباسات، بل توقّفٌ قصير تلتقط فيه الحجارة نَفَسَهما المشترك.
من غير قرارٍ واعٍ، يتحرّك خطوةً إلى الأمام؛ كأنّ جسده قرأ ما بين سطور جملته قبل أن يجرؤ عقله على ذلك. تقترب ظلالهما على السجّادة، تتشابك أوّلًا كحوافّ حبرٍ التقت صدفةً، ثمّ تتداخل حتى تصيرا بقعةً واحدةً أعمق سوادًا، كأنّ الضوء نفسه تراجع خطوةً احترامًا.
فوق رأسيهما، تتّضح فجأةً زخارف الخطّ المحفور في الجدار؛ آياتٌ عن الإخلاص والنيّة، عن «مَن أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه». حروفٌ رآها عشرات المرّات في مساجد وكتب، الآن تبدو كتعليقٍ مباشرٍ على وقوفهما المتردّد هنا: كأنّ المكان نفسه يرفع حاجبًا حجريًّا ساخرًا، يسأل في صمتٍ فصيح: أيّ نيّةٍ بالضبط تُختبر الآن؟
لا تُسعفه سميرة بنكتةٍ هذه المرّة، لا تمدّ له سلّم الهروب الخفيف الذي اعتادته منه وفيه. تترك الصمت يكمُل دورَه، ثمّ تقول بصوتٍ منخفض لا يرتجف: «وإنت يا رفاح؟» تتقدّم الكلمة قليلًا، كأنّها هي أيضًا تختبر هواء القاعة. «إيش ممكن تخاطر… لو هذا كلّه مو تمثيل؟»
تسقط «تمثيل» بينهما كحجرٍ في بِركةٍ راكدة؛ الكلمة الصغيرة تُسمّي الاتفاق الذي ظنّاه محكمًا، تجرّده من أناقته وتحيله مجرّد ستارٍ شفيف. في الفراغ اللاحق يضيق العالم إلى تفاصيلَ لا تليق بجدول العمل: تقوّس شفتها السفلى حين أطلقت السؤال ثمّ تركتها تستقرّ، نبضةٌ سريعة تقفز عند عنقها تحت حافّة الوشاح، حرارةٌ مشتركة في هواءٍ يفترض أنّه أبرد من الخارج لكنّه الآن أثقل، مُشبَع بشيءٍ لا اسم له في استمارات المؤسّسة.
يعرف جسده قبل أن يقرّر عقله أنّ المسافة بينهما قابلةٌ للاجتياز؛ ينحني ميلًا لا يُقاس بالسنتمتر بقدر ما يُقاس بنوعيّة النيّة، كأنّ محور جسده استجاب لدعوةٍ قديمة مؤجّلة. للحظةٍ خاطفة يبدو له أنّ كلّ ما كتبه عن «التعلّق المَحمود» كان مجرّد تمهيدٍ لهذه الإمكانيّة الضيّقة على سجّادةٍ باردة.
لكنّ الذاكرة تنقضّ بأظافرها المعروفة: صورة خاتمٍ أُعيد في صمت، وجه والدٍ مخيَّب، بريدٍ إلكترونيّ مكدّس باعتذاراتٍ مهنيّة عن «ظروفٍ شخصيّة طارئة». تندفع في الخلفيّة بنودُ لائحةِ المؤسّسة حول منع العلاقات بين الطاقم والضيوف مكتوبةً بحبرٍ رسميٍّ يابس، ثمّ جملته القديمة التي كرّرها على نفسه وعلى الآخرين عشرات المرّات: الحبّ خطرٌ مهنيّ. تنقبض عضلاته عند هذا الحدّ؛ يتجمّد في منتصف الميل، كأنّ أحدهم ضغط على زرّ «إيقاف مؤقّت».
حين يُحبَس الجسد، لا يبقى له إلا اللغة. يحسّ الكلمات تصعد من صدره لا من رأسه، خشنةَ الحوافّ، أقرب إلى زفرةٍ منها إلى جملةٍ أكاديميّة. «أنتِ…» يتوقّف لحظةً، كأنّ عليه أن يختار حرف نداءٍ جديدًا لهذه المرّة، ثمّ يتابع: «مو تشتيت.»
تهتزّ في عينيها ومضةٌ لا يستطيع أن يترجمها فورًا، شيء بين ارتياحٍ وإنذار. يحسّ أنّ عليه، إن توقّف هنا، أن يكون قد خان اعترافه نصف خيانة؛ فيمدّ الجملة كما يمدّ يده نحو حافّةٍ أبعد قليلاً ممّا تعوّد. «أنتِ أوّل شخصٍ من سنين… يخلّي الشغل أقلّ شبَهًا بالمنفى.»
تبدو الجملة حين تخرج كعهدٍ قيل في غير موضعه: لا صيغةَ خطبةٍ ولا نبرةَ محاضَرة، أقرب إلى وعدٍ أُلقي عاريًا في قاعةٍ اعتادت الصيغ المحفوظة. تتدلّى بينهما في الهواء مثل سطرِ نَذرٍ كُتِب على جدارٍ خطأ: مخلخلٌ، غير قابلٍ للتراجع، وفيه قدرٌ من التجديف على مذبح صوره القديمة عن نفسه؛ ومع ذلك، وربّما لهذا السبب بالذات، صادقٌ بطريقةٍ فاضحة لا لبس فيها.
السّماء فوقهما فاحشةُ الصفاء، مفرَشٌ من نجومٍ لا يرقّقها ضوءُ مدينةٍ ولا يعترضها برج. لبعض الوقت يكتفيان بالوقوف كتفًا إلى كتف، يستمعان إلى صوت محمود وهو ينساب عبر السطح، يضحك مع الضيوف ويعرِّفهم بأسماء الكواكب كأنّها أصدقاء طفولة. حين يبهت الضحك قليلًا ويبتعد آخر زوجٍ من السيّاح نحو السلّم، تُحكِم سميرة أصابعها على حافّة السور لحظةً، كأنّها تجمع شيئًا لا يُرى.
«تدري…» تقول أخيرًا، وعيناها لا تزالان معلّقتين في الأعلى، «مو كلّ استسلام يعني فَناء.» يلتقط أذنُه الفصحى المائلة إلى لهجتها، يقيس الانكسار الخفيف في نبرتها؛ الجملة تمشي بحذر، كمن يختبر لوحًا فوق وادٍ. «أحيانًا… يكون شراكة.»
تومئ بذقنها نحو قُبّة السّماء، ترسم بإصبعها خطًّا لا يراه سواها بين نقطتين لامعتين. «أبوي كان يقول: الصحراء ما بس تشيل عنك الأشياء، أحيانًا توريك دروب ما كنت شايفها أصلاً.»
يهبط ذكرُ الأب بينهما كقُربانٍ مشترك؛ خسارتها الخاصّة تُوضَع بهدوءٍ بجوار خساراته هو التي لم يُسمِّها بعُلوّ هذا الصوت من قبل. يسمع في الجملة رنينَ مِزاجٍ عرفه من قبل في كتابات المتصوّفة أكثر ممّا عرفه في مقالات زملائه: الاستسلام لا بصفته انمحاءً بل تحوّلًا من مفردٍ إلى مثنّى.
يتبع رفاح قوسَ يدها، لكنّ الكلمات تعلَق أعمق من النجوم. «شراكة. دروب.» يعيدهما في صدره قبل لسانه، كأنّه يختبر وزنهما في معجمه القديم. سنينَ وهو يبيع للطلاب صورةَ الصحراء كمختبرٍ للأخلاق، فضاءٍ مُجرَّدًا من الزوائد ليختبِر فيه المرءُ صدقَ نيّته وهو… وحده. والآن، وهو يقف إلى جوارها على بُعد سنتيمتراتٍ لا أكثر، يدرك فجأةً كم كان تعريفه للصحراء ناقصًا؛ لم يترك لها مساحةً إلّا لتُصفّي، لا لتقترح إضافةً أو رفيقًا في النقص.
يُداعب نسيمُ الليل وجهَه، يحمل بقايا قهوة الهيل التي قدّموها قبل ساعة، ونبرةً أخفّ من عطرها؛ شيءٌ زهريٌّ حادّ الأطراف، أصبح مع الأيّام علامةً على اقترابها قبل أن يراها. «دروب ما كنت شايفها…» يهمس، نصفَ تكرارٍ ونصفَ تساؤل. في ذهنه يمرّ شريطُ السنوات الأخيرة كممرٍّ ضيّق طويل: مكتب، شاشة، هوامش، رسائلُ بريدٍ يُجيب عنها في أوقاتٍ غير إنسانيّة، عزلةٌ يسمّيها «تركّزًا».
تلمع في هذا الممرّ مشاهدُ قصيرة: ظلّاهما المتداخلان على سجادة قاعة الصلاة، سؤالُها قبل قليل: «لو هذا كلّه مو تمثيل؟»، وجملتُه التي فاجأته أكثر ممّا فاجأتها: «تخلّي الشغل أقلّ شبهًا بالمنفى». يشعر الآن أنّه، منذ تلك اللحظة، خرج خطوةً واحدة خارج الممرّ المحفوظ إلى أرضٍ مكشوفة لا خرائطَ لها.
الفكرة تُقلقه؛ الانحراف البسيط عن خطّ السير الذي تعب في رسمه يبدو، في منطقه القديم، كزلّةٍ قد تجرّ وراءها انهيارًا كاملاً. ومع ذلك، ثَمّة جزءٌ آخر منه (مُرهَق، مُتعب من استعراض الاتّزان) يميل بخفّةٍ نحو هذا الفراغ الجديد، كأنّ جسده يترفّع عن طاعة تلك المخاوف العتيقة.
يقول، في داخله أوّلًا: لعلّ الصحراء ليست حِراسةَ أسوارٍ بل فتحَ بوّابات. لعلّ الامتحان ليس أن تبقى وحدك، بل أن تقبل أن يتّسع امتحانك لضميرٍ آخر: نحن.
لا يقول هذا بصوتٍ عالٍ؛ ما يخرج هو مجرّد شهيقٍ أطول من المعتاد، وتراخٍ خفيف في وضع كتفه حتى يقترب كتفُه من كتفها مسافةً تكفي لأن يلتقيا في نقطةٍ واحدة تحت هذا الفيض غير المحتشم من النجوم.
يتبع رفاح قوسَ يدها، لكنّ الكلمات تنغرس في صدره أعمق من النجوم. «شراكة. دروب.» يحفظ المفردتين في داخله قبل أن يجرّبهما على لسانه، كأنّهما مصطلحان جديدان دخلًا متأخّرَين إلى معجمٍ ظنّه مكتملًا. سنينَ وهو يشرح للصحراء وظيفةً واحدة: خفْضُ الضوضاء، تعريةُ النيّات، تحويلُ الإنسان إلى نقطةٍ وحيدة في فضاءٍ واسع ليمتحَن صدقَه… وحده. وهو واقفٌ الآن بمحاذاتها، يدُها ترسم خطوطًا وهميّة بين النجوم، يدرك فجأةً كم كان تعريفه بخيلًا على المكان وعلى نفسه معًا.
ينزلق نسيم الليل باردًا على وجنتَيه، حاملاً أشباح هيل قهوة السهرة، ورائحةً أخفّ، حادّة الأطراف، صار يربطها آليًّا بحضورها قبل أن يراها. «دروب ما كنت شايفها…» يكرّر، أقرب إلى الهمس، كأنّه يختبر الجملة على مقاسه هو. في ذهنه يطلّ الممرّ الضيّق الذي قنطر به حياته: مكتبٌ مغلق، شاشةٌ مضيئةٌ أكثر من اللازم، هوامشُ مكتظّة، بريدٌ إلكترونيّ لا ينتهي، عزلةٌ سمّاها لسنين «تركيزًا» لئلّا يسمّيها باسمٍ أقلّ مديحًا.
يتذكّر تلك اللحظة القصيرة في القاعة، اقتراب الظلال على السجّادة، السؤال الذي رمَتْه عليه بجرأةٍ مغطّاة بصوتٍ منخفض: «لو هذا كلّه مو تمثيل؟» والعبارة التي أفلتت منه بلا مراجعةٍ ولا لجنة تحكيم: «تخلّي الشغل أقلّ شبهًا بالمنفى.» يشعر الآن أنّه، منذ تلك الجملة، انحرف خطوةً واحدة فقط عن جدار الممرّ إلى فسحةٍ مكشوفة، لا خرائطَ معلّقة على حيطانها.
الفكرة تقلقه؛ في منطقه القديم، زلّةُ قدمٍ صغيرة عن المسار المرسوم تعني بدايةَ انهيارٍ كامل. لكنّ جزءًا آخر منه ــ الجزء المُجهَد من فرط التماسك، المُتعب من لعب دور الرجل الذي لا يحتاج أحدًا ــ يميل برفقٍ نحو هذا الاتّساع الجديد، كأنّ جسده ملّ من حراسة السور، واشتاق لاختبار بوّابةٍ تُفتَح بدلًا من أن تُغلق.
حين يلتفت إليها هذه المرّة، لا تكون المسافة المعهودة في نظره كما كانت؛ شيءٌ فيها اختلّ، ككثيبٍ مرّت به نفحةُ هواءٍ مفاجِئة. يقول، وكأنّه يختبر الكلمات على فمه لأوّل مرّة: «قضّيت عمري المهني كلّه أقنع نفسي… وأقنع غيري… إنّ طريقي لازم يكون مفرد.»
الجملة، وهي تُقال بلا استشهادٍ ولا حاشية، تترك في فمه طعم مجازفةٍ غير مألوفة. في العادة كان سيلفّ مثل هذا الاعتراف بورق تغليفٍ من سخريةٍ خفيفة أو مصطلحاتٍ نقديّة تجرّده من خطورته. الليلة، يتركه عاريًا، كما هو.
«إنّ في تعبّد واحد يستاهل أن يرتَّب حوله كلّ شيء.» يخطّ حاجباه خطًّا رفيعًا بينهما، ليس غضبًا بل دهشةً من نفسه بالذات؛ كأنّه يسمع رأيًا قديماً بصوتٍ غريب. يتوقّف لحظةً قصيرة كعلامةِ شطبٍ صامتة، ثمّ يُكمِل، وصدى التردّد واضحٌ في الهواء: «بس بالفترة الأخيرة… مو متأكّد إنّي كنت فعلاً مُحقّ.»
الاعتراف يخرج بلا شرطٍ ولا استدراك، يتدلّى بينهما مثل جملةٍ تُرِكَ مكانُ النقطة في آخرها خاليًا عن عمد. يُدرك، وهو يترك الصمت يمتدّ هذه المرّة، أنّه لأوّل مرة منذ زمنٍ طويل لا يستعجل إنقاذ نفسه بتفسيرٍ إضافيّ أو انسحابٍ إلى حصون التنظير. في ذلك الفراغ المحدود بين الجملة وما بعدها، يتحسّس ملامحَ احتمالٍ جديد: أن يكون طريقه أقلّ وحدةً ممّا رسمه لنفسه كلّ هذه السنين.
يخرج نفسٌ طويل من صدر سميرة، من ذلك النوع الهادئ الذي يحمل ارتياحًا وخوفًا جديدًا في آن. لا تُكمِل السهم بسؤالٍ آخر، لا تمزح ولا تُخفِّف، بل تترك للزلزال الصغير أن يتنفّس. تقول بخفوت: «الصحراء رحيمة بهالطريقة… ما تعطيك مكان تختبّي فيه من اللي تبيه فعلًا، بس بعد… ما تستعجل جوابك.»
تلتقي عيناها بعينيه، ثابتتَين تبحثان، وفيهما لا يرى شماتةَ مَن كسَر درعًا أخيرًا، بل نوعًا من الاحترام الرقيق: لصراعه، لكلفة كلّ كلمةٍ نطق بها. شيءٌ فيه، ظلّ طويلًا مشدودَ الأوتار في وجه أيّ اقتراب، يسجّل الفرق بين أن تُعامَل كحالةٍ تُحلَّل… وأن يُعرَض عليك أن تُرافَق في الطريق.
تهبّ لفحةُ هواءٍ شاردة، تلتفّ حولهما كأنّها تختبر تماسك الحكاية التي نسجاها، تشدُّ طرفَ شالها وتجرُّ معها همسَ نافورة الساحة يصعد عبر الحجر. يتحرّك تلقائيًّا، نصفَ خطوة، ليصنع لها من جسده حاجزًا صغيرًا عن البرودة. الحركة ضئيلة، لا تحتاج إلى تفسير، لكنّها تكفي لتُزِيح محورَ الكون قليلًا عن مكتبه وصفحات مسوّدته.
في تلك الإزاحة الدقيقَة، حين يلتقي كتفٌ بكتف ــ مسٌّ خفيف، محتشم، يمكن إنكاره غدًا في أيّ روايةٍ رسميّة ــ يشعر بارتجاجٍ غير متكافئ في داخله، كما لو أنّ خيطًا مشدودًا منذ سنين تلقّى فجأةً ارتخاءةَ رحمة. ليس ثمّة إعلان، لا اعتراف مسموع، فقط وزنٌ جديد لصمته، أقلُّ شبهًا بالمنفى، أقربُ إلى فسحةٍ مشتركة يمكن أن يُرسَم فيها طريقان جنبًا إلى جنب دون أن يبتلع أحدُهما الآخر.
The storm’s voice rises to a low, unbroken roar, swallowing the last distinctions between sky and sand. The window shutters rattle once, then settle into a trembling that seems to run through the walls and into his bones. Rafah steps back to let her in, the door thudding shut behind her with a soft finality that feels larger than weather, something signed and sealed.
The room is dim, walls tinted the color of clay by the filtered light squeezing through the shutter slats. Dust-hazed beams cut across the simple furniture, laying bars of amber over his open suitcase, the stack of books by the bed, the leather notebook left face-down on the desk as if mid-thought. The fountain’s distant murmur reaches them as a faint, irregular heartbeat under the storm’s continuous breath.
Samirah shoulders the door with an efficient little twist of her wrist, used to negotiating these old hinges. As she steps fully inside, she leaves a small crescent of sand by the threshold, a fragile dune already beginning to scatter. She carries the tray level despite the gusts still pressing against the building: a thermos of mint tea, two white cups with a thin gold rim, and a stack of papers weighted with a smooth stone from the courtyard. Her scarf has slipped a fraction, hair escaping in dark waves that catch the dim light.
As she sets the tray on his desk, the faint clink of porcelain sounds oddly intimate in the muffled air, amplified by the lack of any other small noises: no keyboard tapping, no phone vibrations, no distant car engines. The storm has stripped the world down to the hiss of sand, the murmur of water, the soft collision of cup against saucer.
He notices the fine grit along her sleeve, caught in the stitching near her wrist, the faint reddening of her fingers from gripping metal door handles cooled by the sudden drop in light. A loose strand of hair has glued itself to her temple with sweat, drawing a tiny, dark arc against her skin. The detail lodges in his mind with a clarity that feels indulgent, unprofessional.
He is startled by an impulse, not to comment, not to analyze, not to file the observation away as raw material for some future meditation on embodiment in desert poetics, but to reach out and brush it aside with his thumb. The imagined warmth of her skin under his hand flashes through him so quickly he almost takes a step back, as if the thought itself were a physical misstep on unstable sand.
بدل أن يمد يده إلى تلك الخصلة الملتصقة بصدغها، يمدها إلى رزمة الأوراق، الحركة أسرع قليلاً مما يليق بالسكينة المحيطة، أقرب إلى الخشونة المدافِعة منها إلى الاهتمام العابر. يلتقط الحجر أولاً، يزيحه جانباً بعناية لا يقرّ بها، ثم يقلب الصفحة العليا.
في أعلاها عموده المعتاد في نماذج الطلب: تلك الكتابة الضيقة المتزاحمة التي يخجل منها سراً كلما رأى خطاً جميلاً، مؤرَّخة منذ ما يقارب الثلاثة أسابيع، إلى جوار سطر آخر أكثر انتظاماً في خانة «الإجراء»: خط سامرة، واضح، مائل ميلاً خفيفاً، يتبعه ختم أحمر صغير باسم «أرشيف القَصْر».
«تذكّرتِ.» تخرج الجملة أقرب إلى الاعتراف منها إلى الملاحظة، كأنها تنزلق من طبقة أعمق مما يسمح به صوته عادة.
ترفع كتفيها برهافة محسوبة، تتشبّه باللامبالاة أكثر مما تتقمّصها. «مو إنت الوحيد اللي عنده قوائم،» تقول، ثم تعدّل إلى فصحى أخف: «ظننتُ أنه إذا كانت العاصفة ستسرق أعذارك، فأقل ما أستطيع هو أن أُعيد إليك مراجعك.»
يلتقط الإشارة الخفيّة بسهولة مُربِكة: لا إنترنت يلوّح بواجب الرد، لا لجان تقترب بسيارات مكيّفة، لا رسالة منتظَرة من رئيس القسم يمكن أن يتّخذها ذريعة لهروبه المزمن إلى العمل. يشعر بانقباض خفيف في صدره، ذلك الضيق الذي يسمّيه «انضباطاً» حين يكتبه في سيرته الذاتية، وشيئاً آخر تماماً حين يجرؤ أن يسميه في رأسه: شعور بأن الزوايا قد ضاقت، وأن الأوراق بين يديه صارت جداراً يُسند ظهره لا درعاً يتقدّم به.
ومع ذلك، تحت ذلك الانقباض، يتسلّل ارتخاء صغير، اعتراف لا يقولُه: أن يكون اليوم بلا مواعيد خارجية، بلا شبكة ترصده، بلا ساعة يعدّ عليها رسائل الاعتذار المؤدَّبة، يُخفِّف عنه عبئاً لم يعترف يوماً بحمله. يمرّ إبهامه على حافة الورقة الأولى، يسمع خشونتها الخفيفة، ويدرك فجأة كم كان قد نسي هذا الطلب أصلاً، وكم هي وحدها مَن أصرَّ على أن تُعيده من الهامش إلى الطاولة.
تتناول إبريق الشاي بثبات من يعرف طريق يده إلى هذا المكتب كما يعرف طريقه في الممرات المعتمة. تميل قليلاً، فينهمر الخيط الكهرماني في الكأس الأولى ثم الثانية، والبخار يتصاعد بينهما مثل شاهدٍ صامت، حجابٍ رقيق يقترح قرباً أكثر مما يحجبه. تقول وهي تدفع إليه الكأس: «اليوم محد يروح مكان. الورش، جولات محمود، جلسات زهرة… كل شيء مؤجَّل. قصر الوفا أعلن يوم تأمّل… إجباري.» تبتسم الكلمة الأخيرة في فمها قبل أن تنطقها، ثم تصوغها بفصحى خفيفة، كأنها تحاول إضفاء شرعية أدبية على مزحة إدارية.
تتداعى في ذهنه صور سريعة: محمود يذرع الممر الخارجي جيئة وذهاباً أمام خيام مغلقة، زهرة محاطة بكراسٍ فارغة، مجلس المتبرعين في المدينة يبدّل مواعيده للمرة الثالثة. الفوضى المنظمة لذلك اليوم المعلَّق تطرق بهدوء على جدران جدوله الذهني، على الأعمدة التي بنى عليها إحساسه بالسيطرة.
ومع ذلك، هنا، في قلب هذا التعليق العام، يضعف ذلك الطنين الخفي الذي اعتاد أن يدفعه من مهمة إلى أخرى، كآلة موصولة دائماً بمقبس خارجي. الفراغ الذي يخلِّفه السكون لا يبدو له مريحاً ولا مهدِّداً فحسب؛ يبدو غريباً، مساحةً بين حدَّين لا يعرف بعد بأي شيء يملؤها: بمزيد من الحواشي، أم بشيء أقل قابلية للتوثيق.
يتفحّص الفراغ بينهما بمحاولة تنازل صغيرة لا تُشبهه. يقول مكرّراً عبارتها، كمن يتلمّس حدود نكتة جادّة: «موعد نهائي من نوعٍ آخر، ها؟» يومئ إلى الأوراق. «وش بالضبط كان في بالك؟» تجلس في الكرسي المقابل لمكتبه، لا بوضعية المشرفة التي تدقّق تقدّم العمل، بل كمن يعلن شراكة في المساحة قبل المشروع. «قلتَ لي إنك ما لقيت وقت تلاحق الفروق بين روايات هذه المعلّقات،» تقول، نبرتها تمزج بين التذكير والعتاب الحاني. «اليوم الرمل يقول عندك وقت. فكّرت… نبتدي من هناك، ونشوف شعراؤك كم استدانوا من العواصف والانتظار.» ضمير الجمع «نحن» يهبط عليه بسهولة مقلقة، بلا المقاومة المعتادة. للحظة، يشعر بتاريخ الزاوية القديمة يقترب، يلتصق بالجدران: طبقات من قرّاء وقانعين حُبسوا بالطقس، حوّلوا انقطاع الطريق إلى وصْل، والضرورة إلى نوعٍ من العبادة المتواطئة مع الزمن.
يرتجف ضوء البطارية على حافة الشاشة ثم ينطفئ، نقطة حمراء أخيرة تُسقِط معه حبلاً طويلاً من العادات: تعقّب التعديلات، عدّ الصفحات، توقّع الصفّارات الإلكترونية. يداهمه ارتباك قصير، خواء يشبه دواراً فوق بئر، قبل أن يتدخّل خشخشة الورق ودفء الفنجان بين أصابعه كحبلٍ أقرب. يختار مقعداً ملاصقاً للرزمة لا بعيداً عنها؛ من هنا يمكنه أن يرى آثار الحَبّة الرملية التي لطّخت زاوية مذكرة بخطّها، كإصبع خفية تشهد أن هذه الأوراق خرجت من عاصفة حقيقية لا من طابعة معقّمة. في الخارج، يهدر الهواء على الحجر هَديراً مكتوماً، كنبض ضخم يسري تحت جلد القصر، بينما يلتفّ السكون حولهما كعباءة ثقيلة. يقول بصوت أوطأ مما يعتاد، فيه نبرة مَنْ يُسَلِّم لا مَنْ يُملي: «طيب… دام الدنيا متوقّفة، خلّنا نشوف كيف كانوا يكتبون يوم ما كان في شي يهربون منه.»
تمرّ الساعات الأولى في هدوء هدنةٍ عملية، لا يشوبها إلا حفيف الأوراق وهدير الريح المفلتر من النوافذ العالية. بغياب الورش وجولات محمود، ينكمش المكان كله في بقعة ضوءٍ عنبريّ تتدلّى من مصباحٍ واحد، تُحيل الطاولة الطويلة إلى جزيرةٍ صغيرة في بحرٍ من رفوفٍ معتمة.
في البداية تختار سميرة الطرف الأبعد من طاولته، كأنما تحترم مساحته التي تحيط بها هالة غير مرئية. تفتح الحزمة التي أنقذتها من مبنى الإدارة، وترتّب الأوراق في رُزم: قصائد مشروحة، مقاطع مترجمة إلى نصفها، نسخاً من بطاقات الفهرسة القديمة بطرفٍ مثنيّ وملطّخ بحبرٍ باهت. يراقبها بطرف عينه، مستغرباً سرعة يدها في التفريق بين الأنواع، كأنها تعيد قطعاً إلى عائلاتها المفقودة.
يتوقّف عند هامشٍ كُتب بخطٍ منكسر، لا تُقرأ منه سوى كلمات مبتورة. يحدّق فيه أكثر مما ينبغي، لا لغرابة المحتوى بل لغضبه الصامت من كل ما يهدّد نظامه الواضح. قبل أن يسأل، تدير الورقة نحوهما معاً بلا استئذان، كمن يتدخّل في محادثة قديمة لا في بحثٍ جاري. «هذا خط الشيخ الحمداني،» تقول بخفوتٍ واثق، تمدّ يدها تلقائياً نحو قلمه وكأنما تعرف مكانه قبل أن تراه. ترسم دائرة صغيرة حول كلمة مشطوبة. «دائماً يحرف هذا البيت للَبيد… أبوي كان يشتكي من هالعادة في كل زيارة.»
يتوقّف قلمه في الهواء لحظة. اسمٌ كان عنده مجرّدَ إحالة في أسفل الصفحة، يتحوّل فجأة إلى رجلٍ تتخيّله يعتذر في المجلس بينما شاعر عجوز يهزّ رأسه استنكاراً. يأسره ذلك الجسر القصير بين هوامش أوراقه وحياةٍ دارت في هذه الجدران نفسها، بين شيخٍ يخطئ البيت وطفلةٍ تحفظ شكاوى أبيها عنه وتكرّرها الآن بضحكةٍ مكتومة.
تتوالى اللحظات الصغيرة المشابهة: تشير إلى رمزٍ في بطاقة فهرسة لم يفهمه من قبل فتوضّحه بجملة واحدة، تستعيد من ذاكرتها ترتيب الرفوف قبل التجديد، تفسّر له لماذا يستحيل أن يكون هذا الناسخ من مدرسة الكوفة لا البصرة. احترامه، الذي كان محجوزاً لسنواتٍ في خانة «إدارة كفؤة» و«منسّقة ملتزمة بالمواعيد»، ينزلق شيئاً فشيئاً إلى حيّزٍ آخر، أقل تجريداً وأكثر إرباكاً؛ حيّز امرأة تعرف هذه الكتب كأنها أبناء عمومة، وتتحرّك بينها بثقةٍ لا تحتاج إلى استعراض.
في لحظة صمتٍ قصيرة، يلتقط نفسه وهو ينصت لا إلى الريح ولا إلى خرخشة الورق، بل إلى نبرتها حين تنطق أسماء الشعراء. يندهش من اكتشافٍ بسيط: أنه لم يعد وحده في هذه اللغة.
يتقلّص الفراغ بينهما دون إعلانٍ رسمي للهدنة؛ يتحوّل من بروتوكولٍ مهني إلى ضرورةٍ عملية. بعد بضع دقائق من تبادل الأوراق عبر المسافة، ترفع سميرة رأسها، تقيس الطاولة بنظرة سريعة، ثم تلتقط دفترها وتتحرّك ببساطة إلى الكرسي الملاصق لمرفقه، كأن الأمر تحريك قطعة أثاث لا تغيير تضاريس. «كذا أسهل،» تقول، وهي تسحب إحدى الرُزَم إلى المنتصف. لا يعترض؛ فقط يزيح كومة ملاحظاته سنتيمتراتٍ قليلة، يفسح لها ممراً بين خطوطه الضيّقة.
يتسلّلان إلى نسق عملٍ مشترك يبدو كأنهما جرّباه من قبل في حياةٍ أخرى: هي تتولّى الفهارس وتقارير الإقامات القديمة، تقلب الصفحات بسُرعة خبيرة وتقرأ بصوتٍ منخفض أرقام المخطوطات الغامضة وعناوين الملفات المنسيّة؛ وهو يلتقط ما تقول، يدوّن إحالاتٍ وجسوراً بين النصوص بخطّه المتقشّف الذي لا يسمح إلا بما هو ضروري. فيما بين الأرقام وحروف الاختصار تتسرّب جمل لا مكان لها في الاستمارات.
تحكي، بدون تمهيد تقريباً، أنها مرّةً اختبأت تحت هذه الطاولة نفسها وهي طفلة، هاربةً من قيلولة مفروضة، لتتجسّس على جلسة إنشاد. يرفع رأسه، حاجباه يتهلّلان باستغرابٍ خفيف، ثم يترك نظره يهبط إلى الموضع الموازي لركبته حيث يلامس الخشب. يرى الآن ما كان سطحاً وظيفياً فحسب: خدشاً طويلاً على الحافة، منطقةً باهتة من كثرة ما لُمِسَت، بقعة حبرٍ قديمة ترفض أن تستسلم لجهود التنظيف. يتخيّل طفلةً تحبس ضحكتها هنا، يداها ملتصقتان بالأرض الباردة، وعينان واسعتان تلتهمان أصوات القصائد القادمة من فوقها.
يتملّكه شعورٌ مُربِك بأن المكتبة التي ظنّها بلا لون، مجرّد خلفية حياديّة لعمله، ليست صفحةً بيضاء أبداً؛ أنها مشبعةٌ بطبقات حياةٍ سبقت حضوره، وأن بصمات سميرة , حرفياً , مطبوعةٌ في زواياها: في ترتيب الأرفف، في الورقة المنسية داخل مجلّد، في ضحكةٍ سابقة اختبأت يوماً تحت نفس هذا الخشب الذي يسند الآن مرفقيهما المتجاورين.
تومِض الأضواء مرة، مرتين، ثم تستسلم على امتداد نصف الممرّ، فيهبط عند طرف رفوفهما غسقٌ مبكِّر كأن النهار قرّر أن يختصر دوامه. في الثواني المعلّقة التي تسبق تكيّف العين، يتضخّم عواء العاصفة في الخلفية، يصعد من خلال الجدران السميكة حتى يغدو المكان أقرب إلى كهفٍ محاصر بالرمل منه إلى مؤسسة ثقافية. قبل أن يصوغ اقتراحاً بالانتقال إلى المكتب الإداري، تكون سميرة قد نهضت بالفعل، تدفع الكرسي بخفّة وتقول وهي تلتقط مفتاحاً من حافة الطاولة: «ثواني… أستعير شويّة تقوى من المصلى ونرجع.»
يغيب ظلّها في العتمة، وتبقى آثار خطواتها على البلاط هي العلامة الوحيدة على الحركة. يكتشف أنه ينصت إليها وهي تبتعد، لا إلى الريح؛ يعدّ عدد الأبواب التي تمرّ بها وفق صرير المفصلات، كما لو أن معرفته للمكان لم تكتمل إلا الآن عبر مسارها.
لا تلبث أن تعود في نهاية الممرّ كشعلةٍ متعدّدة الرؤوس، تحمل في كفّيها موكباً صغيراً من الشموع البيضاء المختطفة من حافة سجّادة الصلاة. تقيها بكفّها من تيار الهواء وهي تمشي، فتتراقص الألسنة الذهبية وتتضاعف ظلالها على الحائط خلفها، كأنها تقود موكب جنائز صغيرة للتيار الكهربائي المنقطع. تضع الشموع بحذرٍ على الطاولة، واحداً تلو الآخر، ثم تشرعان معاً، دون تشاورٍ حقيقي، في ابتكار حوامل من كؤوس الشاي الفارغة، ومن محابر خزفيّة قديمة لم يبقَ فيها سوى رائحة حبرٍ يابس.
شيئاً فشيئاً، يتشكّل بينهما نصفُ قوسٍ من ضوءٍ دافئ، بركة عنبرية تحيط بالأوراق المفتوحة، وتترك الأطراف البعيدة للقاعة غارقةً في ظلالٍ زرقاء. يلحظ كيف أنّ وهج الشموع يلطّف قسوة خطوط ملاحظاته الحادّة، ويمنح حوافّ الأوراق العتيقة لمعةً خفيفة كأن الألياف تستيقظ تحت الوهج من سُباتها الطويل.
لا يعلّق، لا على الشموع ولا على غزو «التقوى» لمكتبة البحوث. فقط يمدّ يده إلى ظهر كرسيه ويسحبه بضعة سنتيمتراتٍ إلى اليمين، حتى يكادا يشتركان في نفس البقعة من الضوء، كتفيهما على حافة هالةٍ واحدة. تتسلّل رائحة الشمع المذاب ممتزجةً ببقايا قهوة الهيل، فيشعر، على غير عادته، بأن هذا الترتيب المؤقّت أكثر ثباتاً من النظام الذي انطفأ قبل قليل.
في هذا النصف من الضوء، تُصبِح الحكايات الجانبية نوعاً من اعترافٍ مقنَّع. وهما يقلبان دفاتر الإقامات، تتوقّف سميرة عند مدوّنة شاعرٍ ملأ أوراقه بضمير الغائب عن حبيبةٍ لا يُسمّيها. تضحك بخفوت: «أبوي يقول كان يمرّ هنا لما الزاوية فاضية تقريباً… ياخذني وأنا صغيرة في الإجازات. مرّة واحد من آخر المقيمين أنشد من زهير، وقرّر يبدّل الأسماء بأسماء أهلي؛ أمي احمرّت من الغضب… ومن الفرح بعد.»
ينتفخ الهواء بينهما بذلك النوع من الذكرى التي لا تُحكى عادةً للغرباء، فيجد نفسه يبادِلها بأخرى قبل أن يستشير حذره. يذكر أمّه عند الموقد، ملعقتها تدور في القدر كميزانٍ يضبط الإيقاع: «كانت تعطّيني صدر بيت لابن الرومي وتقول: كَمِّل قبل ما تغلي الموية… شوف نَفْسَك تِلحَق على الوزن ولا على الجوع.» تمرّ ابتسامة قصيرة على فمه، كأنّه يتفاجأ هو نفسه بنبرة الخِفّة التي استعارها للصورة.
لا يعود الأمر مجرّد طُرفة عائلية؛ يتكثّف الصدى بينهما كأنّهما يكتشفان، فجأة، أن طفولتيهما نُسِجتا بخيوطٍ متقاربة: آباءٌ يختبرون أبناءهم بالشعر، أمّهاتٌ يربطن النار بالمِتر، ومكانٌ واحد تسرّبت إليه كل هذه البدايات من منافذ مختلفة. ما يعلق في الجو ليس حنيناً معزولاً بل إحساسٌ مباغت بأن هذا الإرث الثقيل الذي يحمِله كلٌّ منهما على طريقته، يمكن، لوهلة، أن يُحمَل على كتفين متجاورتين.
مع تراكم الساعات فوق بعضها، تتدرّب حواسّهما على إيقاعٍ واحد، كأنّ جسديهما يحفظان نصّاً مشترَكاً لا لحنَ له. حين تتباطأ حركة قلمه وتهبط نظرته آلياً إلى الفراغ في قاع الفنجان، تكون يد سميرة قد امتدّت أصلاً إلى الترمس، تُضيف طبقةً جديدة من القهوة بلا تعليق، كأنّها تُكمِل بيتاً مكسور الوزن. وحين تنعقد تقطيبةٌ صغيرة بين حاجبيها فوق حاشيةٍ غامضة، ويميل جسدها نصف ميلٍ استعداداً للنهوض نحو الرفوف، يجد الشرح المطلوب قد انزلق إلى منتصف الطاولة، مفتوحاً على الفصل الصحيح، ينتظر فقط أن تصل أصابعها إليه. يتسلّل إليه، في فجوةٍ نادرة بين سطرين، إدراكٌ خجول بأن هذه القاعة لم تعد «ملجأه» وحده ولا «إرثها» وحده، بل غرفة ثالثة يبنيانها معاً من ورقٍ وصمتٍ وتعبٍ متوازي. في غياب الجداول الزمنية والبريد الإلكتروني، ينكشف له كم تتعشّق خرائطه الصارمة للمعنى مع معرفتها المحلّية المُعاشة: ليست سكّتين متوازيتين، بل تضاريس واحدة تتداخل فيها هوامشه مع حكاياها، مكانٌ يتعلّمان، من غير اتّفاقٍ مُسبق، أن يقفاه كتفاً بكتف.
لا ترفع عينيها عن السطر، كأنّها تختبئ خلف الوزن الطويل، وهي تضيف بنبرةٍ تحاول أن تبقيها محايدة: «كانوا ناويين يروّجون لفكرة إنّ… الشراكة الصحيحة هي اللي تنقذ الأماكن الهشّة مثل قصْر الوفا. واحد يكتب، واحدة تدير… وكل شيّ يبدو تحت السيطرة، رومانسي بس محترم، مفهوم عند المموّلين وعند العائلة.»
يتحرّك قلمه بين أصابعه دون أن يلمس الورق. يسأل، متقصِّداً الجفاف: «والعاصفة أفسدت العرض المسرحي إذن؟»
تبتسم ابتسامةً قصيرة لا تصل إلى عينيها. «المشكلة مو في العرض… المشكلة إنّ كل شيّ معلَّق عليه. البرامج اللي أبغى أستمرّ فيها ( إقامات للشعراء الأصغر، الورش المختلطة للبنات من القرى ) هذي بالنسبة للمجلس “كماليّات”. كانوا مستعدّين يتسامحوا معها لو صورة “الشريكين المتناغمين” مشت مثل ما خطّطوا.» تتنهّد بخفوتٍ يُكاد لا يُسمَع فوق حفيف الورق. «الآن؟ في أسهل حجّة في الدنيا: الجوّ غير مستقر، الاستثمارات لازم تروح لشيّ مضمون أكثر. يعني: تراجُع، وإلغاء، وكم اقتراح خطبة ينرسل لأمي على الواتساب بدل العقود.»
يتردّد قبل أن ينطق الكلمة الأخيرة في جملتها: «خطبة؟»
تهزّ كتفيها هزّةً صغيرة، بعيدة عن الخفّة. «في نظرهم، إذا ما في رعاة رسميين يحطّون اسمهم جنبي، لازم يكون في رجل “ثابت” يسوّي نفس الوظيفة. مشروع مقابل مشروع. حتى أختي الصغيرة… كل تأجيل في الميزانية يصير فرصة ذهبية لعمي عشان يلمّح: “يمكن لو سميرة استقرّت، المكان يستقرّ.”» تلفظ العبارة بلهجةٍ قريبة من السخرية، لكن أصابعها تشتدّ على حافّة الورقة، تُسوّيها ثم تُسوّيها مرّة أخرى بلا حاجة.
يتقدّم الضوء نحو مفاصل يده، يفضح الانقباض الذي يجتاحها. ما كان، قبل ساعات، ترتيباً عمليّاً يُريح ضميره ( تعاوناً مكتوباً في بريد إلكتروني رسمي ) يتكشّف الآن عن كونه شيء آخر تماماً. يسعل سُعالاً خافتاً ليشتري لحظة تفكير، ثم يقول: «إذًا… هذا “النموذج” الذي يهمّهم… لا ينتهي بانتهاء الزيارة.»
ترمش بعينين ما زالتا على النصّ، لكنّ الالتواء الخفيف في فمها يقرّ بأنّه فهم. «لا، ما ينتهي. أو بالأحرى، إذا انتهى بسرعة… يستخدمونه ضدّي. يقولون: شوفوا؟ لا شراكة نجحت، لا رعاية تجددت. يمكن البنت مو مهيّأة تقود مشروع لحالها.»
الكلمات، في صيغتها العامّة، تبدو كشرحٍ عن سياسات مؤسسة. لكنّه يحسّ، بوضوحٍ جارح، أنّ كل ضمير جمع في جملتها يخبّئ “أنا” وحيدة تحاول أن تتقي الرصاص خلف صياغاتٍ رسمية. يشدّ قبضته على قلمه حتى يسمع فرقعة البلاستيك، يدرك فجأة أنّ وجوده هنا، جلوسه في هذا الضوء المشترك، لم يعد تفصيلاً لطيفاً في هامش بحثه، بل حُجّة حيّة تستند إليها لتتفاوض على بقاء المكان، و, أخطر من ذلك , على بقاء حريّتها هي نفسها.
يصعد إلى حلقه احتجاجٌ بدائي: أن يقول إنّه لم يوقّع على لعب هذا الدور، إنّه جاء ليهرب من دراما العالم لا ليصير محوراً في واحدةٍ جديدة. لكن قبله يصعد شيء آخر، أكثر هدوءاً وأكثر إزعاجاً: إدراك متأخّر بأنّ انسحابه، لو أراد أن ينسحب، لن يكون نظيفاً كما يتخيّل. سيكون، ببساطة قاسية، سحباً لخشبة من تحت قدميها.
يسأل، هذه المرّة بلا سخرية: «وماذا لو… قرّر أحد أبطال هذا “الموديل” أن ينكث العقد؟»
ترفع عينيها أخيراً، تلتقي نظرته تحت حوافّ الضوء. في عينيها بريقٌ جافّ يشبه حبيبات الرمل على الزجاج. «وقتها…» تقول ببطء، «أحاول أرَمِّم القصة وحدي. بس أكيد ما راح يطلع شكله حلو لا قدّام المجلس… ولا قدّام خالاتي.» تتوقّف لحظة، ثم تضيف، كأنّها تعطيه مخرجاً كريمـاً: «لا تقلق. دايماً أقدر أقدّم رواية بديلة. بس تكون… أغلى شوي عليّ.»
تستقرّ الجملة بينهما، ثقيلة لكن غير متوسِّلة. يدرك أنّها لم تطلب منه وعداً، فقط أطلعته على الثمن. والآن، بين عاصفةٍ تحاصر الجدران وبيتٍ جاهليّ عن القبيلة والحبيبة فوق الورق، يكتشف أن حياده الذي طالما تباهى به لم يعد خياراً بسيطاً؛ صمته نفسه، من هذه اللحظة، قرار.
حين يعودان إلى نصف الضوء المخمَّد في المكتبة، تضع حزمةً جديدة من الأوراق بينهما، لكن حركتها هذه المرّة خالية من تلك الخفّة الإدارية التي اعتادها منها. تُشير بقلمها إلى بيتٍ جاهليّ عن «حقّ القبيلة وحقّ الحبيبة»، وتقول، بلهجةٍ تحاول أن تبدو تقريرية: «كانوا حاسبين على الزيارة هذي عشان يورّون المموّلين “نموذج الشراكة” اللي يتغنّون فيه دايم… شخصين، كل واحد عنده قوّته، يمشون في خطّ واحد قدّام الناس.»
تشرح كيف أنّ خطط التجديد كانت مبنيّة على الصورة بقدر ما كانت مبنيّة على البرامج: انسجامٌ مرئي يغطّي على كلمة «تجريبية» التي تثير ريبة الأعضاء الأكبر سنّاً كلّما ظهرت في عرضٍ مكتوب. الآن، تقول وهي تقلب الصفحة ببطء، الحجج الورقية وحدها لن تكفي كي تُقنع مجلساً يفضّل «إقامات مضمونة» وموضوعات آمنة عن «التراث» على أي مغامرةٍ تختلط فيها البنات من القرى بشعراء المدن في غرفةٍ واحدة.
الجمل تخرج في صيغة عرضٍ مؤسّسي، لكن طريقة إمرارها لإصبعها على زاوية الورقة، كأنّها تُثبّت حافّة شيء يفلت من يدها، تفضح أنّ الأمر لم يعد مجرّد سيناريو تمويل، بل أرضاً شخصيّة تهتزّ تحت قدميها.
تضيف، وهي تعود ببصرها إلى الحرف لا إليه، أنّ التأخير لا يبقى في حدود بريد إلكتروني ومواعيد مؤجَّلة؛ له أمواج جانبيّة. إن ضاق هذا الموسم في رعايته، ستضطرّ إلى تقليص ساعات بعض العاملين الذين صاروا، مع الوقت، جزءاً من نسيج المكان، وتعليق ورش الشابات اللواتي وعدت آباءهنّ أن بناتهنّ سيجدن هنا مساحةً يقولن فيها شعراً لا اعتذاراً. سيزداد، بالمقابل، ضغط الشركات التي تريد «ريترات» سريعة ببرامج مُعلَّبة، تشبه أي فندق مؤتمرات أكثر ممّا تشبه زاويةً صوفيّة قديمة. في البيت، تتابع بنصف ابتسامة مالحة، بدأت خالاتها يلمّحن: «إذا القصر ما يعرف يثبّت نفسه، يمكن أنتِ اللي لازم تستقرّين»، ويعرضن أرقام خطّاب «مستقرّين» يجيء معهم، بشكلٍ شبه تلقائي، رأيٌ مُسبق في مستقبل أختها الصغرى أيضاً. هكذا تصير العاصفة، تقول وهي ترسم بإصبعها دوائر صغيرة على الهامش، شاهداً محايداً في صفّ كل من ينتظر دليلاً على أنّ طريقتها في العيش والقيادة محض نزوة جميلة لا يمكن التعويل عليها.
يبدو منصرفاً إلى الهامش، لكن يده تفضحه؛ القبضة على القلم تشتدّ حتى تَبْيَضَّ المفاصل، والسطر الذي أراد أن يتركه فارغاً يمتلئ بجملةٍ محفورة أكثر ممّا هي مكتوبة، تتجمّع عند نهايتها بركةُ حبرٍ صغيرة. كان قد أقنع نفسه أنّ تقمّص دور «الشريك المُتفاني» – لأجل المجلس، لأجل الخالات الفضوليّات – تمثيلٌ محدود الزمن، حلٌّ أنيق لمشكلتين إداريّتين. الآن، وهو يراقب العضلة الدقيقة عند زاوية فكّها تنقبض وهي تتظاهر بإعادة قراءة حاشيةٍ لا تراها، يدرك أنّ هذا التمثيل صار واحداً من آخر الروافع التي بقيت لها. شراكتهما المزعومة صارت خيطاً يمرّ في ميزانياتٍ لا يقرأها، وجداول اجتماعاتٍ لا يحضرها، وأحاديث مجلس نساء في بيتٍ لا يزوره؛ مجرّد ظهوره إلى جوارها، في قاعة أو في صورة، جزءٌ من معادلةٍ أكبر بكثير ممّا حسب.
الاستبصار هذه المرّة لا يمرّ كفكرةٍ نقديّة يدوّنها في الهامش، بل يقع في صدره كشيءٍ ثقيل: وجوده إلى جوارها لم يعد مجاملةً مهذّبة، بل ورقةً كشفتها على أكثر من طاولةٍ في آنٍ واحد. إن انسحب قبل الأوان، أو خانته لفتةٌ واحدة تُظهر خيط التمثيل تحت القماش، فلن يقتصر الأثر على تبريراتٍ محرَجة في بريدٍ إلكتروني أو ممرّ جانبي. سيكون، في عيون بعض أعضاء المجلس، دليلاً مرتّباً على أنّها تجاوزت حجمها؛ وبرهاناً جاهزاً، في يد خالاتٍ ينتظرن الزلّة، على أنّ البنت التي «تلعب دور المديرة» تحتاج من يعيدها إلى المسار المعروف، هي وأختها، عبر زيجاتٍ مستقرّة تمحو ذلك الهامش الضيّق من الاستقلال الذي حفرته هنا بين الرمل والحجر. حين تقترح زهرة لاحقاً «حلقة عافية» صغيرة في الصالة، يرى في التقلّص الخفيف بين حاجبي سميرة حساباً جديداً: حتّى في قلب العاصفة، كلّ قرارٍ عن أين يجلسان، وكيف يبدوان معاً أو منفصلين، يضغط على الميزان الدقيق بين حريّتها والأسوار التي تتقدّم بصمت.
عواء الريح حول الصالة يحوّلها إلى شرنقةٍ من ضوءٍ مُصفّى وصوتٍ مكتوم، كأنّ الرمال تحاول أن تتداخل مع الجدران ولا تنجح تماماً. النوافذ مكسوّة بطبقتين من الستائر، تَخْفُت خلفهما الصفرة القاسية إلى عتمةٍ بلون الشاي الخفيف، تُقطَّعها ألسنةٌ رفيعة من غبارٍ يتسلّل من عند الحوافّ. رُصّت الوسائد في حلقةٍ غير متقنة حول زهرة؛ ليست دائرة صارمة، بل خطّ متعرّج فيه فرجات صغيرة كهوامش مقصودة. بعض الضيوف يجلسون متقاربين، آخرون يختارون مسافةً واعية عن أقرب جسد، كأنهم لم يقرّروا بعد أيّ نوعٍ من المشاركة يناسبهم.
زهرة تميل قليلاً إلى الأمام، كُمّا عباءتها مرفوعان إلى منتصف الساعد، ساعةٌ بسيطة تلمع عند المعصم، ودفترٌ مغلق إلى جانبها كتعهدٍ صامت ألا يتحوّل هذا إلى «جلسة» مسجَّلة. صوتها منخفض، مموَّه نبرةً بنبرةٍ حتى ينسجم مع خفوت العاصفة خلف الزجاج.
«هذه ليست ورشة عمل ولا محاضرة»، تقول وهي تبسط راحتيها، كمن يبيّن أنّهما فارغتان من الأدوات والأسئلة الجاهزة. «بس مساحة… نعترف فيها بالأشياء اللي قاعدة تتحرّك جوّاتنا مع العاصفة. لو حابّين تسمّونها خوفاً، مللاً، حنيناً… ما في إجابات صحيحة أو غلط.»
تتحرّك رؤوسٌ قليلة بالإيماءة، شخصٌ عند الطرف يعبث بحافّة الوسادة، آخر ينظر إلى الباب كما لو أنّ إمكانيّة الهرب ما زالت قائمة. سميرة، نصف جلسةٍ على وسادتها، نصف ارتكازٍ على كعب قدميها، تميل قليلاً لتفسح في الجهة الأخرى فراغاً محسوباً. تترك يدها على الأرض، أصابعها مسترخية، لا تلوّح ولكنّها لا تُخفي الدعوة في الفراغ القريب منها.
يتردّد رباح عند العتبة لحظةً أطول مما يسمح به لأي بابٍ عادةً؛ كتفه يستند إلى الإطار، نظارته تلتقط شظايا الضوء الرمليّ، وعيناه تعبران سريعاً على الوجوه قبل أن تستقرّا، بلا مفاجأة تقريباً، على يدها الممدودة إلى الأرض. يُدرك، من انقطاع حديثٍ في الزاوية اليمنى ومن التفاتةِ ضيفٍ كان مشغولاً بثني عباءته، أنّ مجرّد ظهوره عند الباب خبرٌ صغير في هذه الغرفة.
يعبر العتبة أخيراً، بخطواتٍ محسوبة لا بطيئة ولا مستعجلة، كمن يجرّب درجة حرارة ماءٍ غير مألوف. لا يلتفت كثيراً، لكنّه يلتقط من طرف عينه حركةَ حاجبٍ يرتفع، وابتسامةً سريعة تُخفيها صاحبتها في كمّها، ولمعةَ رضى مكتومة تمرّ على ملامح محمود قبل أن يشيح بوجهه إلى النافذة كأنّ شيئاً لم يكن.
يختار الفراغ إلى جوار سميرة، الأرض بينهما مسافةُ كفٍّ مفتوحة، ويجلس على طرف الوسادة لا في قلبها، ظهرُه مستقيم إلى حدٍّ يوشك أن يكون رسمياً، كتفاه لا يميلان إلى أحد. يضع دفتره على ركبته كوثيقة عبور، وقلمه في جيبه كما لو أنّه يصرّ على حقّه النظريّ في تدوين ملاحظات لا ينوي كتابتها. حيادُ جلسته مبالغٌ فيه إلى درجةٍ تكاد تعترف بذاتها؛ حضورٌ مشروط، مؤقّت، واضح أنّه يحتفظ لنفسه دائماً ببابٍ خلفيّ مفتوحاً في ذهنه.
مع ذلك، حين تنحسر ضجّة همسٍ خافت وتعود العاصفة الخارجية إلى كونها مجرّد خلفيّةٍ مستمرّة، يشعر أنّ عبوره هذا الخطّ الصغير من العتبة إلى دائرة الوسائد قد غيّر، في عين المجلس وفي عين سميرة، أكثر ممّا يقرُّ به لنفسه.
«خلّونا نبدأ بشيء بسيط»، تقول زهرة، وتخفض كفّها إلى الأرض، راحتها منبسطة على الحصير، والكفّ الأخرى تستقرّ فوق صدرها. «يد على الأرض، يد على قلوبكم… وعيون نص مفتوحة، مو نوم، مو يقظة كاملة.» تتبعها رؤوسٌ متردّدة، تتحرّك كالأغصان تحت ريحٍ خفيفة؛ أكمامٌ تُسحَب قليلاً، خواتم تلمس الحصير، أنفاسٌ تُحبَس للحظة قبل أن تستسلم للإيقاع الجديد.
«حسّوا وين فعلاً قاعدين»، تهمس، والجملة تكاد تضيع في حفيف العاصفة. «مو على سيرة ذاتيّة، ولا على جدول مهام. على هذا الحجر، في هالعاصفة، في هاللحظة بالذات.»
على محيط الدائرة، تتراخى أكتافٌ بدرجاتٍ طفيفة، ضحكةٌ عصبيّة تفلت من أحدهم ثم تتلاشى وهي تُقابَل بابتسامةٍ لا تُدين. سحابةُ الغبار خلف الستائر تصير، مع كلّ شهيقٍ جماعيّ، جزءاً من إيقاعٍ داخلي أكثر منها تهديداً من الخارج.
رباح يضع كفّه على الحصير المبرّد بالهواء المُكيَّف، أنامله تتحرّى خطوط السَّدى واللحمة كما لو كانت حاشيةً يمكن قراءتها. يده الأخرى على صدره، حركةٌ مطواعة أكثر منها مُقتنِعة، فيما ذهنه ما يزال يدوّر عدّاد الصفحات غير المكتوبة، والإحالات التي تنتظر، وصورةِ جلوسه هنا في عيون من قد يسمع بالخبر. ومع ذلك، ثِقَلُ الأيادي على الأرض من حوله، توحّد الشهيق والزفير في مسافةٍ واحدة، يجعل «الوقت القابل للتجزئة» الذي يحيا فيه عادةً يتكتّل لحظةً واحدة متماسكة، لا يمكن الهروب منها بورقةٍ جديدة أو سطرٍ آخر في الهامش.
حين تفتح زهرة باب الكلام، تأتي الاعترافات الأولى متلعثمة، ملفوفة في غلاف المزاح. مساعدٌ في اللوجستيات تضحك وهي تقول إنّ جلدها «يحكّها» بلا هاتفها، كأنّ الشبكة طبقةٌ ثانية من بشرتها سُلخت فجأة. شاعرٌ أكبر سنّاً يرفع دفتره الفارغ ويهتزّ كتفاه ضحكاً: يحصي الساعات حتى يعود الإنترنت ليبثّ «إلهامات العاصفة» لمتابعين ينتظرونها أكثر مما ينتظرون المطر.
زهرة لا تدع النكتة تُحلِّق بعيداً؛ تلتقط الخيط من طرفه، تمسكه برفقٍ لا يُشعِر صاحبه بالفخّ. «وتحت هالحكّة؟» تسأل، كأنّ السؤال نفسه ربّتةٌ على ظاهر اليد، لا على الجرح.
صوت المساعدة يبهت وهي تنطق الكلمة الثقيلة: «وَحدة». الشاعر يحدّق في يديه العاريتين؛ يقرّ، بنبرةٍ خافتة، أنّه من غير جمهورٍ يصفّق لا يعرف تماماً من يكون. تخرج ضحكةٌ قصيرة من أحدهم ثم تذوب، كأنّها أخطأت التوقيت. يتحوّل الهواء من خفيفٍ متندّر إلى انتباهٍ عارٍ، الجفون المثقَلة بالملل قبل قليل ترفع نفسها درجةً أخرى. من طرف عينه، يلمح رباح سميرة وهي تنصت بسكونٍ لا علاقة له بجدول المهام؛ كتفاها مسترخيتان، فمها غير مشدود في نصف ابتسامةٍ إداريّة، بل مفتوحٌ قليلاً كمن يتلقّى. مع كلّ اعترافٍ صغير، يتغيّر شيءٌ دقيق في ملامحها: ليونةٌ عند زاوية العين، إيماءةٌ غير مقصودة بالرأس، كأنّها تُسجِّل في داخلها حياة هؤلاء، لا فقط مهامهم.
مع توالي الأصوات – طاهيةٌ تعترف أنّها خائفة من ذائقةِ متبرّعٍ لن يتذوّق أطباقها أبداً، وباحثٌ شابّ يقرّ بأنّه بلا مواعيد نهائيّة يخشى أن يكتشف فراغ انضباطه – يشعر رباح بأنّ الدائرة تقترب على نحوٍ غير مريح من تخومه الشخصيّة. لغةُ زهرة تنسج خيوطها في الحكايات بخفّةٍ مدروسة: «وين تدفَع نفسك أبعد من طاقتك؟» «ومتى يتحوّل الإخلاص لمحوٍ للنفس؟» كلّ جملة تسقط قربه كحصاةٍ صغيرة على سطح ماءٍ ظنّه ساكناً. يسجّل، بردّة فعل الناقد، براعتها في الانزلاق بين دفء العاميّة ولمحاتٍ تكاد تكون صوفيّة، يستمتع للحظة بتتبّع البناء والاستعارة، لكنّ خيط التحليل ينقطع كلّما مرّ بصرُها على وجهه مرّاً عابراً، لا يقف عنده ولا يتجاهله تماماً، كأنّها تترك له هو أن يقرّر: هل يدخل في النصّ، أم يبقى سطراً في الهامش.
بعد برهةٍ، تستند زهرة إلى الخلف، تُفرِج عن كتفيها كمن يفسح مكاناً لصمتٍ جديد قبل أن تُلقي طُعمها التالي. «تحمّلوني شوي»، تقول، وعيناها تدوران ببطء على الوجوه. «للحظة، انسوا الشيء اللي يمدحونكم عليه. انسوا شو الناس متوقّعة منكم. سمّوا شيّاً واحداً تَتظاهرون إنّكم ما تحتاجونه.» تبدو الكلمات كأنّها تُعلَّق في ثِقَل الهواء، تستدرّ شهيقاً جماعيّاً محجوباً. يتردّد أحدهم، ثم تنفلت الاعترافات تباعاً: «ثمان ساعات نوم حقيقي»، «حدّ يقول لي: كفاية، سويتِ اللي عليك»، «يد أمسكها لما أرتبك»، «غفران إني مو دايماً القويّة». آخر يضحك بارتباك قبل أن يهمس: «يوم واحد بدون دور البطولة». ومع كلّ جواب، تتحرّك سميرة حركةً لا يكاد يلحظها سواها وسواه؛ تُنزِل يدها من ركبتها إلى الحصير بينهما، أصابعها منبسطة، كأنّها تثبّت نقطة وجودٍ مشتركة على حدود جسده. تلك اللمسة غير الملموسة تكسر وهم مقعد «المراقب» الذي احتمى به؛ فجأةً يصير وعيه بمسافة الكفّين بينهما أشدّ من وعيه بكلّ النصوص التي يختبئ خلفها، وزهرة، من الطرف الآخر، تترك نظرتها تمرّ قرب زاويته، كمن يجرّ خيطاً خفيفاً نحوه ينتظر أن يشدّه من جهته.
لا يلتفت مباشرةً؛ يترك عينيه معلَّقتين على عقدةٍ صغيرة في حصير الأرض، كأنّ المشكلة في الحياكة لا في السؤال. يشعر بالدوائر تتراصّ حوله، لا من الأجساد بل من الانتباه؛ حافّة ثوبٍ تتحرّك، كحّةٌ مكتومة من زاويةٍ أخرى، وزنُ نظراتٍ لا يراها لكن يحسّها على شَعر ساعده المنتبِه. في داخله، يبدأ نوعٌ آخر من العصف: قائمةٌ ذهنيّة سرّيعة بالأجوبة «المقبولة» تمرّ كالشرائح أمامه ثم تُرفَض واحدةً تلو الأخرى.
يمكنه أن يقول «الوقت». «المزيد من الساعات في اليوم»، عبارةٌ آمنة، تليق بصورة العالِم المنهمك، لا تُسيء لأحد ولا تكشف شيئاً. يمكنه أن يلوّح بشكوىٍ خفيفة عن الانقطاع عن الإنترنت، عن المراجع المعلّقة في صندوق بريده الإلكتروني، عن المسودّة المؤجَّلة. سيضحكون، سترفع زهرة حاجباً وتنتقل بسلاسةٍ إلى الضحيّة التالية. أبسط من أن يعترف بأنّ ما يخيفه ليس قلّة الوقت بل فراغه.
تمرّ مفرداتٌ أخرى في داخله كطيوفٍ يطردها سريعاً: «راحة» – ماذا يعني أن يقرّ أمام غرباء بأنّ جسده منهك؟ «لين» – الكلمة نفسها تبدو في حلقه رخوة، لا تستقيم مع صلابته المتدرَّبة. «صحبة» – ثقيلةٌ أكثر من اللازم، قريبةٌ أكثر من اللازم من تلك الطاولة البعيدة في مقهى السنوات الماضية، يدٌ كانت في كفّه ثم انسحبت ببطء وهي تقول له، بنبرةٍ هادئة أكثر مما ينبغي: «تعبتُ من أن أكون الهامش في حياتك.»
يبتلع الذكرى دفعةً واحدة، كمن يبتلع ماءً مالحاً. العصب في فكّه يشدّ، وعضلات عنقه تستقيم زيادةً عن اللزوم، كأنّ قامته العسكريّة يمكن أن تُقنِع أحداً بأنّه محصَّن من هذا النوع من الأسئلة. على أطراف وعيه، يلتقط حركةً بالغة الخفّة: إصبع سميرة يتحرّك ملّيمتراً واحداً نحو يده، لا يلمسها بعد، لكنّ الدفء المتخيَّل لتلك المسافة الضيّقة يكفي ليُربِك توزيع الدم في جسده.
يمدّ زهرة الصمت أمامه كسلّمٍ يمكنه أن يصعد عليه أو ينسحب من تحته. «خُذ وقتك لو حابّ»، تقول، ونبرتها تلتفّ حوله من دون أن تُحاصره، لكنّها أيضاً لا تترك له مخرج اللا-جواب. يسمع نفسه يستنشق بعمقٍ أكثر ممّا ينبغي؛ الهواء الجافّ يخزّ حلقه، والريح في الخارج تضرب الجدار كاحتجاجٍ بالنيابة عنه. يجرّب أن يُقيم وزناً للاعتراف في رأسه؛ لو قال «صحبة»، لو قال «غفران»، لو قال الحقيقة العارية: أنّه يتظاهر منذ سنواتٍ بأنّه لا يحتاج أن يَرى في عيني أحدٍ انعكاسه غير المشوَّه بالإنجاز.
كلّ خيارٍ حقيقي يبدو كخيانةٍ لوعدٍ قديم قطعه لنفسه على طاولة المستشفى عند سرير أمّه، حين قرّر أن يكرّس «كلّ شيءٍ» لاسمٍ واحدٍ في صدور الكتب. التراجع الآن – ولو بكلمةٍ عابرة – يُشبه عنده التراجع عن عهدٍ مكتوبٍ بحبرٍ لم يجفّ بعد. لذلك، حين يفتح فمه أخيراً، لا تخرج أيٌّ من تلك الكلمات المحظورة؛ يخرج بدلاً منها صوتُه مُعدَّلاً بعناية، مصقولاً بسخريةٍ خفيفة استعار نبرتها من زملائه الذين يعرف أنّهم أقلّ صدقاً وأكثر راحةً منه.
يشعر أنّ الغرفة تميل نحوه قليلاً، كقاربٍ خفيف تحوّل ثقل الركّاب فيه إلى جهةٍ واحدة. خشخشةٌ خافتة من تبديل الجلسات على الوسائد، زفرةٌ مكتومة، حركةُ مسبحةٍ تتوقّف ثم تُستأنَف. لا أحد يلتفت إليه مباشرة، لكنّ محاور النظرات تنعقد في الزاوية حيث يجلس، كأنّهم جميعاً اتّفقوا ضمنيّاً على أن يكون اعترافه بمثابة فاصلةٍ جديدة في النص.
يشرع ذهنه، بآليّةٍ تمرَّن عليها طويلاً، في قلب الاحتمالات ورفضها واحداً تلو الآخر: «راحة» – كلمةٌ أقرب إلى تشخيصٍ طبّي ممّا هي إلى رغبة، تحمل في طيّاتها إقراراً بأنّ الجسد لم يعُد مجرّد آلةٍ موثوقة. «لين» – تبدو له كعرَض جانبيّ لم يسمح به في نظام التشغيل؛ نعومة الأطراف تعني عنده هشاشةً في المركز. «صُحبة» – هذه أثقلهنّ جميعاً، محمَّلةٌ بأصوات الكراسي في ذلك المقهى البعيد، وبرودة الزجاج تحت كفّه حين انسحبت اليد الأخرى عنه.
كلّ خيارٍ يلمع للحظةٍ ثم ينطفئ؛ ليس لأنّه غير صحيح، بل لأنّ لفظه هنا، أمام هؤلاء الشهود، سيعني ثقباً صغيراً في درعٍ صقله لسنوات. حلقه يعمل على ابتلاع شيءٍ لا شكل له، جفافٌ لا يمكن تبريره بعاصفةٍ خارج الجدار. يمدّ لسانه في سرّه نحو أعذارٍ أخرى: حرجُ المشاركة، اختلاف الجيل، حيادُ «الباحث» الذي لا يحقّ له أن يتلوّن بانفعالات «العاديّين». لكنّ أيّاً منها لا يغطّي تماماً هذا الفراغ المحدَّد في صدره.
الصمت يتمدّد نصف نبضةٍ أطول ممّا يُفترض؛ يسمع فيها صفيرَ الهواء عند حافّة النافذة، وطنينَ الكهرباء في المصباح، ودقّات قلبه هي الأخرى وقد دخلت على الخطّ. على الحصير بينهما، تتحرّك أصابع سميرة اقتراباً لا يُقاس بالملِّيمتر بقدر ما يُقاس بما يُحدثه من خللٍ في هندسة دفاعاته؛ الهوامش التي اعتاد أن يحتمي فيها تضيق فجأةً، فيجد نفسه، من غير أن يغيّر وضعيّة جسده، أقرب ما يكون إلى مركز النصّ الذي كان يؤثِر قراءته من بعيد.
«ساعات أكثر في اليوم»، يقول أخيراً، كأنّه يُلقي بطوق نجاةٍ من كرتون. تنفرج زاوية فمه في شيءٍ يطمح أن يكون ابتسامة. «لو تكتشفين لنا ساعة خامسة وعشرين، أسجّل أوّل واحد في برنامجك التجريبي، دكتورة.» يأتي الضحك كما توقّع: تموّجٌ مهذَّب، هزّات رؤوسٍ متفاهمة – طبعاً، العالِم المنهَمك لن يطلب إلاّ وقتاً إضافيّاً ليُنهِك نفسه أكثر. يلتقط أحدهم الطُّرفة ويُضيف تعليقاً عن «صندوق الشكاوى ضدّ الأربع وعشرين ساعة»، فتنتشر ابتساماتٌ مريحة، كأنّهم جميعاً اتّفقوا على هذه المخارج السهلة. يمكن للحظة أن تنزلق من بين أصابعه على هذا المنحدَر المصقول: جوابٌ آمن يُغلَق عليه الملفّ، ويتحوّل سؤاله إلى مجرّد نكتةٍ تُحكى عن «الأستاذ» لاحقاً في العشاء. غير أنّ زهرة لا تمنحه تماماً هذا الهروب المرتَّب.
«هُمم»، تقول وهي تميل برأسها قليلاً، تحدِّق فيه بذلك الانتباه اللطيف الذي يبدو أعرى من أيّ تحدٍّ مباشر. «أحياناً طلب المزيد من الوقت يكون طريقنا لتجنُّب طلب… أشياء أُخرى.» لا تُكمِل الجملة؛ تترك الاحتمال يتصاعد في الهواء مثل بخورٍ خفيف. يشعر فجأةً كأنّ الضوء اشتدّ فوقه دون غيره؛ يصبح واعياً لشدّة كتفيه المتسمِّرين، لارتجافةٍ دقيقة في يده اليمنى يحاول أن يُخفيها وهو يضغط قبضته على فخذه، كأنّ بإمكان العضل المحزوم أن يكمِّم فزعاً لا يريد له اسماً.
هناك، عند حافّة قبضته المشدودة، يشعر بها: مسٌّ خافتٌ، كأنّ ذرّة غبار حيّة لامست مفاصل أصابعه؛ طرف سبّابة سميرة ينزلق برهافةٍ على عقدةٍ عظمية ثم يستقرّ إلى جواره على الوسادة المشتركة. الخفّة كافية لتُسجَّل حادثاً عرضيّاً لو شاء، لكنّها لا تنسحب. الحرارة الصغيرة تتسلّل عبر سماكة «المسافة الآمنة» التي هندسها بعناية، تحفر نفقاً في دفاعاته وتخرج في الجهة الأخرى متّصلةً بصورةٍ قديمة: أصابعٌ تنفلت من يده في مقهى مكتظّ، وبرودة زجاج الطاولة حين بقي وحده يحدّق في مكانهما، وصوتٌ متعبٌ يقول إنّها سئمت أن تحبّ رجلاً لا يحبّ إلاّ عمله. صعودٌ مباغتٌ للعار والخوف يخنقه؛ الجملة المألوفة تعود: هو يفسد ما يمسكه، والتعلّق انحرافٌ عن الواجب. كلّ عصبٍ فيه يصرخ أن يسحب يده، أن يستعيد حصن الانسحاب، ومع ذلك يتركها، «نظريّاً»، في موضعها ذاته؛ فقط شيءٌ في هيئته ينكمش إلى الداخل، تكسُّرٌ دقيق في استقامته، انطواءٌ تحسّه سميرة وإن ظلّ غير مرئيّ للآخرين.
يخرج الناس ببطءٍ من الحلقة، كأنّهم يخشون أن يوقظوا شيئاً لو نهضوا فجأة. تتزحلق الوسائد، تنفضعباءاتٌ وعبايات، تُستبدَل النبرات العارية قبل قليل بهمهماتٍ مريحة عن الشاي والتمر وبرنامج الغد. يلتقط هو اللحظة الأولى الممكنة للفرار. ينهض أسرع ممّا ينبغي؛ الكوب الفارغ يتمايل، يوشك أن ينقلب على البساط، فيمدّ يده ويثبّته بحركةٍ عصبيّة. «أعتذر… عندي مراجع لازم أراجعها قبل ما ينقطع النور»، يتمتم وهو يوجِّه كلامه إلى لا أحد بعينه، إلى الفراغ الآمن بين الوجوه.
يلمح في طرف عينه لمعةً تعرفه: نظرة زهرة، نصف قلِقة نصف فضوليّة؛ تقابِلها، على الجانب الآخر، انقباضةٌ خفيفة في حاجبي سميرة، كأنّها تريد أن تمدّ يدها من جديد لتثبّته لكنه سبقها إلى الهرب هذه المرّة. يكتفي بهزّة رأسٍ مقتضبة ويستدير نحو الممرّ الحجرّي قبل أن يطالبه أحدٌ بأن «يبقى خمس دقائق أخرى فقط».
الضوء في الرِّدهة باهتٌ بسبب الغبار المتراكم على الفوانيس؛ الهواء أثقل قليلاً، كأنّ العاصفة وجدت طريقاً إلى داخل العظام. مع كلّ خطوةٍ يبتعد بها عن صالة الجلسة، يتكاثر بداخله مزيجٌ مزعج من الغيظ والارتباك. يغتاظ من زهرة، من طريقة استهدافها اللطيف الذي لا يمكن وصفه هجوماً ولا تجاهله أيضاً؛ من قدرتها على وضع إصبعها – مجازيّاً هذه المرّة – على موضعٍ لا يحبّ أن يسمّيه. لكنّ الغيظ الأكبر موجَّهٌ إلى نفسه: لماذا سمح لأسئلتها أن تُربِك نبضه أمام الآخرين؟ لماذا جلس أساساً في تلك الحلقة «الطوعيّة»؟ كان يمكنه ببساطة أن يلوِّح بعذر «المنهجية» وينجو.
يُسرِع في مشيته، أنفاسه تصير أقصر، ليس من الجهد بل من الوعي المتضخِّم بأنّهم، هناك خلفه، قد تبادلوا الآن نظراتٍ متفاهمة. كلمة «احتراق» التي تكرّرت في حديثهم تعود إليه مشوَّهة: ليست احتراق الأعصاب فقط، بل احتراق السرديّة التي بنى عليها آخر سنواته – حكاية الأستاذ المتجرِّد، الذي لا تزعجه إلاّ المواعيد النهائيّة والهوامش الناقصة. منذ متى صار جزءاً من «قصة» يُتداول فيها كعنصر دراميّ؟ مجرّد بطلٍ ثانويّ في برنامجٍ عن التوازن والنيّة الحسنة؟
يصل إلى مدخل المكتبة قبل أن يلحظ أنّ كفّيه ترتجفان. يرفع واحدةً منهما أمام وجهه تحت ضوء الممرّ، فيراها بوضوح: اهنزازٌ دقيق، مسارٌ متقطّعٌ من الرسائل العصبيّة المرهَقة. يحاول أن يضحك من نفسه – «جميل، أستاذ الأدب الذي يحفظ نصوص العذاب والوجد عن ظهر قلب، يرتعش من حلقة نقاشٍ عن الراحة» – لكنّ الصوت يختنق في حلقه ولا يخرج.
يفرك راحتيه ببعضهما، كأنّه يقدر أن يمحو من جلده بقايا اللمسة التي لم يفكّر فيها أحدٌ غيره، أو ما يتخيّله همساً دار في رؤوسهم بعد خروجه: «واضح عليه التعب… يمكن فعلاً محتاج يساعده أحد». يفتح ويغلق أصابعه، يستعرضها واحدةً واحدةً كما لو كان يراجع مخطوطةً بحثيّة: سبّابةٌ يُفترض أن تظلّ مكرّسةً لتقليب الصفحات، لا لأن ترتجف حين تقترب منها أصابع امرأة. إبهامٌ مهمّته وضع إشاراتٍ لاصقة في الهوامش، لا أن يتذكّر كيف كانت خطيبته السابقة تفلت من قبضته في ذاك المقهى البعيد.
يشدّ كفّيه في قبضتين حازمتين حتّى يبيضّ جلد المفاصل، كأنّ العضلات يمكن أن تُسكِت هذا الفيض من الصور. يهمس لنفسه بنبرةٍ حادّة أقرب إلى التأنيب: «تركيز، يا رفاع. أنت هنا للكتابة. القصص الشخصيّة تُترَك لأهل العلاج الجماعيّ.» ومع ذلك، في عمقٍ أبعد لا تبلغه شعاراته، يعرف أنّ ما حاول أن يطرحه هناك كـ«نكتة» عن حاجةٍ إلى ساعةٍ خامسةٍ وعشرين لم يضحك أحدُهم منه تماماً. لقد سمع بعضهم، وربّما زهرة أو سميرة، ما وراء المزاح: طلباً مؤجَّلاً لشيءٍ آخر لا يملك اسمه بعد. ويحاول الآن، بكلّ ما في يده من انضباط، أن يُسكت هذا الإدراك وهو يندفع إلى عتمة الأرفف.
يندسّ بين الأرفف العالية، إلى الممرّ الضيّق الذي كان – في الليلة السابقة – يبدو له كأنّه شقٌّ سرّيّ في جدار هذا المكان: هواءه مفعمٌ بقربٍ لا يُقال، بضوءٍ أصفر يترك للعتمة مهمّة إخفاء ما يتجاوز «القراءة الأكاديميّة». الآن، الممرّ نفسه يضيق عليه. الرفوف، التي طالما اعتبرها حلفاء، تصطفّ كهيئة محلفين صامتة؛ وحتى الغبار المترسِّب على الحوافّ يشبه طبقةً من الأحكام القديمة تنتظر إضافته الهفوة الأخيرة.
يتردّد في رأسه النصّ الذي أنشده هناك بين الصناديق الحديديّة، ولكن بصوتٍ مختلف: ليس كابتهالٍ سرّيّ بين عالمٍ ونصّه، بل كـ«دليل إثبات» محتمل في ملفٍّ مؤسّسيّ. بيتٌ عن محبّةٍ تُخفى صوناً للكرامة يتحوّل، تحت ضوء المخيّلة البيروقراطيّة، إلى اعترافٍ غير مقصود يمكن أن يُقتطَف في تقريرٍ أو يُهمَس به في اجتماع مجلس إدارة.
يمدّ يده إلى أوّل مجلّدٍ تصادفه عيناه ويسحبه بعنفٍ أكثر ممّا يلزم؛ ينهتزّ الرفّ، وينفلت من بين المجلّدات ملفّ رقيق يكاد ينزلق إلى الأرض. يلحقه في آخر لحظة، أصابعه تغرس نفسها في ورقٍ متهالك حافّاته متآكلة. يسمع خشخشة أليافٍ تحت ضغط يده، مجرّد جزءٍ من ثانية بين الحفظ والتمزيق، كافية لتُشعل في صدره هلعاً مباغتاً: خطوةٌ زائدة، حركةٌ غير محسوبة، كفيلةٌ بأن تدمّر سنواتٍ من نسخٍ وهامش وتعليقات.
يتجمّد للحظات، يحدِّق في الورقة التي نجا بها بالكاد، ثمّ في أصابعه. الفكرة تنبض فيه بوضوحٍ قاسٍ: هذا بالضبط ما يفعله حين يقترب من الناس أكثر ممّا تعلّم أن يقترب؛ شدّةٌ زائدة في الإمساك، تردّدٌ متأخِّر في التخلّي، ثمّ ورقٌ مجعَّد – أو قلب – لا يعود كما كان. الارتباك الذي ظنّه قبل دقائق مجرّد ردّ فعلٍ على «جلسة رفاه» يتّخذ فجأةً شكلاً أوضح: خوفٌ قديم من أن يكون هو دائماً تلك اليد الثقيلة على ما يجب أن يُمسَك برفق أو يُترَك تماماً.
خطواتٌ واطئة على الحجر تسبق ظهورها عند المدخل، كأنّها تتردّد بين العودة أدراجها أو المضيّ قدماً. تقول، وهي لا تزال نصف مستترة وراء الحاجز الخشبي: «زادوا سطر على مذكرة الترحيب.» صوتها أوطأ من العادة، يحمل ما يشبه اعتذاراً غير مصاغ. تتقدّم بورقة مطبوعة، حافّتها منحنية من شدّتها عليها، وتناولها له: مسوّدة خطابٍ للمتبرّعين، وفي منتصف النقاط السوداء جملةٌ تلمع كشوكة: «متابعة ازدهار الشراكة الخلّاقة بين الأستاذ الرفاع البيطاني والمديرة سميرة الحديد».
الكلمات تشدّ حلقه كرباطٍ ضيّق. ما كانت تصفه يوماً كـ«استراتيجية يمكن التحكّم بها» صار الآن سطراً رسميّاً يجمّدُه الحبر: قدرٌ إداريّ لا مزحة عابرة. في عينيها، هو بندٌ إضافيّ من الضغوط تعرف – أو تتخيّل – أنّ بإمكانها الالتفاف حوله؛ في عينيه، دبّوسٌ يُثبَّت باسمه في لوحة حكايةٍ انفلتت من موافقته، كأنّ مؤسّسةً كاملة قرّرت أن تُقنّن ما لم يجرؤ هو حتّى على تسميته في داخله.
يمسك بالورقة ولا يرفع عينيه. يضغط كلماته كي لا يفضح ارتجافه الخفيف: «هذا بالضبط اللي حذّرتِك منه. مجلسكم حوّل… ترتيباً عمليّاً لبروباغندا». تسقط الكلمة أبرد ممّا أراد؛ تشدّ سميرة فكَّها، ومضةُ أذًى تلمع تحت مهنيّتها المتقنة. تذكّره بهدوءٍ أنّه وافق، أنّ سيرته الأكاديميّة نفسها ستُعرَض كنموذج نجاحٍ للمكان. في ذهنها، نظراتهما المتقاطعة في سكون العاصفة جعلت ذلك التنازل مشتركاً، شبه عادل؛ سماعها الآن تُختزَل إلى «بروباغندا» يلدغها كإنكارٍ لما حدث بينهما في العتمة، كأنّ القصيدة التي تعمّد أن يتلوها لها وحدها تُعاد تصنيفها فجأةً كمجرّد «مادّة ترويج».
الصمت يتمدّد بين الأرفف، مشحوناً بما تبقّى من قصيدةٍ لم يَعُد ممكناً ادّعاء البراءة منها. يرفع رفاع رأسه أخيراً، لكنّه لا يمدّ يده إلى ذلك التفاهم الهشّ الذي لامساه الليلة الماضية؛ يلوذ بالنظام. يقول بنبرةٍ مقنّنة: «لازم نرسم خطوط أوضح. أي… انطباعات خلّفتها العاصفة كانت مناخيّة، مو… مُلزِمة. لو المتبرّعين أو الطاقم بدؤوا يصدّقوا غير كذا، شُغلِي، ومكانتِك، كلّه يتعرّض للخطر». الخطر الذي يستدعيه حقيقيّ، لكن ما يصلها هو المحو: لحظتهما المشتركة تُخفَّض إلى «طقس»، انحرافٍ مؤقّت في الرؤية يجب تصحيحه. وهو ينسلّ من جوارها نحو المخرج، يستقرّ الشرخ غير المسمّى بينهما – استعدادها للإقامة في ذلك الشعور، وإصراره على التنصّل منه – كطبقة غبارٍ دقيقة فوق الرفوف، شقّ أوّل سيتّسع تحت وطأة النظرات العامّة المقبلة والأسئلة التي لن يجرؤ على الإجابة عنها بصيغة المتكلّم.
في صباح ما بعد العاصفة، بدا كأن الصمت الذي خيّم على القصر طوال الليل انشقّ عن نفسه دون تمهيد. الهواء ما زال يحمل رائحة الرمل الرطب، لكن الممرات امتلأت بخطى سريعة وهمسات مكتومة. موظف الاستقبال كان يهرول بين المبنى الإداري وجناح الضيوف، يحمل ملفات بلاستيكية تتناثر منها أوراق عليها جداول ملوّنة. الطابعة في المكتب الصغير قرب باب Samirah تئنّ بلا رحمة، تقذف نسخًا متلاحقة من “برنامج زيارة المانحين – النسخة المعدَّلة بعد العاصفة”، فيما تحاول الموظفة الشابة عندها أن تفكّ ورقة عالقة بأسنانها.
في الفناء، تحت ظل نخلة مائلة، وقف Mahmoud بهاتفين في يده، واحد على كل أذن، يحاول أن يشرح لسائق الشاحنة أن الطريق إلى القصر سالك، ولمنسّقة من الشركة الراعية أن العاصفة كانت “تجربة روحية مدهشة للضيوف”، لا أزمة لوجستية. على الطاولة القريبة، فناجين قهوة بالهال تبرد بلا من يشربها، بينما شاشة الحاسوب اللوحي تعرض شريطًا أحمر: «٣٢ دقيقة متبقية من الاتصال بالإنترنت».
Rafah، بعينين حمراوين من الأرق، دخل المبنى الإداري وهو يضغط صدغه بأصابعه، يلعن في سره رأسه الذي رفض النوم، رغم تعب الجسد. لم يستوعب إلا نصف ما قرأه في سيل الرسائل الليلية حين خرجت Samirah من مكتبها، تشير له بنظرة مقتضبة فيها شيء من الاعتذار المتعب وشيء من الأمر: “اجتماع طارئ مع المجلس. الآن.”
في قاعة الاجتماعات المكيّفة حدّ البرودة، جلس أعضاء المجلس حول الطاولة البيضاوية، أكواب ماء موضوعة بعناية، شاشات مفتوحة على جداول زمنية متشابكة. رئيس المجلس، بربطة عنق زرقاء لا تليق بالصحراء، ابتسم ابتسامة زيتية وهو يمدّ يديه كأنّه يبارك زواجًا:
«يا جماعة، رغم العاصفة، في عندنا نعمة لازم نشكر ربنا عليها.» التفت إلى Rafah ثم إلى Samirah، وعيناه تلمعان بفرصة دعائية جديدة. «الشراكة الملهمة بينكما. الـ synergy اللي صارت حديث المانحين. هذا بالضبط الروح اللي نحتاجها في Qasr Al‑Wafā’.»
Rafah شدّ كتفيه تلقائيًا، كأنّ الكلمة أصابت عضلة قديمة. synergy. كأنّهما مشروعان رقميان تم دمجهما، لا شخصان بلحم وتاريخ وحذر. حاول أن يصحّح، أن يذكّرهم بعقود الإقامة، بـ “الإطار المهني البحت”، لكن رئيس المجلس كان قد انطلق في نبرة احتفالية، يصف “الثنائي النموذجي” الذي يجسّد “التفاني والإبداع معًا”، فيما ظلّ قلم Rafah في يده يدور بين أصابعه، كأنّه يبحث على الهامش عن مخرج لم يعد موجودًا في النص.
لم تمضِ ساعات حتى تجمّدَت اللغة حولهما كما لو أنّها قرار إداري لا رجعة فيه. وصلت أولًا رسالة داخلية إلى جميع الموظفين بعنوان: «تحديثات بخصوص برنامج زيارة المانحين». في منتصف الفقرة الثانية، تظهر الجملة كأنها شيء بديهي: «سيُسلَّط الضوء على Rafah Al‑Baytani وSamirah Al‑Hadid كثنائي Qasr Al‑Wafā’ الإبداعي الرائد.» لا شرطة اقتباس، لا “مقترَح”، بل حقيقة مكتملة، مطبوعة بحروف متينة لا تعرف التردّد.
في قاعة العمل المشتركة، جلست Samirah أمام حاسوبها المحمول، الضوء الأزرق ينعكس على عينيها وهي تتصفّح ملف PDF المُرفق. مرّت عينها على العبارة مرتين، ثم ثلاثًا، قبل أن يستقر فكّها في شبه قفل؛ لم يكن في السطر أي أثر للاتفاقات الدقيقة التي صاغتها في رأسها، فقط سهولة مفرِطة، نبرة من يفترض أن القصة انتهت فعلًا، وأنهما جزء من حملة تسويق لا من حياة معقّدة.
على الجدار المقابل، كان جهاز العرض يُلقي نسخة أوّلية من عرض للمانحين. جلس Rafah في الخلف، ظانًا أنه سيستمع فقط لأرقام وإحصاءات. لكن شريحة رمادية ظهرت وفي أعلاها عنوان إنجليزي مزخرف: Embodied Partnerships، وتحته اسمان متجاوران، يفصل بينهما خط رفيع: Rafah Al‑Baytani | Samirah Al‑Hadid. لم يرَ الصور ولا النصوص الصغيرة؛ كل ما رآه هو ذلك الخط العمودي النحيل، كأنه مسمار يثبت لوحًا يحمل حياةً ليست حياته.
شعر بانقباض بارد في معدته، إحساس مألوف من أيام المراجعات الأكاديمية القاسية، لكن بلهجة أخرى: هذه المرّة، لم يكن نقدًا لمقال، بل إعادة كتابة لهويته. الكلمات التي كان يُصرّ منذ أسابيع على تسميتها “ترتيبًا مؤقتًا” تحوّلت في لحظة إلى مصطلح مؤسسي راسخ، يتسرّب إلى المذكرات، والعروض، وألسنة الموظفين. في زحمة الملفات والجداول الزمنية، لم يعد هناك مكان للجملة البسيطة التي تدور في رأسه: هذا ليس حقيقيًا… أو كان هكذا، حتى بدأ الجميع يتصرّف كأنه الحقيقة الوحيدة المتاحة.
كل محاولة لفرملة الحكاية كانت تُقابَل بلطف مصقول يُشبه الرفض أكثر مما يُشبه التفهّم. حين اقتربت Samirah من إحدى العضوات الكبيرات في المجلس عند آلة القهوة، وخفّضت صوتها قائلة إنّ الوصف في الرسائل الداخلية «سابق لأوانه قليلًا»، رفعت المرأة حاجبًا مبتسمًا وردّت بنبرة أمّ خبيرة: «يا بنتي، لا تخبّوا أجمل قصصكم. الناس عطشانة لنماذج حلوة مثل علاقتكم.» كلمة علاقتكم هبطت على أذن Samirah كوزن إضافي، لا مديحًا.
في اجتماع آخر، جمع Rafah شجاعته اللغوية المعتادة وتحدّث عن «حاجةٍ إلى وضوح في الحدود المهنية». ضحك عضو آخر في المجلس، لوّح بيده كأنّه يبدّد دخانًا لا حجّة، وقال: «أنتُم الأكاديميين دائمًا آخر من يعترف أنه واقع في الحب. نخلي الخجل على جنب، دكتور.» فانهارت ملاحظته الصغيرة في ضجيج المزاح، وتحولت تحذيراته إلى مادة طريفة في سردية صارت تكتب من دونهم، وباسميهما معًا.
في ذلك العصر، دعت Zahra إلى دائرة عافية في الغرفة الصغيرة الملحقة بالعيادة؛ أُطفئت الأضواء، واكتفت بالمصابيح المعلّقة عند الزوايا، ورُتِّبت المخدّات في حلقة غير مكتملة، كأن فيها متعمّدًا فسحةً للهروب. قدّمت الجلسة على أنّها مساحة «لفكّ التوتر بعد العاصفة»، ثم أعلنت موضوعها بهدوء: «ثمن التمثيل»، طالبةً من الحضور أن يفكّروا في الكلفة العاطفية للأدوار التي يتقمّصونها من أجل مؤسساتهم، أو عائلاتهم، أو سمعتهم. ظل صوتها دافئًا، لكنه تشبّث طويلًا بأمثلة عن أشخاص قبلوا بخطوبات صورية، أو حكايات مصاغة بعناية، فقط ليظلّ الجميع حولهم مرتاحين، حتى لو كانوا هم أنفسهم يختنقون تحت حبكةٍ بارعة الصياغة، رديئة الحياة.
مع تقدّم المشاركات، مالت Zahra إلى الخلف وأسندت يديها إلى ركبتيها، قبل أن تُنهي الجلسة بتأمّل أخير عن «القصص التي نحكيها لننجو، ثم تستيقظ ذات صباح لتجدها أقفاصًا تُضَيِّق مع كل تكرار». دار بصرها حول الحلقة ببرودٍ مهنيّ، لكنّه توقّف، لنبضةٍ واحدة لا أكثر، عند النقطة بين حيث يجلس Rafah وSamirah؛ لم يذكرهما أحد بالاسم، ومع ذلك شعر هو بحرارةٍ تسري من عنقه إلى أذنيه، كأنّ مصباحًا خفيًا صُوِّب نحوه وحده، بينما شدّت هي أصابعها على دفترها حتى انحنى طرفه الورقيّ. خرجا من الغرفة بخطوات متّزنة ظاهريًا، وكلٌّ منهما يحمل الإحساس المزعج نفسه: أنّ اتفاقهما الخاص لم يعد سرًّا تامًّا، بل دراسة حالةٍ صامتة، شقوقها مرئيّة لكل مَن يملك شجاعة التحديق قليلًا أطول من اللزوم.
في الصباح التالي، ومع بقاء ساعات قليلة على وصول المتبرّعين، بدا Qasr Al‑Wafā أصغر مما هو عليه في المخططات المعماريّة، كأنّ الجدران اقتربت خطوة خفيّة من بعضها خلال الليل. الهواء في رواق الإفطار المظلَّل صار أثخن قليلًا؛ مزيج من رائحة الهيل والقهوة ونبرة ترقّب لا يخطئها من اعتاد قراءة ما بين السطور. جلس Rafah وSamirah متقابلين عند طرف المائدة الطويلة، وبينهما إبريق شاي نحاسي يلمع تحت ضوء الصباح، وكلاهما يتظاهر بالانشغال بقائمة البرنامج المطبوع أمامه.
مال أحد أعضاء المجلس، رجل خمسينيّ ببطن مستدير وربطة عنق بلون الرمل المائل إلى الذهبي، وهو يحرّك ملعقته في الفنجان بلا حاجة حقيقيّة، وقال بنبرة مصطنعة العفويّة: «ذكّروني يا جماعة… أنتو تعرّفتوا على بعض في الدوحة، صح؟ ولا في ورشة دبي السنة اللي طافت؟»
رفّ جفن Samirah، فمرت في ذهنها بسرعة السيناريو الذي صاغته مع Mahmoud ليلًا، وهي تراجع التواريخ كمن يراجع ميزانيّة: «الدوحة، في مؤتمر الترجمة»، قالت بثقةٍ محسوبة، وهي تبتسم ابتسامة صغيرة تحفظ المسافة.
في اللحظة نفسها تقريبًا، قال Rafah، بصوته الهادئ المعتاد: «دبي، ورشة المخطوطات.» لم يرفع رأسه فورًا، كأنّه ما زال يقرأ من نصّ مكتوب في ذهنه وحده.
التقت نظراتهما بعد فوات نبضة، متأخّرة بما يكفي ليشعر الثلاثة بثقل التوقيت. سبقت Samirah الانقباض الداخلي بضحكة خفيفة، متقنة الملمس، هزّت يدها كمن يهوّن الفارق: «كثرت علينا المؤتمرات، يمكن خربطنا في التسلسل.» أضاف Rafah، يعدّل نظّارته بإصبعٍ ثابت أكثر مما يجب: «كثرة المؤتمرات وقلّة النوم، وصفة ممتازة لفقدان الذاكرة القصيرة المدى، يبدو.»
ضحك الرجل، راضيًا بتفسيرٍ يُبقي الحكاية ضمن إطار الطرافة، وقال وهو يغمز: «المهم إنكم التقيتوا، الباقي تفاصيل.» ثم انتقل بسهولة إلى الحديث عن حرارة الطريق وضرورة تركيب مظلّات إضافيّة في ساحة السيارات.
ظاهريًا، مرّ الموقف كما تمرّ عشرات العثرات الصغيرة في حوارات الصباح. لكنّ Samirah شعرت بشيء رفيع ينفصم، كخيط غير مرئيّ شدّته أكثر من اللازم؛ ظلّت تبتسم، إلا أنّ عضلة في فكّها الأيسر تشنّجت للحظة قبل أن تستعيد انضباطها. في داخله، دوّن Rafah، من دون قلم هذه المرّة، ملاحظة صامتة: أوّل تعارض موثَّق في روايةٍ كان يُفترض أن تُروى بلا شهود. وبين رشفة شاي وأخرى، بدأ جدارٌ دقيق، لا يُرى بعد من الخارج، يتصدّع في مكانٍ لا يعرفان كيف يبلّغان عنه قسم الصيانة.
ظلّ برنامج اليوم يتقدّم كما لو أنّ شيئًا لم يحدث، جولات مكتوبة سلفًا على جدول أنيق، لكنّ العثرة الصباحية بقيت كحرفٍ ناقص يلمع في سطرٍ لا يراه سواهما. بين فقرة وأخرى، كان الصمت بين Rafah وSamirah يحضر أثقل من أيّ نقاش.
في منتصف العصر، نُقلت حلقة العافية التي تقودها Zahra إلى برودة قاعة الصلاة القديمة؛ السجاد الباهت، niches المحراب، والضوء المصقول الذي ينسكب من النوافذ العالية جعلوا الجوّ أقرب إلى اعتراف جماعيّ منه إلى «نشاط جانبي». جلس المقيمون والموظّفون متحلّقين على مخدّاتٍ واطئة، أرجلهم متشابكة، أكواب الماء موضوعة بين الأيدي المتعبة.
استمعت Zahra بهدوء إلى قصص عن الإرهاق، عن فرق العمل التي «تحترق كي يسطع المشروع»، ثم شبكت يديها في حِجرها وقدّمت، بابتسامة خفيفة، «حالة افتراضيّة»: «تخيّلوا شخصين يعملان جنبًا إلى جنب. الكل يشوفهم ثنائي مثالي، يسلّمون نتائج ممتازة، يُذكرون دائمًا معًا في التقارير والخطب. من برّا، فريق واحد. من جُوا… حياتهم ما تلتقي أبدًا.»
تكلّمت عن كيف أنّ مثل هذه الترتيبات قد تحمي من القيل والقال، ومن ضغوط الزواج أو الغيرة المهنيّة، لكنها في الوقت نفسه تخنق، تحوّل الشريكين إلى ممثّلين يردّدان نصًّا محفوظًا. وبين جملة وأخرى، انسلت نظرتها بلا عجلة إلى حيث يجلس Rafah وSamirah متقابلين على طرف الحلقة، بينهما مسافة محسوبة بدقّة: لا تلامس، لا تعليقات جانبيّة، فقط انتباه مصقول أكثر مما يلزم.
شعر Rafah بعضلةٍ قديمة في فكّه تشدّ نفسها تلقائيًّا؛ حرّك إصبع قدمه داخل الحذاء، ثم انزلق إلى هزّةٍ واحدة خفيفة على حافّة السجّادة، توقّفت سريعًا حين أدركها. دوّى في رأسه بيت قديم عن العشّاق الذين «يُخفون الجمر تحت الرماد»؛ صحّحه فورًا في ذهنه: لا جمر هنا، مجرّد رماد مرتب في أطباق أكاديميّة.
إلى الجهة المقابلة، أبقت Samirah كفّيها مسطّحتين على دفترها المغلق، أصابعها مضغوطة إلى الحدّ الذي بهتت معه عقد السلامية، كأنّها تمسك الغلاف لئلّا تنفلت منه اعترافات غير مجدوَلة في برنامج اليوم. هزّت رأسها بحركة صغيرة عندما علّقت إحدى المشاركات أنّ «بعض الشراكات المهنيّة تكون أرحم من الزواج»، ابتسامة مهنيّة تمامًا، لكنّ أذنها ظلّت تترقّب أي كلمة زيادة يمكن أن تقرّب «الافتراض» خطوة واحدة أخرى من اسميهما.
حين انفرطت الحلقة، خرج الناس فرادى وأزواجًا، تحمل همساتهم إلى ممرّ الإدارة المبرّد، حيث يختلط عبير العود برطوبة الحجر. توقّفت Zahra قرب العتبة، تجيب زميلةً سألتها عن ضغوط العلاقات الحديثة. قالت بنبرة خافضة متأنّية، كأنّها تواصل ورشتها: «نحن نستهين بعدد الشراكات التمثيليّة. ناس كثير يعيشون حكاية مو إلهم، عشان يرضون أهل، أو متبرّعين، أو مؤسّسات. من برّا القصة مقنعة، من جُوا… فارغة، صوت من غير صدى.»
لم تنتبه، أو تظاهرت بعدم الانتباه، إلى كيف يحمل الممرّ الضيّق الصوت كما تحمل الريح حبات الرمل. عند الزاوية، توقّف ابن خالٍ صغير لـSamirah، يحمل صينيّة فناجين قهوة فارغة، فالتقط أذنه عبارتها المفصليّة: «علاقات أدائية»، مع تلميحها إلى «المسرح» أمام الرعاة والداعمين. لم ينتظر الشرح؛ استدار على عقبيه، وقبل أن تبرُد الفناجين في طريقه إلى خيمة العائلة، كانت الكلمات قد انفصلت عن سياقها، جاهزة لأن تُعاد صياغتها على مقاس كلِّ خوفٍ قديم وكلِّ ظنٍّ مُعلَّق.
انتقلت الهمسة من فمٍ إلى آخر بسهولة نفَسٍ يقطع الكثبان. في عنقود خيام العائلة عند حافة المهاجع، أعاد ابن الخال ما التقطه من الممرّ، مضيفًا من عنده أنّ الأخصائية «واضح تقصد Samirah وخطيبها الأكاديمي الغامض». رفعت خالةٌ حاجبًا مثقلًا بالريبة من استقلال Samirah المهني: «مو أوّل بنت حديثة ترتّب المسرح على كيف طموحها.» مع كل إعادة، تكثّفت الزخرفة؛ صار الكلام عن «مسرحيّة قدّام المتبرّعين» و«مين يدري وش الصدق» يتسرّب مع صواني القهوة إلى المطبخ، ومنه إلى غرف التنظيف. بحلول العصر، صار إعجاب الموظّفين بـ«الثنائي الملهم» مخلوطًا بخيطٍ رفيع من شكّ لا يخطئه من تعلّم الإصغاء لنبرة الضحك المتردّد.
مع انحدار الشمس إلى حافة الكثبان، سال ضوءٌ عسليّ على البلاط الحجريّ في الفناء. وقفت Samirah لحظة وحدها قرب النافورة، رذاذها لا يغطي طنين الدم في أذنيها. اقتربت موظّفة الاستقبال، تتفحّص دفتر الملاحظات بين يديها، وسألت عن مخطّط الجلوس ثم توقّفت، كأنّها تتعثّر بشيء غير مرئي، قبل أن تضيف بنبرة متعمّدة الخفّة: «بس في شغلة صغيرة… بعض قرايبك شوي ضايعين بتفاصيل الخطبة، متى صارت، وين تعرّفتوا بالضبط… تحبّين نوضّح أي سوء فهم قبل ما يوصلون المتبرّعين؟» في تلك المسافة الرفيعة بين السؤال والجواب، تجمّد الهواء حول Samirah؛ رأت قصّتها كما يراها الآخرون: ليست درعًا بل خنجرًا يلمع في يد الشكّ، موجّهًا إلى عنق مصداقيّتها. شدّت وشاحها عند العنق، وأجابت بهدوء إداري لا يرتجف، توزّع المقاعد، ترتّب مسار الضيوف، تضبط مواعيد تقديم القهوة، كأنّ كلّ شيء ما يزال تحت السيطرة. لكنّها، وهي تملي التعليمات، كانت تعرف أنّ الخيوط لم تَعُد في يدها وحدها؛ السرديّة التي حبكتها هربت إلى ألسنةٍ أخرى، تُعاد حياكتها الآن في خيام العائلة، وخلف أبوابِ غرف الخدمة، على مقاس مخاوف لا تستطيع إدارتها بجداول ولا بخطط جلوس.
لفحةُ هواءٍ حارّة التفّت حول سطح القصر كوشاحٍ غير مرحَّبٍ به، جعلت الفوانيس تتمايل، وظلال الضيوف تتموّج فوق البلاط الناعم. رفع عضو مجلس الإدارة كأسه، والعرق يتجمّع على عنقه السميك، والمعدن يلمع تحت سلك الأضواء المتدلّي. التقط Mahmoud الحركة متأخّرًا بنصف خطوة؛ كان قد انشغل بتوجيه نادلٍ إلى طاولةٍ متردّدة بين الماء والعصير حين سمع الكلمة تنفصل من فم الرجل وتعلو، خفيفةَ النبرة ثقيلةَ الوقع: «بطاقات العرس». تردّد التعبير في الهواء الدافئ كما لو كان تحدّيًا، أو نكتةً جُرِّبت سابقًا ونجحت فلم يعد صاحبها يرى لها بديلًا.
حولهم، انطلقت ضحكاتٌ قصيرة، بعضها حقيقي وبعضها أقرب إلى السعال المربك. صفق أحد المستثمرين راحتيه برفق، كأنه يؤكّد أنّ المزاح مأمون، بينما مالت خالةٌ لـSamirah بجذعها إلى الأمام، تلمع عيناها بفرح الاعتراف العلني: ها هي القصة تُعلن من لسان رجل نفوذه يعادل، في ميزان العائلة، خطبةً رسمية. في الصف الخلفي قرب السور المنخفض، توقّف موظّفٌ شاب كان يجرّ طاولة الضيافة، وبقي واقفًا، يده على العجلة، متسمّرًا على جملة «عرس قريب» التي ستُنقل غدًا في غرفة الغسيل كخبرٍ يكاد يكون مؤكدًا.
لمعت سلاسل الأضواء فوق رؤوسهم، منسوجةً كخيوط حكايةٍ تُروى بإتقان. الموسيقى الخافتة لأوتار العود انسكبت في الفراغ بين النجوم والوجوه، وتحرّكت صواني القهوة بالهيل في أيدي عمّال الاستقبال في مسارٍ مدروس بدقّة. في تلك اللحظة القصيرة، قبل أن يكتمل السؤال إلى علامةِ استفهامٍ مدوِّية، بدا لـSamirah أنّ كل شيءٍ متّسق: السطح المرتّب بعناية، همسات الإعجاب بـ«الثنائي الملهم»، نظرات الرضا في عيني بعض أعضاء المجلس. للحظةٍ واحدة فقط، اصطفّ الديكور مع الحلم الذي حبكته، حتى كاد يخيَّل إليها أنّها ليست ممثلةً على خشبة، بل بطلةً في قصةٍ يتواطأ العالم على تصديقها. ثم تحرّكت الشفاه حولها، وارتفعت الكؤوس في ترقّب الجواب المشترك، وانقلب الاتساق إلى امتحان.
الفراغ الذي أعقب الدعابة لم يكن صمتًا بقدر ما كان خيطًا مشدودًا فوق هاوية؛ رفيعًا، لكن يلمع بحدّة شفرة. تهادى نظر Samirah كحجرٍ صغير يتدحرج على منحدر: من شفتَي أمّها نصف المفتوحتين في دهشةٍ متفائلة، إلى لمعة التحذير السريعة في عينَي Mahmoud، ثم إلى Zahra، الجالسة على مسافة محسوبة، أصابعها ملتفّة حول كأسٍ لم تذق منه رشفة، وعيناها تراقبان المشهد بسكونِ مَن تعوّد أن ينتظر الاعتراف وهو يشقّ طريقه إلى السطح. رفّت في حلق Samirah بداية نكتة خفيفة، شيء عن «المواعيد النهائية قبل مواعيد الأعراس»، لكنّ لسانها ثقل في فمها، كأنّ الكلام نفسه يخشى أن يضيف وزنًا إلى كفّةٍ قد ترجّح في الاتجاه الخطأ.
ضغطت الهواء إلى رئتيها ببطء، تشعر بانبساط القفص الصدري كأنّه يتهيّأ لتلقّي ضربة. في تلك اللحظة المعلّقة، لم ترَ فقط وجوه الحاضرين، بل رأت المخطّطات، جداول التمويل، رسائل المجلس، نظرات صديقاتها وهنّ يتهامسن عن «الشريكة الناجحة»، كلّها مكدّسة فوق بعض، تستند بهشاشة على هذا الجواب الواحد. بدت لها الحكاية التي حبكتها طوال أسابيع كمبنى من زجاج مصقول، يلمع بأضواء السطح، لكنّه يقف الآن على حافّة شقٍّ شعيريّ خفي؛ تكفي كلمة غير محسوبة، ضحكة في غير مكانها، لينتشر الشرخ من طرفه إلى طرفه في طرفة عين.
لم يكن السؤال المطروح مجرّد مزاحٍ اجتماعي؛ كان أقرب إلى ختمٍ يوشك أن يُطبَع رسميًّا على ورقةٍ كتبتها بنفسها، ثم تكتشف فجأةً أنّ الآخرين هم من سيحدّدون مضمونها الأخير. أحسّت بالأرض الحجرية تحت كعب حذائها كأنّها تميد قليلًا، وبكتفَيها يثقلان بالحضور غير المرئي لكل من ينتظر منها أن تؤكّد القصّة أو تنفيها. وفي تلك اللحظة الضيقة بين الشهيق والجواب، أدركت أنّ ما بُني باسم «شراكة إبداعية» لم يعد مجرّد فكرة إداريّة؛ صار حياةً محتملة، ومستقبلاً افتراضيًا، يطالبها الآن أن توقّع باسمه أمام جمهورٍ لا يسمح بالتراجُع بلا ثمن.
كان Rafah إلى جانبها، كتفاه مشدودتان كوتر عودٍ مُهمَل، تحمل فقراتُ ظهره ترسّباتِ اليوم: ملاحظات المجلس، تلميحات الأقارب، ووقع جملة Zahra في جلسة “العافية” بعد العصر، وهي تميل نحوه بابتسامةٍ هادئة وتقول، كمن يصف حالةً سريريّة لا شخصًا بعينه: «أخطر أنواع الخيانة لما نخون قصّتنا… لما نسمّي الخوف مهنية، والكذب تنظيم.» الآن، ترتدّ كلماتها على مزحة عضو المجلس كصفعةٍ مؤجّلة، تتحوّل الدعابة إلى اتهام مبطَّن: أنت الكذبة التي تبتسم على السطح. يلمح رفّة الأمل في ملامح أمّ Samirah، وارتياح المجلس إلى “العلامة التجارية الناجحة” لـ«الحبّ والأدب»، فيتصلّب شيءٌ قديم في صدره؛ الغضب الذي يتنكّر في هيئة مبدأ. قبل أن تلتقط Samirah خيط الردّ، يعتدل في وقفته، يضغط على الفك، ويسمح لفزعه القديم من التعلّق أن يشهر السلاح الوحيد الذي يثق به: وضوحٌ بارد كحدّ السكين، لا يترك مساحةً للالتباس ولا للرحمة.
سقط جوابه في الفضاء كضربة مبضعٍ محسوبة تُخطئ الورم وتصيب القلب. «مهني بحت»، قالها مقطّعة الأحرف، ثم أضاف، بنبرة محاضِر أمام لجنة ترقية، أنّه «لا يهتمّ بتورّطاتٍ عاطفية» وأنّه يفضّل أن يبقى عمله «نقيًّا من هذه الملهيات». علِقت العبارة معلّقةً في الهواء الدافئ، حادّةً وغريبة وسط حرارة السطح ونعومة ضحكاته السابقة. اجتاح همسٌ متقطّع الحلقة؛ مستثمرٌ شهق فاختنق بشرابِه، وخالةٌ تجمّد اتّساع ابتسامتها قبل أن تتشقّق إلى تقطيبةِ ارتباك. في الخلف، أسرعت موظّفةٌ شابّة إلى تكديس الكؤوس الفارغة وإعادة ترتيب مناديل لا تحتاج ترتيبًا، كما لو أنّ حركة اليد تستطيع امتصاص الإحراج الكثيف الذي غلّف الشرفة كطبقةِ غبارٍ لا مرئي.
تهشّمت أُلفة السطح إلى ثرثرة حادّة متداخلة، كأنّ الجميع يتسابقون لسدّ الفراغ المدوّي. ضحك أحدهم بصوتٍ أعلى من اللازم وهو ينعطف بالحديث نحو الطقس، وتمتم عضوٌ آخر في المجلس عن «أولويات العصر» وهو يشيح بنظره. حاول Mahmoud أن يقذف مزحة إنقاذ، فماتت نصفها على شفتَيه حين لمح وجه Samirah: ملامح مرتَّبة بعناية، لكن الدم انسحب منها حتى صارت تشبه تمثالًا من ملح. ضيّقت Zahra عينيها، لا إدانةً بل تثبيتًا لشكّ قديم، فيما كان كلّ طرفة عين تصيب Samirah كوخزة: عائلتها تراها مخدوعة، المموّلون يعيدون حساباتهم، والموظّفون يتبادلون نظراتٍ سريعة لا تعرف لأيّ رواية تنتمي. لفحتها سخونة الخجل حتى أُذنيها، فابتلعت ريقها بقسوة، تشدّ على ابتسامةٍ باردة وهي تعيد توجيه دفة الأمسية بحركاتٍ مدروسة، بينما تتجمّد في صدرها يقينيّة صافية بأن القصّة التي نسجتها قد تكسّرت للتوّ على مرأى من كلّ من يعنيهم أمرها.
حين بدأ آخر المموِّلين يُساقون برفقٍ نحو السلّم، بابتساماتٍ مشدودة وجُمَلِ شكرٍ صيغت بعنايةٍ مهنِيّة، أخذ السطح يفرغ على موجاتٍ غير متساوية، تاركًا وراءه كؤوسًا نصف ممتلئة، وأطباقًا تُركت على العجَل، كأدلّةِ جريمةٍ لا يجرؤ أحد على تسميتها. خُفِّض صوت الموسيقى أوّلًا، ثم قُطِع تمامًا، فبرز صرير الكراسي واحتكاك الكؤوس على الطاولات أكثر فجاجةً من أيّ ضحكةٍ قبل قليل. بقيت فقط هبّاتُ الريح الصحراويّة وهي تتسلّل بين الحواجز الزجاجيّة، مع اعتذاراتٍ مقتضبةٍ يُرمى بها في الفراغ: «آسفين على الإحراج»، «أكيد بس سوء تفاهم»، «نتكلّم بكرة على راحة».
تحرّكت Samirah داخل هذا الانسحاب المتدرّج كأنّ أحدهم ضغط زرّ التشغيل على نسخةٍ آليّةٍ منها: تبتسم في اللحظة المناسبة، تميل برأسها، تومئ وهي تضبط نبرة صوتها كمن يُسجّل مقطعًا ترويجيًّا جديدًا للمكان وهو في أسوأ لحظاته. انطلقت من فمها وعودٌ جاهزة: «نرسِل لكم عرض البرنامج المحدَّث»، «أوفّر لكم الأرقام غدًا قبل الظهر»، «أكيد نراجع تفاصيل الشراكة»، بينما جزءٌ آخر من عقلها يعدّ الخسائر: أيُّ وعدٍ يمكنها فعلًا أن تفي به بعد هذا الشرخ العلني، وأيُّ شراكةٍ ستبقى راغبةً في التزيين بقصّةٍ سقط قناعها أمام الجميع.
كلمات Rafah لا تزال تطنّ في أذنها، مقطّعةً كما نطقها: «مهني بحت»، «لا يهتمّ»، تتكرّر مع كلّ طَرقَةِ كأسٍ على صينيّة، وكلّ سحبِ كرسيٍّ إلى الوراء، حتى امتزجت في رأسها بضجيج الأشياء، وصارت لا تفرّق إن كان الصوت الذي تسمعه ارتطامَ زجاجٍ أم سقوطَ احترام. كلّما تقدّم منها قريبٌ بوجهٍ مرتبك أو عضوةٌ في المجلس بعينَين حَذِرَتَين، استقامت كتفاها تلقائيًّا، واستحضرت النسخة المحترفة منها جوابًا يطفئ الأسئلة دون أن يُطفئ الحريق.
«الحمد لله، بس سوء فهم بسيط»، تقولها لخالةٍ تفتّش في عينيها عن دمعة. «الأهم إنّ المشروع ما يتأثّر»، تكرّرها لمستثمرٍ يلوّح بكأسه الفارغ كأنّها ميزان. وبين كلّ جملةٍ وأخرى، تقفز ذاكرتها إلى اللحظة ذاتها: نظراتُ أمّها حين سمعت كلمة «مهني»، خبنةُ الشماغ المقتضبة عند أحد الأعمام، ابتسامةُ Zahra التي لم تعد شمسًا تمامًا بل غيمةً تفكّر إن كانت ستمطر.
أحسّت بجسدها يتحرّك في مساراتٍ حفظَتها: تُشير للنادل أن يُسرِع، تلتقط منشورًا سقط على الأرض، تلتفت لتطمئن على موظّفةٍ شابّة اتّسعت عيناها أكثر ممّا ينبغي. لكن داخل هذا الجسد المشغول، كان هناك فراغٌ يتّسع، نقطةٌ باردة في صدرها تبتلع باقي الأصوات، لا يبقى فيها إلا عبارته المجرّدة من أيّ تلطيف، تعبر ذهنها ذهابًا وإيابًا كخنجرٍ يُختبَر حدّه على صخرة.
حين ابتلع الدرج آخرَ ضيفٍ متردّد، سمحت لنفسها بزفرةٍ واحدة فقط، موزونة كأنّها تهيّئ قفزةً في هواءٍ رقيق، ثم استدارت لا إلى السلّم بل إلى الممرّ الجانبيّ الذي يلتفّ حول الجدار الخارجيّ للزوايا القديمة. خَفَتَ وهج الفوانيس خلفها تدريجيًّا، حتى صار الضوء مجرّد هالةٍ برتقاليّة فوق الحافة، فيما امتدّت ظلال النخل على الحجر كأصابع متكسّرة تحاول الإمساك بثباتٍ ما زال يفلت. الهواء هنا أبرد قليلًا؛ رائحة ماءٍ راكدٍ في الحوض، وندى خفيف على التراب المضغوط من كثرة الأقدام.
مرّت بمحاذاة قوسٍ حجريّ تحفّت حوافه بنقوشٍ ممسوحة من كثرة العيون التي قرأتها ثم نسيتها، وتمنّت على استحياءٍ أن تنسى الليلة بالسرعة نفسها. في باحة الفناء، تحت سماءٍ مثقوبة بنجومٍ لا تبدي أيّ اهتمامٍ بمسرحيّات البشر، رأته قبل أن يسمع اقترابها: جالسًا على مقعدٍ حجريّ قرب النافورة، كتفاه منحنِيَتان قليلًا، دفتره مفتوحٌ على ركبته، والقلم معلّقٌ فوق الصفحة كطائرةٍ أُلغِي إقلاعها ولا تعرف إن كانت ستعود إلى البوّابة أم إلى الحظيرة.
لم يكن يكتب؛ كان يحدّق في الورق المثقّل بخطوطٍ سابقة، كأنّ الحبر القديم قد يعرض عليه نسخةً من الأمسية أقلّ قسوةً من تلك التي عاشها للتوّ. بدا وجهه شاحبًا في ضوء الفناء، عينيه غائرتين، وعضلة الفكّ مشدودة على جملةٍ لم تخرج بعد، فيما كان صوت الماء المتقطّر في الحوض يذكّره، بلا رحمة، بأنّ الزمن لا يعيد أيّ كلمةٍ قيلت أمام شهود.
تتقدّم نحوه بلا تلك المداخل الملساء التي اعتادت أن تُهيِّئ بها الحوارات الصعبة، كأنّها أحرقت اليوم آخر ما تبقّى من مجاملات في السطح. يملأ خرير النافورة الثواني الأولى، يُقدِّم له مهلةً جبانةً للتراجع، ثم ينسحب من وعيه حين يقطع صوتها الهواء: منخفض، مضبوط، لكنّ حدّته أشبه بسكّينٍ ملفوفة في قماش. لا ترفع نبرتها، لا تكرّر، بل تُحصي الخسائر بندًا بندًا: المموِّلون الذين غزلوا عروضهم الدعائيّة على أسطورة «شراكتهما الإبداعيّة»، أعضاء المجلس الذين سيسجّلون الليلة تحت خانة «سوء تقدير» في ملفّها، الأعمام والخالات الذين سيعودون إلى بيوتهم وهم يلوّحون بقصّتها كدليلٍ حيّ على ما يحدث لمن تتوهّم أنّ مسارها المهنيّ حصنٌ من خيبات الزواج والرجال. كلّ نقطةٍ تهوي كختمٍ أحمر على ورقةٍ رسميّة؛ الشعور مكبوت، لكنّه فاضحٌ في دقّة صياغتها، في رجفةٍ خفيفةٍ عند كلمة «كرامتي»، وفي الصمت القصير الذي تتركه عمدًا بين جملةٍ وأخرى، كأنّها تمنحه فرصةً أخيرة ليعي ليس فقط ما فعله بالقصّة، بل بما تبقّى لها من وجهٍ تُقابِل به هذا العالم.
يستمع Rafah وفكّه معقود، أصابعه تعضّ على حافة الدفتر حتّى يئنّ الجلد تحت قبضته الخشنة. تتصاعد في رأسه كلمات Zahra من جلستها بعد العصر – عن التهرّب، عن الاحتماء بالعمل كجدارٍ مزخرف – فتُحوِّل الخزي الخانق إلى حدّةٍ دفاعيّةٍ رخيصة. حين يتكلّم أخيرًا، تأتي نبرته مقطوعةً، هشّةً كزجاجٍ رقيق: يذكّرها أنّ «الرواية» كانت فكرتها من الأصل، وأنّها هي من احتاجت شريكًا معقولًا لتسكِت به لسانَ قريبٍ فضوليّ، وتُرضي مجلسًا لا يفهم إلا بالإشارات العاطفيّة والصور المصنوعة. «ماذا كنتُ في هذه القصّة غير اسمٍ محترم تُعلِّقينه فوق ترتيبٍ لم تنوي يومًا أن تجعليه حقيقيًّا؟» يسأل، كأنّ صيغة السؤال تعفيه من مسؤوليّة الجواب. الاتّهام ظالم، يسطِّح تعقيد ما بينهما إلى صفقةٍ باردة، لكنّه يتشبّث به كما يتشبّث بالغرقى بلوحٍ عائم، يخلط بين غريزة النجاة وبين بصيرةٍ يدّعيها ولا يملكها.
المسافة بينهما تتّسع مع كلّ جملة، كأنّ الفناء نفسه يُسحَب من تحت أقدامهما، وكأنّ كلّ حجرٍ يحتفظ ببصمةِ اعترافٍ سابقٍ تواطأ على نسيانه. حين تتكلّم Samirah مرّةً أخرى، تأتي الكلمات أبطأ، أخفَض، كلّ مقطعٍ موزون كحكمٍ نهائيّ: لم يكسر الوهم فحسب، بل ثبّت في عيون الجميع أنّها كانت ساذجةً حين راهنت على فكرة الشراكة أصلًا. يبهت البريق الفولاذيّ في نظرتها إلى شيءٍ أقرب إلى إرهاقٍ عميق وهي تُسَدِّد الضربة الأخيرة: أنّها تندم على دعوته إلى هنا، وأنّ ما تظاهرا به – في الأوراق، أمام المموِّلين، وفي تلك اللحظات الصغيرة شبه الحانية – قد انتهى. تستدير وتمشي دون أن تنتظر ردًّا، تتركه على المقعد جوار النافورة، دفتَره ما يزال مفتوحًا، يسمع في صمت الزاوية الكثيف انهيار ملجئه الوحيد، وانطفاء ذلك الخيط الهشّ، غير المُسمّى، الذي قطعَه بيده.
في الساعات الأولى، لا يُعلَن شيءٌ بصوتٍ عالٍ، لكنّ الإيقاع اليوميّ للقرية الصحراويّة الصغيرة يعيد ترتيب نفسه حول الفراغ بينهما. لا أحد يُصدِر قرارًا، ومع ذلك تتغيّر المسارات.
الفناء الذي كان نقطةَ تلاقٍ شبه ثابتة، حيث يختلفان على مقدار السكّر في القهوة ويتقاسمان صمتَ الصباح، يتحوّل إلى مجرّد ممرّ يُستعمَل في أوقاتٍ متضادّة. يُصبح حضوره عند النافورة مبكِّرًا على غير عادته، يختار مقعدًا في الظلّ يطلّ أكثر على الكتب من الناس؛ تصل Samirah – إن وصلت – بعده بربع ساعةٍ مدروسة، أو قبله، لا فرق، المهمّ ألّا يتقاطع الزمنان. حتّى خادم القهوة يتعلّم بسرعة: حين يرى أحدهما، يتأكّد بعينه الخبيرة أنّ الآخر في مكانٍ آخر قبل أن يَعرِض «فنجانًا إضافيًّا» كان قبل أيّامٍ قليلةٍ بادرةً مفهومة.
صوت Samirah نفسه، الذي كان يحمل دائمًا تلك النبرة الخفيفة من السخرية حين تخاطبه في الاجتماعات، ينخفض الآن إلى مُستوى تعليماتٍ إداريّةٍ جافّة. تلقي اسمه في جملةٍ وسط أسماءٍ أخرى، بلا توقّفٍ ولا فاصلةٍ إضافيّة، كما لو أنّه بندٌ على جدول الأعمال لا أكثر. حين تضطرّ إلى توجيه سؤالٍ له في حلقة نقاش، ترفع عينيها نحوه بمقدار ما يسمح به الأدب، ثم تُنزِلهما فورًا إلى الورق أو إلى شاشة الحاسوب.
الطاقم، الذين تعوّدوا قراءة الوجوه كما يقرأون اتجاه الريح قبل العاصفة، يلتقطون الإشارة بسرعة. تختفي التعليقات العفويّة من نوع: «سنضعكم معًا في الجولة، أنتما الحزمتان الإبداعيّتان»، تُستبدَل بعباراتٍ مُسالِمة عن «توزيع الموارد» و«تنوّع الخبرات». موظّفة الاستقبال، التي علّقت قبل أسابيعٍ مسودّة منشورٍ دعائيّ على لوحة الفلّين، تمرّ ليلًا في الممرّ وتُنزِل الورقة بهدوء، تطويها أربعًا قبل أن تُخفيها في درجٍ سفليّ؛ الصورة التي جمعتهما وهما يبتسمان للكاميرا تُصبح فجأةً مُحرِجةً حتّى على الحائط.
Mahmoud نفسه، الذي كان يقتحم مكتب Rafah بلا استئذانٍ تقريبًا، يحمل معه قصيدةً بدويّةً جديدةً أو خبراً سخيفًا عن أحد الضيوف، يُغيّر طريقته. طرقات خفيفة على الباب، «معذرة دكتور»، ثم جملٌ قصيرة، مصاغة بعنايةٍ مُحايدة: مواعيد الرحلات، حالة الطريق، جدول السيّارات. يحاول أن يُبقي في صوته ذلك الخيط من الدفء، لكنّ الحذر يتسرّب بين المقاطع؛ فهو يرى تمامًا كيف تتصل هذه الأزمةُ مباشرةً بسمعة أخته ومستقبلها مع المموِّلين.
تتراكم هذه التعديلات الصغيرة، واحدًا بعد الآخر، حتّى يُدرِك Rafah أنّ ما كان يومًا «تمثيلاً» مُتَّفَقًا عليه، صار الآن غيابًا حقيقيًّا يُعادُ ترتيبُ المكان حوله؛ فراغٌ لا يملؤه العمل، ولا تُغطّيه هوامشُ مخطوطٍ ولا دقّةُ اقتباس.
تأتي الارتدادات المهنيّة بصيَغٍ مهذّبة، مصقولة جيّدًا بحيث تُخفي حدّها. رسائل إلكترونيّة من أعضاء المجلس ومنسِّقي المموِّلين، تُرسَل بصيغة الجمع وتُنسَخ إلى Samirah وإلى المدير التنفيذيّ للمؤسّسة، تطلب «تحديثًا لوصف نطاق مشاركة الدكتور Rafah» و«إيضاحًا لما إذا كان إطار الشراكة الإبداعيّة يخضع لإعادة نظر». تُرفَق في نهايتها جُملٌ مطمئنة عن «حرصهم على استمراريّة التميّز» و«تقديرهم العميق لإسهاماته»؛ لكنّ السطر الذي يعلَق في ذهنه دائمًا هو ذاك الذي يتحدّث عن «الحاجة إلى اتّساق الرسائل الخارجة من retreat مع قيم الشفافيّة».
في الاجتماعات الدوريّة، تجلس Samirah مستقيمة الظهر، تشرح بعباراتٍ مقطّرة عن «أدوارٍ مستقلّة لكن متكاملة»، وعن «تحوّلٍ طبيعيّ من نموذج الشراكة إلى نموذج الشبكة الأوسع للخبرات». لغتها قانونيّة، مُحكَمة، لا ثغرات فيها ولا استعارات. لا تلتفت نحوه إلّا بقدرِ ما يقتضيه البروتوكول، نظرةٌ سريعة للتأكّد من أنّه سمع، ثم عودةٌ فوريّة إلى شاشة العرض أو إلى ملفّات الموازنة.
يجلس هو إلى طرف الطاولة، يُراقب كيف يُعادُ خياطةُ الرواية التي ساهم في تمزيقها؛ خيوطٌ تُسحَب وتُستبدَل، فتصبح قصّةُ retreat وبرنامجُها المحوريّ مكتفيَين بذاتيهما، لا يحتاجان سوى إلى «مستشارٍ زائر» يمكن استبداله متى شاءت الجهة المانِحة. يستشعر لأول مرّةٍ أنّ الضرر ليس عاطفيًّا فحسب، بل بنيويّ: أنّ انفعاله لم يجرح Samirah وحدها، بل جعل حُسن تدبيرها يبدو، في عيون من يملكون سلطة التوقيع، مجرّد ارتجالٍ عاطفيّ، بل وربّما مناورةٍ انتهازيّة لتزيين ملفّ التمويل. وفي تلك اللحظات، وهو يسمع اسمه يُذكَر كنقطةٍ في بندٍ فرعيّ، يُدرِك إلى أيّ حدّ صار قابلاً للحذف.
يشتدّ الانفصال ليلًا، حين تُغلَق الأبواب ويذوب ضجيج النهار في صمتٍ كثيف. في غرفته العارية، يبدو ضوء المصباح الدائريّ أكثر شبهًا بمصباح استجواب منه بأداة قراءة؛ يسلّط وهجه على الأوراق الفارغة كأنّه يقول له: «ها قد سقطتَ خارجَ النصّ الذي كتبتَه لنفسك». الصفحات التي كانت تفيض بالهوامش المُحكَمة، والإحالات المصاغة بعناية، تبقى عنيدةً بيضاء، أو تمتلئ بجملٍ يخطّها بسرعة ثم يشطبها بعنفٍ أشدّ، فيترك وراءه غابةً من السطور المذبوحة.
مسوّداتُ فصولٍ كاملة عن «نبْل الزهد» و«طهارة التجرّد من التعلُّق» تبدو الآن، تحت هذا الضوء القاسي، كأنّها مرافعاتُ دفاعٍ عن متَّهَمٍ يعرف في سرّه أنّه مذنب. يلتقطُ عباراتٍ كان قد صاغها بفخرٍ قبل أسابيع: «الحبّ مشروعُ خطرٍ على كرامة الباحث»، فيقرؤها اليوم فيسمع تحتها همسًا آخر: «الخوف مشروعُ حارسٍ على أبواب قلبٍ مُغلق».
سكونُ الصحراء، الذي كان حليفًا صبورًا لتركيزه، ينقلب فجأةً إلى غرفة صدى لا ترحَم؛ كلّ نفَسِ ريحٍ على الجدار الطينيّ يُعيد عرضَ مشهد السطح: وجه Samirah، شدّةُ الخطّ حول فمها وهي تلتقط كلماته كمن يلتقط صفعةً أمام جمهور. اللحظة التي ارتجفت فيها نظرتها للحظةٍ قبل أن تستقيم وتتحوّل إلى قناعٍ مُحترِف، تكرّر نفسَها بعنادٍ في رأسه كلّما أطفأ المصباح وحاول الاحتماء بالعتمة.
النوم يأتي على هيئة هزائم صغيرة: غفواتٌ مُتقطّعة، يستيقظ منها بقلبٍ يركض كأنّه كان يُطارَد في حلمه. في كلّ مرّة ينهض، يكتشف أنّ عقلَه سبقَ جسده إلى مكتبه؛ بيتٌ من المعلّقات يقفز إلى ذهنه بلا استئذان، شطرُ رثاءٍ قديم عن «من أضاعوا أهلَ ثقتهم» يطرق رأسَه بإلحاحٍ لا يليق بأبياتٍ يُفترَض أنّها «مادةُ بحث». يهمس لنفسه، بنبرةِ مَن يحاول ضبط طالِبٍ في قاعة الامتحان: هذه نصوص، شواهد، أمثلة. لكنّ البيت لا يعود إلى مكانه في الكتاب؛ يستقرّ في صدره، مثل حُكمٍ محفوظٍ عن ظهر قلبٍ على جريمةٍ لم يعُد ممكنًا إنكارها.
حين تظهر جلسة Zahra اللاحقة في جدوله – «فحص رفاهيّة اعتيادي بعد الأحداث عالية الكثافة»، كما تقول الملاحظة – يُفكِّر لثوانٍ جادّة في إلغائها، ثم يصل في الموعد تمامًا، مُنهَكًا أكثر من أن يصوغ عذرًا معقولًا. في غرفة العيادة الصغيرة، برفوف كتبٍ وشتلةٍ خضراء وحصيرٍ نظيف، تُقدِّم له شايًا وصمتًا أكثر ممّا تُقدِّم نصائح. أسئلتها بسيطة، شبه سريريّة: «ماذا كنتَ تأمل أن يحدث على السطح؟» «ما الذي شعرتَ أنّه كان على المحكّ؟» لكنّ كلّ سؤالٍ يقطع فيه موضعًا حسّاسًا. إجاباته الأولى تأتي بعيدة، ملفوفةً في تجريداتٍ عن الحدود المهنيّة والتوقّعات الثقافيّة، وهي تومئ فقط وتنتظر، بلا عجَلة. شيئًا فشيئًا، تنفلت الكلمات من المرشّحات المعتادة: الخطيبة التي ابتعدت حين تحوّطُه صار قسوة، والزملاء الذين انسحبوا حين دفن نفسه في العمل، واقتناعٌ قديم بأنّه إذا لم يتّكئ على أحدٍ مرّةً أخرى، فلن يكون هو يومًا السببَ في سقوطه.
يمشي بلا قبعة ولا ماءٍ تقريبًا، كأنّ جسده يريد عقابًا بسيطًا على جُرمٍ معقّد. يتذكّر عبارة Zahra عن «إعادة كتابة القصّة» ويسخر في سرّه؛ كم من الأعوام أمضاها وهو يُعيد صياغة نفسه كراهبِ نصوصٍ لا كرجلٍ يمكن أن يخذل امرأةً حقيقية؟ فجأةً، تبدو فصولُ كتابه مسوّدات دفاع عن سجينٍ يحاكم الآن أخيرًا أمام ضحيّته، لا أمام لجنةٍ تحكيميّة خفيّة في رأسه. يرفع عينيه إلى الأفق فيجد الصمت لا يمنحه الوعد بالعزاء، بل مهلةً قصيرة قبل أن يعترف بشيءٍ آخر لا يقلّ رعبًا: أنّ الإصلاح، إن كان ممكنًا، لن يُنجَز بمقالٍ أو اعتذارٍ مطروق العبارات، بل باحتماله نظرتها إذا اختار أن يطرق باب مكتبها مرّةً أخرى.
كان الدرب الحجريّ تحت قدميه يتسيّل مثل خطّ حبرٍ أُريق على صفحةٍ ساخنة؛ لا يثبت في عينه سوى أكوام الحجارة الصغيرة التي نصبوها دلالاتٍ للطريق، كأنّها نقاط ترقيمٍ شحيحة في جملةٍ طويلة فقدت نحوَها. الهواء الجافّ يصفع وجهه، فيلدغ الملحُ عينيه، فيشكرُ ـ لوهلةٍ عابرة ـ هذا العذر البيولوجيّ الوحيد للبريق الذي يوشك أن يفضحه.
تتمدد جُملةُ Zahra في رأسه حتى تصير كأنّها عنوانٌ رئيسيّ لكتابٍ لا يريد كتابتَه: «تعبُّدٌ بلا قابليةٍ للجرح هو تحكُّم، لا إخلاص». حولها تدور اعترافاته التي انتزعَتها منه برفقٍ قاسٍ: كيف حوّل «الأمانة العلميّة» إلى حصنٍ منيعٍ ضدّ أيّ مطالبةٍ قلبية، وكيف أعاد تأويل الخوف من الخذلان إلى نزاهةٍ فكريّةٍ لا تقبل شبهة. كلّ تعريفٍ كان قد صاغه بثقةٍ في مقدّمات كتابه يعود الآن في شكل تهمةٍ مكتوبة بخطّ يده.
يُمسك نفسَه من الضحك، ضحكةً حادّة كانت ستنطلق لو سمح لها، وهو يتذكّر كيف تحدّث في محاضرته الأولى هنا عن «التحرّر من أوهام الغزل» وكأنّه يقدّم خدمةً عامّة لسكّان الكوكب. أيُّ وهمٍ هذا، وهو يسير الآن وبين كلّ خطوتين صورةٌ لا ينجح في نفيها ولا في استدعاء بديلٍ عنها: وجه Samirah على السطح، ذلك التوتّر الخفيف حول فمها وهي تحاول أن تُحوّل صدمةَ جملته إلى ابتسامةٍ مناسبة أمام الضيوف. النار الهادئة في عينيها، التي رأى فيها في اللحظة نفسها شيئَين متناقضَين: جرحاً شخصيًّا، وقرارًا واعيًا بأن ترفَع عنه حمايتها.
كان يظنّ أنّ الابتعاد عن Qasr Al‑Wafa الآن نوعٌ من «استعادة المسافة»، من تلك المصطلحات النظريّة التي يُحِبّ دسّها بين الأبيات. لكنّ كلّ مترٍ يبتعده عن أسوار الحجر يجعل وقع حذائه على الرمل أقربَ إلى انسحابٍ قديم يكرّره؛ ذات الحركة التي فعلها يوم ترك الخطيبةَ تواجه تساؤلات أهلها وحدها، ثم أقنع نفسه بأنّ «الانفتال عن المشهد» كان هو الموقف الأكرم. لا شيء في هذا المساء يشبه الكَرَم. يشبه، بدرجةٍ مزعجة من الدقّة، الجبن الذي تعلّم أن يسمّيه «موضوعيّة».
تضيق أنفاسه لا من شدّة الصعود بل من ثِقل قائمةِ الأسماء التي يدرك، متأخّرًا، أنّها تضرّرت من طريقته في النجاة: أمّه، التي أقام لها ضريحًا من الحواشي بدلًا من أن يسمح لصورتها أن تُخطئ وتُسامَح في ذاكرته؛ الزملاء الذين صاروا ألقابًا في سيرته الذاتيّة بعدما أغلق الباب على نفسه في المكتب؛ Samirah التي جعل منها، بيديه، حيلةً علاقاتيّة ثم تبرّأ منها على الملأ كمن يتبرّأ من خطأٍ مطبعيّ في سيرةٍ رسميّة. مع كلّ خطوةٍ جديدة، يتجلّى له أنّه لم يكن يهرب من الحبّ بقدر ما كان يهرب من مسؤوليّة اعترافٍ بسيط: أنّه، هو بالذات، قادر على الأذيّة، مهما لبسَ من أثواب «النزاهة» و«الانضباط».
يتوقّف حين يعلو الهبوبُ حافّةَ الكثيب، فتظهر أنوارُ Qasr Al‑Wafā في البعيد، نقطًا ضئيلة عنيدة تُقاوِم السواد. في ذلك الخيط الهشّ من الضوء، تتراكبُ مشاهدُ أخرى كأنّها إسقاطات على جدارٍ واحد: أمّه منحنيةً على دفاترها، النظّارة تنزلق إلى منتصف أنفها وهي تكرّر، بنبرةٍ لا تقبل مجادلة، أنّ النصوصَ بلا صدقٍ قِبابٌ فارغة مهما حَسُنَ بناؤُها. Samirah في الأرشيف، غارقةٌ في غبار المخطوطات، تلتقط بيتًا يكمّل إنشاده، تردّ عليه بـ«قلبٍ يُقيم على العهد» وهي تبتسم كمن يمتحنه ولا تُريدُ إحراجَه. Mahmoud على السطح، الفكُّ مشدود تحت ضحكةٍ زائدة وهو يقلب الحديثَ إلى صفقاتٍ ومشاريع لئلّا يلمس الاسمَ الذي جرحه.
اتّساعُ الصحراء حوله يُجرِّد مبرّراته كما لو أنّ الريح تجرّد نخلةً من سعَفها؛ لا يبقى منها سوى عِصِيّ يابسة. لأوّل مرّةٍ منذ أعوامٍ طويلة، يسمع دفاعاتِه القديمة كما لو أنّ شخصًا آخر يتلوها على مسامعه، ويكتشف – بدهشةٍ مُرّة – أنّ شيئًا فيها لا يشبه النُّبل الذي ادّعاه، بل يشبه فقط خوفَ رجلٍ بارعٍ في اختيار الألفاظ، عاجزٍ عن قول جملةٍ واحدة بلا توريةٍ حين يتعلّق الأمر بقلبه.
كان النمطُ فاضحًا في بساطته حين تجرّأ على تسميته: في كلّ مرّةٍ تطلُب فيها الحياةُ منه أن يعرّي ضلعًا واحدًا من قلبه، يردّ عليها بجدارٍ إضافي من العمل، يحوّل الأشخاص إلى هوامش صغيرة في حاشية برهانٍ طويل عن حقّه في الاتّقاء. يرى الآن كيف عامل Qasr Al‑Wafā كمختبر معقّم، يسمح فيه للمشاعر بأن تظهر فقط بوصفها «موادّ رصد»، وكيف استراح إلى وضع Zahra في خانة الطبيبة التي تشخّص داء آخرين لا شأن له به. Mahmoud لم يكن، في ممارسته الفعلية، سوى «شريك لوجستي» يُسهِّل البرامج، لا أخًا مُحتملًا لعائلةٍ كان يتظاهر بأنّه لا يريد الانتماء إليها. أمّا Samirah، فكانت أسوأ تَورُّط: درعًا يختبئ خلفها من أسئلة العائلة والمانحين، وعَيّنةً يراقب عليها أثرَ «العلاقة المعلَنة» في الخطاب المؤسّسي، لا إنسانًا شاركها مسؤولية كذبةٍ نُسجت بخيوطٍ من ثقتها به. لم يسمح لنفسه يومًا أن يتلفّظ – حتى في سرّه – بكلمة «شريكة» وهو يفكّر فيها؛ كانت دائمًا «منسّقة»، «مديرة»، «واجهة مناسبة». حين يرتدّ بصرُه إلى صورة أمّه في ذاكرته، منحنيةً على دفاترها وهي تحذّره من تحويل العلم إلى صنم، يخزُه الإدراكُ بأنّ «الإرث» الذي ظلّ يلوّح به في وجه نفسه والآخرين ليس إلا ذريعةً متقنة لتبرير قلبٍ معلّقٍ عن الخدمة، معطَّلٍ عن المخاطرة. الألم الذي ينهض في صدره لا يشبه وخزةَ ضميرٍ عابرة، بل يشبه انتهاكًا متعمّدًا لحرمة اسمها؛ كأنّه، باسم تكريمها، ظلّ يضع باقة كتبٍ مصفوفة على بابِ ضريحٍ مغلق، رافضًا أن يدخل الحياة التي عاشت هي من أجل أن تفتحها له.
من أعلى حافّة الكثيب، وهو يحدّق في ضوء الفوانيس الخافتة في الساحة، يفهم فجأة أنّ مخطوطه، ولقبه الأكاديميّ، ومسافته المحكمة من الحبّ، كلّها بيوت ضيّقة لا تصلح للسكنى. الحياةُ التي ظلّ يحرسها طوال هذه السنوات لم تكن سوى حياةٍ يُعتبر فيها إذلال Samirah أمام أهلها والمانحين، وخيبةُ محمود الصامتة، وقلقُ Zahra المقلوب إلى «تشخيصٍ مهنيّ» أثمانًا جانبيّةً مقبولة ما دام برهانه النظريّ سالمًا من الخدش. يداهمه الاشمئزاز من نفسه كصفعةٍ باردة؛ لا من خطأٍ عابر، بل من منطقٍ كامل عاش داخله مطمئنًّا. في الفراغ الذي يخلّفه هذا الاشمئزاز يندفع، حادًّا ووحيدًا، خيارٌ آخر صارخ في بساطته: أن يكون وفاؤه لأمّه لا في مخطوطٍ لا يُراجَع ولا في لقبٍ لا يُمسّ، بل في أن يرفض ـ أخيرًا ـ هذا الفصل الجبان بين العقل والصدق، بين التحليل والمسؤوليّة الشخصيّة، وأن يقبل بأنّ كلَّ سطرٍ يكتبه عن «الإخلاص» مُطالَبٌ بأن يمرّ أوّلًا في امتحان حياته هو.
الخوف لا يزول؛ إنّما يزداد حدّةً، يتخلّى عن أقنعته النظريّة ويصير أقرب إلى وجعٍ جسديّ في صدره. لكنّ شيئًا أثقل يجاوره الآن: يقينٌ خشن بأنّ أيّ مستقبلٍ يمكن أن يُسْكَن لا يُبنى على مجاملاتٍ مهذّبة ومسافاتٍ مضبوطة بحذر. يُسمّي، في سرّه بلا توريةٍ ولا حاشية، أنّ ما نبت بينه وبين Samirah كان حقيقيًّا، وأنّ إنكاره لم يُهنها فحسب بل خان نصوص الإخلاص التي يتفيّأ ظلّها، وأنّ عمله على «الوفاء» لا يساوي ثمنَ حِبره ما دام يُعفي حياته الخاصّة من أحكامه. حين يعترف بذلك، يشعر بشيءٍ يستدير في داخله؛ خطواته، التي كانت تستطيل في عمق الرمل كمن يطلب منفى إضافيًّا، تنكسر وتعود في اتّجاه الأضواء الخافتة. يحمل معه قرارًا واحدًا يُرعبه لبساطته: أن يتكلّم بوضوح، أن يقبل ما يترتّب على ذلك، وأن يختار – ولو متأخّرًا – العلاقة والصدق على حصنِ سمعته ومخطوطه.
He does not go to his room to wash the sand from his cuffs; the grit itches against his wrists like a necessary penance. Instead he cuts across the courtyard, past the murmuring fountain and the dim silhouettes of date palms, heading straight for the low whitewashed administrative building. The retreat’s lanterns flare at the edges of his vision, too bright, as if the place itself is refusing to let him slip back into scholarly shadow.
Inside, the temperature drops a few degrees. The air smells faintly of printer ink, oud, and the day’s last coffee gone tepid on someone’s desk. Fluorescent tubes hum, an almost accusatory sound after the honest silence of the dunes.
Samirah stands behind her desk, headset on, face a careful, professional mask. Her eyes, however, are drawn taut at the corners, fixed on the open laptop where a board member’s expression flickers in a small window. Mahmoud sits on the low cabinet by the door, thumbs moving fast over his phone, fielding staff messages and, no doubt, the latest rumors. Zahra occupies the end of the communal table, stylus in hand, a patient file glowing on her tablet; the soft light carves tired crescents beneath her otherwise bright eyes.
When Rafah steps in, his breath still uneven from the climb up from the dunes, it is as if a draft has slipped under the door. Samirah’s words to the board member trail off mid-sentence. Mahmoud glances up, then back to his screen, then up again, eyebrows rising. Zahra’s stylus stills; she taps the tablet once, quietly closing the file.
He does not ask if it is a good time, does not offer the usual deferential preamble. His voice, when it comes, is formal but stripped of ornament, Gulf-tinged fusha edged with fatigue.
«لو سمحتم… أحتاج أن نبقى جميعاً للحظات. ما سأقوله لا يخصّني أنا وسَميرة فقط، بل يمسّ مستقبل القصر نفسه.»
Samirah presses her lips together, then turns slightly so the camera will not catch his figure by the door. “أستاذ حاتم، أعطيـ… أعطِني خمس دقائق فقط، من فضلك.” Her tone is smooth, almost too smooth. She mutes the call before the board member can protest and removes the headset with controlled movements, as if any abruptness might crack something irreparable.
Mahmoud pockets his phone, his easy smile absent for once. “شكله في موضوع كبير،” he says lightly, but his gaze is searching.
Zahra folds her hands over the tablet, her posture relaxed, eyes anything but. “حسناً، يا دكتور رَفَح،” she replies, deliberately using the academic title he has been hiding behind, “نحن هنا. ما الحدّ الفاصل الجديد الذي قرّرت أن تعبره الليلة؟”
He swallows, tasting dust, and steps fully into the harsh fluorescent circle, closing the door behind him.
لا يجلس إلى الطاولة؛ كأن الكرسي اعتراف براحة لا يستحقّها بعد. يكتفي بأن يحيط بظهره بأصابعه، يثبّت الارتجافة الخفيفة التي بدأت تتسرّب إلى يده اليمنى. الجدار أمامه مغطّى بجداول مناوبات، مخطّطات برامج، وكتيّبات ملوّنة تعدُ الزوّار بـ«مساحات آمنة للإبداع والتجديد». يتأمّل العبارة الأخيرة للحظة، ثم يتنفّس ببطء.
«أنا… لم أكن صريحاً معكم، ولا مع نفسي،» يبدأ، من دون افتتاحيات بلاغية. «استخدمت خطبتنا المزيّفة كدرع، مثل ما استخدمت ضغط العمل واسم أمّي، طبقات فوق طبقات، حتى لا أضطرّ أن أخاطر بشيء حقيقي.»
لا أحد يقاطعه. حتى همهمة النيون تبدو كأنها تبتعد.
«كل قرار اتخذته هنا، من يوم وصلت، وحتى ما حصل على السطح،» يضيف، وصوته ينخفض لكن لا يتكسّر، «كان يحكمه الخوف أكثر من المبدأ. أقدّم نفسي كمن يختار العقل ضد الوهم، لكن ما فعلته فعلاً هو اختيار تجنّب الألم، مهما كان الثمن على الآخرين.»
عينَا زهرة تضيقان، ليس استنكاراً بل اعترافاً بملامح نمط تعرفه مهنياً أكثر مما ترغب.
«حتى بحثي عن الوفاء،» يتابع، «حوّلته إلى مختبر أعزل فيه المشاعر تحت المجهر. أسمّيها، أصنّفها، أقتبس منها… لكنني أرفض أن أسمح لها أن تمسّ حياتي. هذا الانقسام بين ما أدرسه وما أعيشه تسرّب إلى قصة القصر نفسه، إلى الرواية التي نقدّمها للناس عن الشراكة، عن الحب، عن الصدق. لم يعد مجرّد موضوع أكاديمي؛ صار كذباً عملياً نُطالِب غيرنا أن يمَوّله.»
ثم يلتفت إليها التفاتاً كاملاً، كأنّ الغرفة انكمشت حتى لم يبقَ فيها سواهما والشهود. لا يعرض خطة جاهزة، ولا جدول نقاط، بل يترك فراغاً متعمّداً بينهما ويسأل، بصوت هادئ خالٍ من الافتراضات: «ما الذي سيساعدك أنتِ الآن… مهنياً، وشخصياً؟ لا ما يريح ضميري أنا.»
تتبدّل زاوية كتفيها قليلاً؛ تتكئ إلى الكرسي، تَعقِد ذراعيها، لكن عينيها لا تهربان. نبرتها مشدودة، محسوبة، بلا محاولة لتليين الحقيقة. تَعُدّ ما تحتاجه، بلا استعطاف: رواية واحدة واضحة يستطيع المتبرّعون الوثوق بها من دون قراءة ما بين سطور الشائعات؛ زميل لا يحوّل حياتها إلى «حالة دراسية» في محاضرته القادمة؛ شريكاً في الإدارة يدرك أنّ مصداقيتها بين العائلة والقبيلة واللجنة أرقّ بكثير من وجاهته الأكاديمية الزائرة.
كل جملة تحمل حكماً ضمنياً، ولا تتبرّع بضمادة على جرحه. «تردّدك على السطح،» تضيف، وعيناها تظلّان معلّقتين على وجهه، «لم يظهرك حذِراً فقط. عند من يراقب من بعيد، بدا كأنني أنا من لا يمكن الاعتماد عليه. أنت اخترت أن تحمي سمعتك بالصمت؛ أنا دفعت ثمن ذلك في همسات الممرات ورسائل الواتساب.»
لا تعتذر عن الحِدّة. لا تقول «أفهم أنك كنت متعباً» أو «ربما كانوا قاسين». تترك المسؤولية حيث ينبغي أن تستقرّ، بين يديه. محمود يُحوِّل جسده قليلاً، كأنّه يفتح لها مساحة لتُكمل. زهرة تراقب التفاصيل الصغيرة: الأصابع المشدودة على ذراع الكرسي، الشهيق القصير عند ذكر الواتساب؛ امرأة تحصي الخسائر ببرودة من تعوّدت ألّا ينتبه أحد لثمن أخطائهم في حياتها المهنيّة.
لا يندفع إلى المساومة أو إلى تلطيف اللغة. يجلس أخيراً، يضع دفتره جانباً كمن يخلع سلاحه، ويقول وهو يثبّت نظره في عينيها إنّه مستعدّ أن يضع أشياء ملموسة على الطاولة: جدول تسليم مخطوطته، فرصة التثبيت في أي جامعة خليجية، رصيده عند المجلس وعند رئيس قسمه. يلفظ كل ثمن بصيغة تقرير لا تهديد؛ لا يقول «إن حصل كذا…» بل «هذا ما شوّهته في سمعتِك أنتِ، وفي سمعة القصر». محمود، الذي سمع اعتذارات كثيرة مصاغة كبيانات صحفية، يلتقط الفرق في النبرة: لا شروط، لا «لكن». زهرة تلاحظ التحوّل من جملة «إن أضرّ هذا بسمعتي» إلى «لقد أضررت بسمعتك»، وإصراره الغريب على ألّا يعرّف بنفسه شكل الإصلاح المطلوب. يضيف، بوضوح يُقلِق من يحبّونه، أنّه إذا رأت Samirah أنّ الأنسب هو بيان علني، أو اعتراف صريح بخِدعتهما أمام المموّلين، أو حتى توصية رسمية بوقف تعاونه مع القصر، فلن يجادل، بل سيوقّع عليها بنفسه.
الصمت الذي يلي كلامه ليس هروباً، بل كأنّ الغرفة بأكملها تحبس أنفاسها معه. الهواء الحارّ يدفع ستارة النافذة بخفّة، ينثر حبّات رمل على طرف المكتب، كأنّ الصحراء نفسها تسجّل حضورها شاهدة. يمرّر يده على حافة الكرسي، يلتقط خيط الفكرة التي جرّته من الحافّة إلى هنا.
«لسنين،» يقول ببطء، «اعتبرتُ الانسحاب… السفر، التجمّد عاطفياً، تغيير الوظائف… نوعاً من الوقاية. كلّما اقترب شيء من أن يكون حقيقياً، أُطفئه قبل أن يشتعل. ظننت أنّني أحمي نفسي، وأحمي صورة أمّي، وأحمي البحث من أي شبهة ذاتية.»
يلتفت إلى المكتبة الصغيرة في الزاوية، إلى عناوين قرأها وهو يتخيّل نفسه خارج النص دائماً. «الصحراء،» يضيف، ونبرته أشبه باعتراف لطيف منه بتأمّل أكاديمي، «كشفت لي أنّ هذا الانعزال لا يحفظ شيئاً؛ هو يصدّأ ما أكتب، ويشَوِّه صدقيتي، ويجعل من كلّ حديثي عن الوفاء نوعاً من التمثيل.»
يسكت لحظة، كأنّه يختبر وقع الجملة التالية على نفسه قبلهم. «لو خرجت الآن، حفاظاً على ماء الوجه، سأبقى الرجل نفسه الذي وصل: متحصِّناً، نصف منتهٍ، يكذب على نفسه قبل أن يكذب على غيره.» لا يرفع صوته، لكن الجملة تستقرّ في هواء الغرفة كحجر وُضِع أخيراً في مكانه الصحيح.
«أن أبقى،» يتابع، «هنا، تحت النظر، خاضعاً لشروطٍ لم أخطّط لها، ومسؤولاً أمامكِ أنتِ أولاً يا Samirah، ليس تضحيةً بصورة الباحث المتجرّد؛ هو المحاولة الأولى الجادّة لأن أحمي ما بدأ يتحرّك فعلاً داخلي: الصدق، والارتباط، والقصر الذي منحني الاثنين معاً ثم طالبني بثمنهما.»
لا يمدّ يده برجاء ولا يسرع إلى طلب ردّ. ينظر إلى الثلاثة بالتتابع، كنصٍّ يسلّم نسخه لأوّل قرّائه القساة. «لن أطلب جوابك الليلة،» يضيف، موجِّهاً الكلام إلى Samirah لكن من دون أن يستثني محموداً وزهرة من الدائرة. «مهما قرّرتم, بيان، قطيعة، إعادة صياغة كاملة للقصة, سأبقى ملتزماً بشيء واحد: في اللقاء القادم مع المجلس والمتبرّعين، سأقف أمامهم لا كـ”باحث” يحلّل قصتكم من الخارج، بل كجزء من هذه الحكاية، مسؤول عن دورِه فيها، ومستعدّ أن يُسمّي ما فعل باسمه الحقيقي.»
تتوزّع «المخاوف» على جدول الأعمال كما لو كانت بنوداً مالية لا وجوهاً بشرية. تومض شاشة العرض بصيغةٍ بيروقراطية باردة: ملاحظات حول الاتّساق الداخلي، حفظ السمعة، وضبط السردية العامة. لكنّ نبرة الأصوات حول المائدة تكشف أنّ ما يُحاك يتجاوز الصياغات.
يتحدّث أحد الأعضاء الأصغر سنّاً عن «قلق المتبرّعين من تضارب الإشارات»، يستشهد برسالة واتساب وصلته من قريب في القرية: «الناس لا تفهم، أهو مركز للعلم أم مكان للخطّابة العاطفية؟» يتدخّل آخر، لحيته مصفّفة بعناية، ليحوّل السؤال إلى حكم مقنّع: «حين يبدأ الحديث عن الثنائيات الملهمة والقصص الرمزية أكثر من الاستشهادات والمخطوطات، لا بدّ أن يختلّ الميزان.»
Samirah تجلس في صدر الطاولة لا في طرفها، لكنّ توزيع الكراسي يجعلها تبدو كأنها في موضع الاستجواب. تحافظ على استقامة ظهرها، تفتح دفترها وتدوّن نقاطاً مقتضبة لا لأنّها تحتاج إليها لاحقاً، بل لتضبط يديها عن الارتجاف. يتوجّه إليها الرئيس بالسؤال الذي كان الجميع يدور حوله: «هل ترين، ابنتي، أنّ بقاء الدكتور Rafah بينكم الآن يساعد على إعادة الانضباط… أم يعمّق هذا الانطباع بأنّ القصر أصبح مساحة تجارب عاطفية؟»
تلتقط الكلمة في أوّلها لا في آخرها. تشكرهم على صراحتهم بـصوت ثابت، ثم تذكّرهم بالأرقام التي فضّلت اللجنة سابقاً تجاهلها: زيادة الإقامات البحثية، أوراق النشر المشتركة، العقود السياحية التي نسّقها محمود، البرامج التجريبية التي جذبت شريحة شابّة من المتبرّعين. لا تتهرّب من «الحادثة»، لا تعيد تسميتها، بل تقولها كما هي: «نعم، أخطأنا في طريقة إدارة القصة. وأنا أتحمّل نصيبي من هذا الخطأ. لكن تحويل الأمر إلى دليل على خلل أخلاقي دائم في بنية القصر هو ظلم للطاقم وللسنوات التي عملنا فيها بلا شائعات ولا فضائح.»
يستغل أحدهم اعترافها مرساةً لاقتراح «حلّ تصحيحي هادئ»: أن يُترك عقد Rafah ينتهي «من دون ضجّة»، وأن «تُعاد هيكلة» طريقة عرض Samirah نفسها أمام المجتمع. «ربّما،» يقول وهو يبتسم ابتسامة أبوية، «لو كان إلى جوارك زوج يحمل اسماً قبليّاً معروفاً، لخفّت هذه التأويلات. الناس تطمئن للبيوت المستقرّة.»
تشتعل حرارة تحت بشرتها، لكنّها لا تصل إلى وجهها. تجيب، ببطء محسوب، أنّ كفاءتها لم تُقَم يوماً بحالة بطاقتها الشخصيّة، وأنّ القصر إذا احتاج إلى «زوج» ليثبت جدارته فهو في مأزقٍ أعمق من أي شائعة. تلاحظ رفّة عينٍ سريعة عند عضوٍ أكثر انفتاحاً، كأنّه يودّ أن يصفّق ثم يتذكّر موقعه.
في الطرف الآخر من الطاولة، يجلس Rafah صامتاً، كأنّه ظلّ لصوته السابق الذي ملأ قاعات محاضرات كثيرة. لا أحد يوجّه إليه سؤالاً مباشراً؛ حضوره محسوباً عليه وعلى Samirah معاً، لكن الحديث يتمّ عنه لا معه. يدرك، مع كل جملة تُصاغ بصيغة المبنيّ للمجهول عن «الأحداث الأخيرة» و«الانطباعات المتداولة»، أنّه تحوّل إلى مشكلة إداريّة يجب «إدارتها»، لا إنساناً يمكن محاورته.
حين يتنحنح، في محاولة لطلب الكلمة، تتجاوزه الرئيس بسطرٍ أخير: «على أيّ حال، القرار النهائي سنطرحه في جلسة المساء بحضور المتبرّعين. إلى ذلك الحين، نرجو من الجميع، خاصةً طاقم الإدارة، تجنّب أي ظهور يضيف بلبلة إلى الصورة.» الجملة تبدو موجّهة إليه أكثر ممّا هي موجّهة إليها.
تخرج Samirah من القاعة بخطوات موزونة أمام العيون، ثم تقف في الممرّ القصير بين المؤتمر وغرف الضيافة لتلتقط أنفاسها. تُدرك، في اللحظة نفسها التي يقترب فيها Rafah متردّداً من الباب، أنّ المؤسسة كلّها تميل تلقائياً إلى الحلّ الأسهل: التخلّص منه كأنّه مجرّد خطأ قابل للحذف. وأن أيّ انسحاب منه الآن، ولو بدافع حمايتها، لن يُقرأ إلا كإقرار ضمنيّ بكلّ الاتهامات المعلّقة في الهواء.
عند أوّل الظهيرة، امتلأت قاعة الاجتماعات الظليلة بوجوهٍ تحمل حرارة الشمس وبرد التحفّظ في آنٍ واحد. دخل الأعضاء التقليديّون تباعاً، عِمامـاتهم مصفوفة، أكمام دشداشاتهم مكويّة بعناية، لكن مصافحة كلّ واحد منهم بدت أقصر بنصف ثانية من العادة؛ كأنّهم يعلنون مسافة أخلاقية لا بروتوكولية. تبادلوا عبارات ترحيب مهذّبة، ثقيلة الإيقاع، تُقال ولا تُمنَح.
رئيس المجلس، الشيخ الأكبر، سعل سعلته المألوفة التي تسبق عادةً إعلان من نوع «لا بدّ أن نتكلّم بصراحة». عدّل وضع نظّارته، حدّق لحظة في النقشة الهندسية على السجّاد، ثم قال بنبرةٍ جنائزية تناسب خبر وفاة أو فضيحة: «القصر لا يحتمل الغموض في مسائل الشرف يا أولاد.»
منذ تلك الجملة، صيغت كل الأسئلة على هيئة «مخاوف»: هل أصبح الجوّ «متساهلاً» أكثر مما ينبغي؟ هل كثُر «الاختلاط غير الضروري»؟ أحدهم تساءل إن كانت «التجارب في طريقة العرض» ــ وتلك المرّة انزلق بصره ناحية الباب الذي شهد يوماً مقترح «الثنائي الملهم» من محمود ــ قد شوّشت إرث الزاوية القديم.
لم يصرّح أحد باسم Samirah مباشرةً، لكنّ كل ضميرٍ مبنيّ للمجهول يسقط عليها: «تمّ تقديم صورة معينة»، «استُخدمت لغة عاطفية»، «تسرّبت قصص غير منضبطة إلى الخارج». كأنّ القاعة كلّها متواطئة على أن «الخطأ» ليس في بنية التوقّعات، بل في امرأةٍ سمحت ــ في نظرهم ــ لشيء من العاطفة و«حسابات الصورة الحديثة» أن يتسرّب إلى مكانٍ كان يُراد له أن يبقى محراباً للطاعة والانضباط وحدهما.
ومع كلّ سؤالٍ «مهذّب»، كان الافتراض جاهزاً مسبقاً: أنّ Samirah خفّضت الحاجز الذي يفصل بين البحث وبين البشر الذين يجرونه.
يشتدّ الضغط حين تنتقل الملاحظات من «الصورة العامة» إلى الأجساد نفسها. أحد الأعضاء، بعينين رقيقتين وكلمات قاسية، يلمّح إلى أنّ جمع «باحثين رجال» مع «منسّقات نساء» في مساحات عملٍ ضيّقة كان «تسامحاً غير محسوب» مع حساسيّات المنطقة. عضو آخر، أقلّ تلطّفاً، يقترح بصوتٍ يكاد يكون مبتهجاً باكتشافه: «ربّما لو ارتبطتِ، يا ابنتي، بشخصٍ معروف، زوجٍ شريكٍ حاضر في المناسبات، لارتاحت قلوب الناس. البيت المستقرّ يحمي السمعة.» تنزلق كلمة «يحمي» كخنجر مغطّى بالمخمل؛ كأنّ قيادتها وحدها فجوة تحتاج إلى رجل يسدّها. تطرق عبارة «الخطبة الغامضة» المكرّرة في رسائل القرية جدار جمجمتها. تشعر بنبضٍ يطرق صدغيها بعنف، لكنّ صوتها، حين تردّ، يخرج مستوياً، خالياً من أيّ رجفة تسرّ النمّامين.
يجلس Rafah في أبعد نقطة عن مركز الطاولة، كفّاه مسطّحتان على الحجر البارد كأنّه يحاول أن يستعير تماسكه منه. في الدقائق الأولى، يتعلّق بوهمٍ مريح: أنّ ما يجري «مراجعة إجراءات» لا أكثر. يلتقط العبارات التقنية عن «السياسات» و«البروتوكولات» كما يلتقط باحثٌ تعبيراتٍ مألوفة في تقريرٍ مملّ.
لكن مع كلّ التفاتة مبطّنة إلى Samirah، ومع كلّ تلميح إلى «الحكم المهني» و«اختلاط الأدوار»، يشعر بأنّ محور الحديث ينزاح من النص إلى الأجساد، من اللوائح إلى الشخصيات. تصير الجمل أكثر التواءً، لكن أهدافها أوضح: صورتها، قراراتها، «حساسيتها كامرأة مسؤولة». وحين يبدأ أحدهم في استخدام تعابير كأنّها مقتطعة من حملة دعائية فاشلة ــ «إعادة ضبط الصورة»، «إزالة مصادر الالتباس»، «استرجاع الهيبة الأولى للقصر» ــ يكتشف أنّ الدائرة التي ترسمها الكلمات تضيق من حوله هو أيضاً.
يخطر له، بوضوحٍ مؤلم، أنّه تحوّل من «مقيم علمي» إلى بند خطر في جدول «إدارة السمعة». يتذكّر جملةً كتبها مرّة عن شعراء الجاهلية: «كانوا يخافون من أن يتحوّل العاشق إلى عارٍ قبليّ.» يبتسم في داخله بسخرية يائسة: ها هو يعيش النسخة المؤسسيّة من ذلك الخوف.
وحين ي Clearing of throat يقترح الشيخ، بوقارٍ مُفتعَل، أنّ «المصلحة» تقتضي أن «تُختَم إقامته كما خُطِّط لها، من غير تجديد ولا ضجّة»، لا يحتاج أحد إلى توضيح أكثر. الجملة تصدر بصيغةٍ محايدة، لكنّ معناها يهبط عليه حادّاً: لم يعودوا يناقشون أفكاره بل يناقشون كيف يمحون أثره. لقد صار «البقعة» التي يُراد غسلها من ملفّ Samirah وسيرة القصر معاً، دون أن يجرؤ أحد على تسميتها باسمها.
لا يتدخّل Rafah إلاّ عندما يشعر أنّ الهواء نفسه صار يطالب بخاتمة. يرفع رأسه، يحسّ بطعم الرمل في حلقه، لكن نبرته تخرج هادئة، منضبطة كما لو كان يقدّم ملاحظة هامشية على بحثٍ لا على حياته. يعرض أن يُنهِي إقامته قبل موعدها، «حفاظاً على سمعة القصر… واحتراماً لموقع الأخت Samirah»، كما يقول، في صياغةٍ تمنحهم مخرجاً مشرّفاً وتحوّله هو إلى كبش فداءٍ متطوّع. تترخّى الأكتاف، يتهرّب بعض النظر، كأنّ عُقدةً قبيحة وجدت أخيراً سكّيناً نظيفاً.
لكن Samirah، ويداها مشبكتان في حجرها حتى تبيّض عقد أصابعها، ترفض هذا النقاء المصطنع. تقول، بنبرةٍ لا تستجدي تعاطفاً ولا تخشى حدّة: «خروجك بصمت لن يُصلِح شيئاً، بل سيؤكّد للناس أنّ عندنا ما نخجل منه ونُخفيه في الصحراء.» تنقل عينيها بين الوجوه، ثم تستطرد: «إذا كنّا نريد فعلاً أن نُصلِح ما انكسر، فالشرح يجب أن يكون أمام من سمع الإشاعة، لا خلف أبواب مغلقة.»
تدير جملتها الأخيرة نحوه مباشرة: «هذا المساء، حين نجتمع في الساحة مع المجلس والقرية والضيوف… ستقف بجانبي، لا كظلٍّ أُزيل ليستعيد القصر “هيبته”، بل كشخصٍ راشدٍ مستعدّ أن يتحمّل نصيبه من الكلام، في المكان نفسه الذي اعتاد الشعراء أن يضعوا فيه حقائقهم على الحجر عاريةً من التورية.»
تتمايل الفوانيس الخضراء والصفراء في نسيم المساء كأنّها تتردّد قبل أن تشهد ما سيُقال، وترمي ظلالاً متكسّرة على حجر الساحة المصقول بخطوات قرون من الزائرين. خرير النافورة في الوسط يأخذ طبقةً جديدة هذه الليلة؛ لم يعد مجرّد خلفيّة هادئة، بل إيقاعاً خافتاً يوازي همهمة الحاضرين، يملأ الفجوات التي تتركها الجمل المبتورة والضحكات القصيرة المتكلّفة.
يتجمّع المموّلون في الصفوف الأولى، يحمل بعضهم فناجين قهوة صغيرة لا يرفعونها إلى أفواههم إلاّ نادراً، كأنّهم يخشون أن تفلت منهم لحظةٌ مهمّة إن هم رمشوا أكثر من اللازم. وجوه مصقولة، ابتسامات مدروسة، رؤوس تميل نحو بعضها في حوارات جانبية عن «الرؤية» و«الاستدامة»، لكنّ أعينهم، حين تستريح، تلتفت تلقائياً إلى الطرف الذي تجلس فيه Samirah، وإلى الكرسي الخالي بجانبها الذي يُفترض أن يجلس فيه Rafah بعد قليل.
أعضاء المجلس يجلسون في صفٍّ يكاد يكون متراصّاً، أكتافهم مشدودة كأنّ ظهورهم تحمل، فوق العقال والغترة، ثقل سمعة كاملة لا اسم شخص واحد. بينهم من يحدّق في حجر الساحة، ومن يراجع في ذهنه، دون وعي، صياغاتٍ محتملة لبيانٍ لاحق إذا خرجت الأمور عن السيطرة. النظرات المتبادلة بينهم ليست فقط «حذرة»؛ إنّها حسابٌ صامت: كم كلمة صريحة يمكن أن يحتمل هذا المكان قبل أن ينقلب «الصفاء الروحي» إلى عنوانٍ سخيف في الصحافة؟
في الأطراف، يقف بعض العاملين والمقيمين على استحياء، مستندين إلى الجدران تحت الأقواس الحجرية، كأنّهم يحاولون أن يكونوا جزءاً من المشهد وخارجه في آنٍ معاً. يتظاهرون بترتيب المقاعد أو تمرير أباريق الماء، لكنّ عيونهم لا تكفّ عن القياس: من جلس قرب من، ومن تجنّب لقاء من. حتّى الشاب الذي يتولّى تنظيم الصوت يرفع رأسه بين كلّ تعديلٍ وآخر ليلتقط تعبيرات الوجوه.
في الخلف قليلاً، يجلس ثلاثة من وجهاء القرية على مقاعد خشبيّة منخفضة، جلابيبهم البيضاء مائلة إلى الصفرة من غبار الطريق. وجوههم جامدة، لكنّ أعينهم تلمع بفضولٍ لا يخفي نفسه؛ فالقصر بالنسبة إليهم ليس مشروعاً ثقافياً فحسب، بل امتدادٌ لشرف القرية وحدود حكاياتها: ما يُقال هنا، هذه الليلة، سيُعاد غداً في المجالس مع زيادةٍ طفيفة في البهارات.
عنوان الأمسية ــ «الإخلاص بلا احتراق» ــ يدور همساً بين الحاضرين ككلمة سرّ لا أحد متأكّدٌ إن كان يفهم معناها نفسه. أحد المموّلين يبتسم بسخريةٍ مكتومة ويقول لجاره، بصوتٍ يكفي لأن يلتقطه نصف الصفّ الأوّل: «يبدو أنّنا دخلنا زمن المحاضرات العلاجيّة، حتّى الشعر صار يحتاج استشاريّ صحة نفسية.» يهزّ الآخر كتفيه بنصف لا مبالاة ونصف حذر: «أهمّ شيء أن يثبت لنا القصر أنّه يعرف كيف يدير… مشاعره… كما يدير ميزانيّاته.»
في ناحية أخرى، تميل إحدى الموظّفات نحو زميلتها، تهمس: «تتوقّعين يتكلم عن نفسه؟ ولا يظلّ يلفّ حول عنترة وقيس؟» تردّ الأخرى، بضحكةٍ صغيرة خنقتها بسرعة عندما لمحت أحد أعضاء المجلس يلتفت نحوها: «لو بدأ بقيس وانتهى بنفسه… تكون معجزة صراحة.»
الهواء نفسه يحمل توتّراً خفيفاً، يشبه كهرباء تتراكم قبل عاصفة رملية. رائحة القهوة بالهيل تختلط بنفحات عودٍ خفيف قصدت Samirah أن يُشعَل عند مداخل الساحة؛ لمسة ضيافة، نعم، لكن أيضاً محاولة غير معلنة لتذكير الجميع بأنّهم ضيوف على مكانٍ له تقاليد وكرامة، لا مجرّد مسرحٍ لشائعاتهم.
يصل موجز برنامج الأمسية إلى آذان الحضور متأخّراً عنهم: هم يعرفون ــ أو يظنّون أنّهم يعرفون ــ السبب الحقيقيّ لهذا التجمّع قبل أن تُعلَن أيّ كلمة رسميّة. هناك من جاء طلباً لعلمٍ أو فضولٍ مهنيّ، وهناك من جاء ليقيس حرارة الفضيحة بأذنه مباشرة، لا عبر رسائل واتساب متأخّرة. وبين الفريقين، يتقدّم الليل خطوةً أخرى، كأنّ السماء نفسها تنتظر: هل ستكون هذه مجرّد محاضرة أخرى تُنسى مع أوّل ضوء فجر، أم ليلةً يُضاف فيها سطر جديد إلى تاريخ هذا القصر… وإلى سيرة رجلٍ اعتاد أن يشرح قصائد الاعتراف وهو يتهرّب من اعترافه هو؟
يتقدّم Mahmoud إلى وسط الساحة، يمسك بالمايك اللاسلكي كما لو كان يحمل فنجان قهوة في مجلسٍ عائلي، وابتسامته المفتوحة تشقُّ طبقة التوتّر الأولى في الهواء. يترك لحظةً قصيرة لصوت النافورة، ثم يقول بنبرةٍ خفيفة لا تُخفي جدّيتها إنّ «هذا المكان»، قبل أن يصبح «منتجعاً» و«مشروعاً ثقافياً»، كان زاويةً يلوذ بها من ضاقت بهم المدن: شعراء وفقهاء وتائهون بينهما، يجيئون إلى هذا الحجر نفسه ومعهم أسئلة عن الحبّ والواجب، عن ما يُحفظ لله وما يُحفظ للناس، وما يُسمح للقلب به دون أن ينهار كلّ ما حوله.
يبتسم وهو يلمّح إلى أنّ «تاريخ القصر» ربما أكثر صدقاً من نشراته التعريفية، ثمّ يشير بيده في قوسٍ واسع يضمّ الحاضرين: «الليلة، نحاول أن نمدّ جسراً صغيراً بين ما كُتب في الكتب، وما نعيشه في أجسادنا وأعصابنا.»
يلتفت بإيماءة تقدير نحو Zahra في الصفّ الأوّل، يعرّف بها بعباراتٍ مقتضبة لكن دافئة، ثمّ يصف الأمسية بأنّها «تأمّل مشترك» في كيف يمكن للإخلاص أن يُغذّي الإنسان لا أن يحرقه، وكيف يمكن للعبارة القديمة “النيّة لله” أن تتعايش مع جملةٍ أكثر حداثة عن «الصحة النفسية». يضيف، وهو يترك نبرته تميل قليلاً إلى الدعابة، أنّ الرسالة التي سيستمعون إليها ليست «وصفة علاجية»، ولا «محاضرة أكاديمية بحتة»، بل محاولة لأن يُصغي هذا القصر إلى نفسه: إلى الحجر الذي شهد اعتزالات العشّاق القدماء، وإلى الأكتاف المتعبة التي تجلس فيه اليوم باسم «الإنجاز» و«السمعة».
«إذا كان لـقَصْر الوفاء من معنى»، يقول وهو يطالع وجوه المموّلين وأعضاء المجلس بالتساوي، «فهو أن نجرّب، ولو لليلة واحدة، أن نُوفِي لقلوبنا كما نُوفِي لعقودنا.» ثمّ يختم بتقديم Rafah وZahra معاً، بوصفهما شاهدين من عالمين متقاربين، قبل أن ينسحب خطوةً إلى الخلف، تاركاً الساحة كلّها مستعدّة للّحظة التالية.
عندما يذكر Mahmoud اسم Rafah، تنسحب الهمهمات إلى حوافّ الساحة كمدٍّ خجول، ويعلو فوقها فقط خرير الماء وصرير كرسيّ يُسحَب بتأنٍّ. ينهض Rafahُ ببطءٍ محسوب، يحمل دفتره الجلديّ وبضعة أوراقٍ مطبوعة، ويتقدّم فوق الحجر المصقول بخطواتٍ لا هي سريعة فيُفهَم منها تردّد، ولا بطيئة فيُشمّ منها استعراض؛ كأنّه يرفض أن يمنح أحداً رفاهية قراءةٍ سهلةٍ لحركته.
يصل إلى المنصّة الخشبيّة الصغيرة، يضع الأوراق فوقها في حزمةٍ مرتّبة، وأصابعه الطويلة تستقرّ على الحافة لحظةً، كأنّ غريزة المحقّق في داخله على وشك أن تهبّ لتنظيم الهوامش وترقيم الأفكار. ثمّ، بحركةٍ تكاد تكون بطيئة عن عمد، يزيح الأوراق جانباً، يغلق دفتره، ويترك كِلتيهما على الطاولة مغلولين بعيداً عن متناول صوته.
حين يرفع رأسه، يختار فصيحةً منضبطة لا تُجامِل الأذن العاميّة ولا تُقصيها؛ طبقةً دافئة تحمل بوضوحٍ حتى آخر صفّ، بلا ميكروفونٍ تقريباً. يبدأ من المنطقة الآمنة التي يعرف الجميع أنّه سيأتي منها: صدر بيتٍ لمعلّقة، شطرٌ من قصيدة عبّاسية، عن شاعرٍ خاف أن يشقّ الحبُّ وقارَه، أو أن يُميِّع السعيَ الواحدَ إلى المجد والعلم.
يترك الآيات القديمة تتردّد لحظةً في الهواء، ثمّ يربط بينها بخيطٍ رفيع من الشرح، لا في هيئة المحاضر المُتحفِّظ، بل في هيئة رجلٍ يراجع وصايا أجداده بصوتٍ مسموع: كيف تحوّل الخوف من انكسار الشرف إلى عادةِ شدٍّ مستمرٍّ على عضلات القلب، وكيف صارت «العفّة عن العاطفة» تُسوَّق، جيلاً بعد جيل، كفضيلةٍ لا يُمتحَن صدقها إلاّ عندما يجد الإنسان نفسه وحيداً أمام المرآة.
ومع تفكيكه لتلك النصوص، ينزلق شيئاً فشيئاً خارج المسافة التحليلية المألوفة لديه. لا يكتفي بتشريح الاستعارات لجمالها البلاغي، بل يصلها صراحةً بالمصطلحات التي كرّرتها Zahra في جلساتها: الإرهاق بوصفه «تصحّراً بطيئاً للقلب»، والتجنّب كـ«حصنٍ يُخطَأ في اعتباره بيتاً». تهتزّ الساحة بذبذبةٍ خفيفة حين يعترف، بهدوءٍ لا يختبئ خلف مزاحٍ ولا تنظير، أنّه لم يتعامل مع تلك الهواجس القديمة كـ«موضوعاتٍ للدراسة» بل كتعليمات عمل: حوّل «الإخلاص العلمي» و«البرّ بالأم» إلى فتاوى شخصية تُبيح له الإفراط في العمل والانكماش العاطفي، حتّى صار كلّ إنجازٍ جديد دليلاً إضافياً على نجاحه في الهرب.
يتغيّر إيقاع صوته، وتتغيّر معه ضمائره. يتخلّى بوضوح عن «قالوا» و«يرى بعض الباحثين» لصالح «أنا» خالصةٍ لا زخرف فيها. يصف، أوّلاً بضمير الغائب ثمّ بوضوحٍ عن نفسه، مقيماً بنى حياةً بحيث لا يملك أحدٌ حقّاً في وقته ولا في رِقّة قلبه، يسمّي ذلك «مبدأ» وهو في جوهره خوفٌ مُقنَّع. شيئاً فشيئاً، ينحسر شكل «المحاضرة» لتنكشف بوصفها شهادة: دراسة حالةٍ أخلاقيةٍ منزوعٌ عنها الغلاف النظريّ. الأكتاف تميل إلى الأمام، حتى العيون المتمرّسة عند الشيوخ تتيقّظ. وحين يتوقّف لالتقاط أنفاسه، يكون الفاصل بين خطابٍ أكاديمي وسردٍ شخصيّ قد ذاب تماماً؛ الساحة تدرك أنّ القصّة المطروحة ليست افتراضيةً البتّة، بل اعترافٌ حيّ ينتصب أمامهم.
الآن فقط يلتفت بكامل جسده نحو Samirah؛ لا يعود يتحدّث إلى «مقيمٍ» مجهول أو «حالةٍ» افتراضيّة، بل إلى امرأةٍ تجلس بين أمٍّ تشدّ أطراف شيلتها حتى تستقرّ على كتفيها، وأخٍ يطبِق فكّيه كأنّه يحرس شيئاً مهدَّداً في قلبه. يلتقي بصرُه ببصرِها لحظةً، ثمّ يستقرّ قريباً منه، لا يهرب ولا يتحدّى. وحين يتكلّم، لا يعلو صوته، بل يزداد انخفاضاً وصفاءً؛ كأنّ أيَّ ارتفاعٍ الآن سيكون نوعاً من التستّر.
يبدأ بسردٍ متدرّج، لا يلوّنه بلاغةٌ ولا يلطّفه مزاح. يتكلّم أوّلاً عن «العقد» الذي وقّعه مع نفسه قبل سنواتٍ طويلة، قبل أيّ عقدٍ قانونيّ مع المؤسّسة أو مع Qasr Al‑Wafāʼ: ميثاقٌ داخليّ ألّا يسمح لقلبه أن يرتبط من جديد، أن يجعل كلَّ علاقةٍ محتملةٍ مجرّد «سياقٍ مهنيّ» أو «عبورٍ عابر» لا جذور له. يشرح، بلا التواء، كيف دخل إلى هذا المكان وهو يحمل تلك الشروط كمن يحمل لائحةَ تعليماتِ سلامةٍ ضدّ الحريق: لا تقترب، لا تستقرّ، لا تعدْ أحداً بشيء.
ثمّ يصف، خطوةً خطوة، كيف ترجم ذلك على أرض الواقع: كيف قرّر، منذ أوّل يوم، أن يُصنِّف كلَّ تواصلٍ بشريّ تحت بندَيْن جاهزين: «مؤقّت» و«مهنيّ». الموظّفون، المقيمون، حتّى الجلسات العفويّة في الساحة عند المساء؛ كلّها أُدرِجت في عقله على أنّها موادّ عمل، لا احتمالات حياة. وحين طُرِح أمامه، بذكاءٍ إداريّ، سيناريو «الشراكة الإبداعيّة» بينه وبين Samirah، لم يقف عند عتبة السؤال الأخلاقيّ طويلاً: قبِل به بسهولةٍ مقلقة، لأنّه قدّم له ما كان يبحث عنه دون أن يجرؤ على تسميته.
يتوقّف لحظةً، يبلع ريقه، ثمّ يمضي في التفصيل: نعم، كانت في القِصّة فائدةٌ للمؤسّسة، وللرواية التي تحبّها الهيئاتُ المموِّلة عن «الثنائيّات الخلّاقة». لكنّ جاذبيّتها الكبرى عنده كانت شيئاً آخر: أنّها سمحت له بأن يُرى – في عيون العائلة، في أحاديث الضيوف، في رسائل القسم الجامعيّ – على أنّه رجلٌ «مخلص»، «قادرٌ على الالتزام»، دون أن يعرّض نفسه فعلاً لالتزامٍ واحدٍ حقيقيّ. يتكلّم عن الراحة الخبيثة في أن يُصفَّق له على «وفائه» في سياقٍ يعلم في داخله أنّه مبنيٌّ على تمثيل.
يوضّح، بنبرةٍ لا تلتمس العذر، أنّ كلَّ محطةٍ في هذا المسار لم تكن قَدَراً ساقه دون خيار، بل قراراً متكرّراً: كان يمكنه أن يرفض الترتيب من البداية، كان يمكنه أن يضع حدوداً أوضحَ أمام الألسنة التي بدأت تُلمِّح، كان يمكنه – على الأقلّ – أن يواجه نفسه حين بدأ جسورُ «التمثيل» تختلط بجسورٍ أخرى لا يشبه طعمُها العملَ ولا الالتزامَ الإداريّ. بدلاً من ذلك، اختار، مرّةً بعد مرّة، أن يترك التيّار يسحبه؛ لأنّ التيّار كان يمنحه ما ظنّه حمايةً: إعجاباً بلا مخاطرة، قرباً بلا اعتراف، حضوراً في حياة Samirah بلا أن يقدِّم ما يليق بذلك الحضور من وضوحٍ ومسؤوليّة.
ومع كلّ اعترافٍ، يحرص على أن يضع الفعل في صيغة الاختيار: «قرّرتُ»، «سمحتُ»، «سكتُّ»، لا «وجدتُ نفسي» ولا «حدَث أن». كأنّه يجرّد خوفَه من حقّه في الادّعاء بأنّه أقوى منه، ويعيده إلى حجمه الحقيقيّ: خوفُ رجلٍ بالغٍ اتّخذ سلسلةً من القرارات الخاطئة، وكان يمكنه، في كلّ مرّة، أن يتراجع عنها ولم يفعل.
يسمّي الكذبة باسمها الدقيق، بلا زخرفة ولا تورية. لا يكتفي بتعبيرٍ عامّ عن «سوء فهم»، بل يستعيد المصطلحات واحدةً واحدة: «الشراكة الإبداعيّة» المريحة، الابتسامات الموحية في ممرّات الإدارة، الهزّات الخفيفة بالرأس حين بدأت الألسنة تتعامل مع التنسيق بينهما على أنّه «شِبه خطوبة». يصف، بتفصيلٍ لا يترك له مخرجاً، كيف ترك الحكاية تتمدّد مثل ظلٍّ طويل: تحرس حدوده هو، بينما تعرّي حدودها هي.
يتحدّث عن زيارات الأقارب في عطلات نهاية الأسبوع، عن سؤالٍ عابرٍ من خالةٍ أو عمّةٍ يتحوّل إلى تصريحٍ كاملٍ عن «قرب الفرج»، وكيف اكتفى في كلّ مرّةٍ بصمتٍ محسوب، متواطئ، يقدَّم على أنّه حياء. يقرّ بأنّه استخدم سياسات المؤسّسة عن منع العلاقات، وأُطُر «الاحترافيّة» في القسم الجامعيّ، ستاراً ملائماً ليؤجِّل أيَّ توضيحٍ حاسمٍ إلى أجلٍ غير مسمّى، متذرّعاً بأنّ «الوقت لم يحن»، بينما الزمن يشتغل على سمعتها لا على سمعته.
من دون أن يحوّل الأمر إلى استجداء، يعترف أنّه اتّخذ من سمعته كـ«رجلٍ جادّ» درعاً جاهزاً: ترك الآخرين يملؤون الفراغ بما يريحهم؛ قرؤوا في صلابته «نيّةً طيّبة» و«تريّثاً نبيلاً» حيث لم يكن، في البدء، سوى مزيجٍ من الحساب والخوف. يذكّر، بنبرةٍ هادئة لا تعفيه، أنّه كان يعرف تماماً ما يُفهَم من سكوتِه، وما الذي يعنيه أن يواصل السماح لتلك الصورة بأن تُلتقَط مرّةً بعد مرّة، في مجالس الأهل، أمام المتبرّعين، وفي تقارير المؤسّسة؛ صورةُ رجلٍ يُفهَم ضمناً أنّه على أعتاب وعدٍ كبير، بينما هو، في داخله، يصرّ على أن يبقى الوعد مؤجَّلاً، معلّقاً، بلا صيغةٍ ولا التزام.
تأتي اللحظة بلا إثارةٍ مصطنعة ولا التفاتةٍ مسرحيّة. يقول، ببساطةٍ تكاد تكون فاضحة، إنّ «الترتيب» توقّف، عنده، عن أن يكون ترتيباً فحسب؛ أنّ شيئاً ما، وسط جلسات التخطيط المشتركة، والقيادة الصامتة بين الكثبان، والمشادّات الصغيرة حول البرامج، تبدّل: أنّ احتراماً حقيقيّاً نبت في موضعٍ لم يكن فيه من قبل إلا حسابٌ بارد. يمتنع عمداً عن اقتباس بيتٍ واحدٍ، مع أنّه يحفظ عشرات القصائد جاهزةً على طرف اللسان؛ لا يشبّهها بفجرٍ ولا برملٍ ولا بأيّ كائنٍ آمنٍ وبعيد. بدلاً من ذلك، يختار الفعل العاري نفسه: «أُحبّ»، ويربطه بأشياء محدَّدة: إصرارها على عدالةٍ لا تُساوِم مع الموظّفين، امتناعها عن تملّق المموِّلين، طريقتها في الإصغاء حتى النهاية قبل أن تجيب. ثمّ يتبع ذلك بجردٍ لا يُزيغ البصر عن الأذى: ما لحق باسمها في مجالس العائلة والقرية، بما خفَّ من طمأنينة أهلها وهي تمشي في هذا المجتمع بين الشكّ والهمس، بما انعكس على شراكات Mahmoud في العيون التي بدأت ترى في كلّ تعاونٍ «قصّةً» مشبوهة، وبما أصاب، أخيراً، الوعد الذي قدّمَه Qasr Al‑Wafāʼ لنفسه ولضيوفه بأن يكون مكاناً تُمارَس فيه الأمانة، لا تُستَخدَم فيه كديكور.
تتثاقل السكينة في الفناء؛ خرير النافورة يغدو جليّاً كأنّه يعلو فوق الأنفاس المحبوسة. في ذلك الفراغ، يوجّه عدسة الباحث هذه المرّة إلى نفسه، ويتكلّم عن الإنهاك بصيغة المتكلّم: عن الصداع الذي قلّل من شأنه، والأرق الذي تجمّله على أنّه «انضباط»، وساعات العمل الممتدّة التي قدّمها دليلاً كاذباً على أنّه لا ينتمي لأحد. يذكر كيف كان يكتب مقالاتٍ عن «التجرّد العلميّ» وهو يتهرّب من مجرّد زيارةٍ عائليّةٍ خشيةَ أن يُسأل عن حياته الشخصيّة. في طرف الساحة، تكاد Zahra تكتم أنفاسها وهي تسمعه يستعير معجمها المهنيّ لينزع عن معجمه أقنعته: يسمّي نَذرَه ضدّ الحبّ «نظاماً مغلقاً للتحكّم»، ويسمّي تباعده «طريقةً مؤدّبة لتجنّب الحداد والمخاطرة». يعترف بأنّ ما سوّقه طويلاً على أنّه صرامةٌ أخلاقيّة لم يكن، في جوهره، سوى رفضٍ منظَّم لأن يكون معرّضاً للفقد.
بعد أن عرّى دفاعاته حتى العظم، لا ينزلق إلى نبرة استرحامٍ ولا إلى أيّ إيماءةٍ توحي بأنّ الحكم ظُلِم. بدلاً من ذلك، يقدِّم ادّعاءه الأخير، رصيناً كحكمٍ نقديّ: إنّ أيَّ أخلاقيّاتٍ للوفاء ــ معرفيّة كانت أو روحيّة ــ تُنكر التعلّق وتعتبره شوائبَ ينبغي تنقيتها، هي أخلاقيّاتٌ منقوصة، بل مضلِّلة. يعلن ــ أمام الذين موّلوا سنوات عزلته «المثمرة» ــ رفضَه لفكرة أنّ الباحث الحقّ لا بدّ أن يحلِّق فوق التورّط الإنسانيّ كي يبقى «طاهراً». ثمّ يضيّق هذا الأفق النظريّ الواسع إلى طلبٍ واحدٍ موجهٍ بالاسم إلى Samirah: لا عرضَ خطبة، ولا وعدَ نهايةٍ سعيدةٍ مصاغةٍ سلفاً، بل مجرّد فرصةٍ للبقاء هنا إلى جوارها بلا أقنعة، عاملاً في مشروعها وفق الشروط التي تضعها هي، قابلاً سلفاً بكلّ ما تراه من تبعاتٍ خاصّةٍ أو علنيّة. وحين يسكت، لا يترك في عباراته أيَّ محاولةٍ لتوجيه الردّ؛ يودِع القرار صراحةً بين يديها، كأنّ الهواء نفسه في الفناء يضبط أنفاسه منتظِراً أن تتكلّم.
لا تُطيل الوقوف في مكانها الأوّل؛ كأنّ اعترافه ــ بكلّ ما حمله من تحوّلٍ شخصيّ ــ لا يعفيها من ترتيب حسابٍ آخر، أوسع من قلبين. تمسح جبهتها بطرف كفّها في حركةٍ سريعة، ثم ترفع رأسها لترى، لا وجهه، بل صفّ الوجوه المواجهة لها: أعضاء المجلس، المموِّلين، العمّات في الصفّ الخلفي، الفريق الإداري الموزَّع على الجانبين. تتقدّم خطوتين إلى الأمام، فتخرج نهائيّاً من ظلّ العمود، وتستقيم في الفراغ بينه وبين صفّ المقاعد كمن يعتلي منصّةً غير مُعَدّة سلفاً.
حين تتكلّم أوّل مرة، لا تأتي بعبارةٍ إنشائيّةٍ ولا باستعارةٍ عن «السفر» و«الدروس المستفادة» كما يحبّ بعض المموِّلين. تبدأ من الجملة الأبسط والأشدّ إرباكاً: «هذه فكرَتي أنا.» تسكت كسَرقةِ نفسٍ واحدة، ثم تتابع، بنبرةٍ إداريّةٍ متعوِّدة على العروض التقديميّة: هي التي اقترحت صيغة «الشراكة الإبداعيّة» كي تُرضي شهية المجلس والجهات الداعمة لحكايات «الثنائيات» الملهمة؛ هي التي سمحت، عن قصد، بأن يُفهَم الأمر، في المجالس العائليّة والقرية المجاورة، كشيءٍ «أقرب إلى الخطبة»، ما دام ذلك يخفِّف الضغط عن أختها الصغرى ويؤمِّن لها، هي، هامش عملٍ أوسع بلا مطاردةٍ يوميّةٍ بأسئلة الزواج.
لا تشيح بعينيها حين تقول إنّها، في سعيها لإدارة الانطباعات، عملت ضدّ المبدأ الأوّل الذي كتبته بنفسها في لائحة القيم المعلَّقة في مكتبها: «الوضوح قبل الجمال.» تعترف أنّها رضيت بجمال القصّة على حساب وضوحها، وأنّها طالبت موظَّفيها ونزلاءها بما لم تلتزم به تماماً. يَسري همسٌ خفيفٌ في المقاعد الخلفيّة؛ تُدير بعض العمّات رؤوسهنّ إلى بعضهنّ البعض، بينما ينظر أحد أعضاء المجلس في الأوراق أمامه كأنّه يرى فيها لأوّل مرّة أكثر ممّا هي أرقامٌ وخططٌ سنويّة. تترُكُ الهمس يجري ولا ترفع يدها لإسكاته؛ هذه المرّة، قرّرت أن تُسمِعَه كلَّه قبل أن تنتقل إلى مخاطبة الرجل الواقف إلى جانب النافورة.
تتوقّع أن تسمع، في مكانٍ ما من الصفوف، جملةَ «ما كنّا نعلم» المألوفة، أو أن يهبَّ أحد العمّات لطمأنتها بأنّ «كلّ البنات يفعلن ذلك»، لكنّها لا تمنح أحداً فرصة تحويل الاعتراف إلى مواساةٍ عابرة. تُسمّي الأشياء بأسمائها: تذكر كيف اضطرّ الفريق الإداري إلى التحدّث بصيَغٍ حذرةٍ أمام الضيوف، يختارون ضمائر وجموعاً تلمِّح أكثر ممّا تقول، فقط لأنّ مديرةَهم تركت مساحةً للالتباس. تذكر ضحكات القريبات حين صارت أختها الصغرى مادّةَ مزاح: «العروس التالية»، «دورِك قريب»، وكيف ابتسمت هي مجاملةً، وهي تعرف أنّها هي من فتح الباب لتلك النكات.
تُشير، دون تبرير، إلى أنّ أحد أهمّ وعود هذا المكان هو أن يكون ملاذاً من الضغوط الاجتماعيّة، فإذا به ــ بقرارٍ من مديرة الموقع نفسها ــ يعيد إنتاج الضغط بأدواتٍ أكثر تهذيباً فحسب. تُؤكّد، بنبرةٍ هادئةٍ لا تخلو من مرارةٍ مهنيّة، أنّ أحداً لم يُضلَّل في بندٍ ماليّ ولا في برنامجٍ بحثيّ، لكنّ «قصص العلاقات» جزءٌ من رأسمال هذا النوع من المشاريع، وأنّها أنفقت من هذا الرأسمال بخفّة يدٍ لا تفتخر بها. وبأن تسبق بنفسها أيَّ محاولةٍ لتحويل ما جرى إلى حكايةِ «أستاذٍ قاسٍ وامرأةٍ مخدوعة»، تُزحزِح مركز الثقل من فضيحةٍ شخصيّةٍ إلى خللٍ في ثقافة المؤسّسة، خللٍ تتعهّد بمعالجته علناً كما كشفته علناً.
لا تنتظر أن يمدّ أحدٌ جسراً بين اعترافها وراحته؛ ترفض، ضمناً، أن تُختزَل في صورة المديرة المسكينة التي خُدِعت بقصّة حبّ أو خدعت بها غيرها. تذكر، بلغةٍ مباشرةٍ لا استعارةَ فيها، تفاصيلَ يوميّة تبدو صغيرةً على الورق، لكنها أكلت من ثقة الناس بالمكان: كيف اضطرّت موظّفة الاستقبال إلى ابتكار تعابير ضبابيّة كلّما سُئلت عن «الخِطبة»، وكيف صار على المشرف الليلي أن يوازن بين تعليمات «الخصوصيّة» ونظرات الفضول في أروقةٍ ضيّقة. تشرح أنّ الشفافيّة الماليّة وحدها لا تكفي إذا كان جزءٌ من جاذبيّة الموقع يقوم على قصص «الشراكات الملهمة»، وأنّها، بإتاحتها لهذه القصّة أن تُفهَم كما شاؤوا، أنفقت من رصيد المصداقيّة أكثر ممّا تسمح به مهنتها. وحين تُسمّي ذلك «سوء تقديرٍ مؤسّسيّاً» قبل أن يُسمّى «خطأ رجلٍ واحد»، تدفع الحاضرين ــ بلطفٍ حازم ــ إلى التفكير في بنية التوقّعات التي صفقوا لها، لا في مشهد الخيبة وحده.
لا تلتفت إليه دفعةً واحدة؛ تلتفّ نحوه كمن يُدير صفحةً ثقيلة، فيضيق الهواء بينهما، وتبدو النافورة أقرب ممّا هي. حين تنطق اسمه مجرَّداً من الألقاب، يتحرّك شيءٌ غير مرئيّ في الصفوف. تقول إنّ اعترافه لا يمحو ليالي الأرق التي قضتها تُعدِّل خطط الطوارئ في ذهنها: ماذا لو قرّر في لحظةٍ مرتبكةٍ أن «يصحِّح» الرواية علناً، تاركاً إيّاها وحدها في واجهة الاتّهام؟ لا يمحو ذلك الاحمرار الحارّ الذي صعد إلى وجهها في مجلس عمّاتٍ وعمّالٍ حين سألتها واحدةٌ، ببراءةٍ جارحة: «طيب متى العرس يا بنتي؟» وهي تعرف أنّ «العرس» نفسه جزءٌ من عرضٍ تسويقيّ لن يُعرَض قط. تسمّي أمام الجميع المخاطرة المهنيّة في أن تبدو كمن اختلق خطبةً لتلميع تقريرٍ سنويّ، والطعنة الشخصيّة في اكتشاف أنّ أوّل ردّ فعله عند اشتداد الضغط كان الانسحاب إلى صمته، بدل أن يقف ــ ولو شكليّاً ــ إلى جوارها. ومع ذلك، في الجملة التالية، تعترف بأنّ سماعها له الآن وهو يسمّي خوفه، إرهاقه، ومسؤوليّته بلا درعٍ من المصطلحات ولا استشهادٍ بأبي تمام، هو شجاعةٌ لم تعُد تتوقّعها من الرجل نفسه الذي وصف الحبّ يوماً بأنّه «مَغْرَسُ أخطاءٍ مهنيّة» لا أكثر.
تترك التناقض قائمًا كما هو؛ رجلٌ آذاها، ورجلٌ قد يكون قادرًا على ما هو أوسع من خوفه، وترفض أن تجعله جسرًا قصيرًا نحو غفرانٍ فوريّ. بدلًا من ذلك، ترسم مخرجًا مشروطًا، تخاطب به المجلس بقدر ما تخاطبه هو: إنْ قَبِل أن يبقى في قصر الوفا بوصفه «شريكًا مقيمًا» لا «حالةً خاصّة» لبقيّة الموسم، تحت شمس شفافيّةٍ كاملة ــ بلا حكاياتٍ مُموّهة، بلا «برامج» تُخفي ترتيباتٍ شخصيّة ــ وإنْ ارتضى أن يُخضِع عمله وسلوكه معًا لمعايير التوازن والصدق التي بشّر بها قبل دقائق، فهي مستعدّة ألّا تتعامل مع هذه الليلة كخبرٍ يُدفَن في محضر اجتماع. ستتعامل معها كنقطة تحوّلٍ مُعلنة في سيرة المكان، مثالٍ حيٍّ على أنّ الإخلاص للعمل والبشر لا يحتاج إلى سرّيّةٍ ليعيش. عرضُها حازمٌ بلا عاطفيّةٍ زائدة؛ يضع أمامه، وأمام المؤسّسة، خيارًا واضح الحدود. وحين تسكت، يتحوّل النفس المحبوس في الفناء من توتّرٍ حادّ إلى إحساسٍ جماعيٍّ هشّ بأنّ دربًا جديدًا، غير مُجرَّبٍ لكن صريحًا، قد رُسِم للتوّ على الرمل.
يرتفع صوت رئيس المجلس، مبحوحًا قليلًا من كثرة السكوت، لا من طول الكلام. يختار صياغاتٍ قانونيّةً مُطمئِنة، يتجنّب فيها كلَّ كلمةٍ يمكن أن تُقتبَس غدًا كحكمٍ نهائيّ. يتحدّث عن «مرحلة مراقبة» و«التزامٍ مبدئيٍّ مشروطٍ بمتابعة أثر هذا الوضوح الجديد»، كأنّه يضع بين القصر والتمويل جسرًا من زجاج: يمكن عبوره، لكن الجميع سيرى كلّ خطوة. يصرّ على أنّ ما جرى الليلة «ليس محاكمةً بل افتتاح ملفٍّ بأسلوبٍ مختلف»، فيحوِّل إحساس الحضور من انتظار العقوبة إلى ترقُّب تجربةٍ قيد المتابعة.
تلتقط زهرة الخيط بلا تكلّف، وكأنّها كانت تنتظر تلك الثغرة في النبرة الرسميّة. تميل قليلًا إلى الأمام، كمن يقرّب كرسيَّ عيادةٍ من مريضٍ متوتّر، لكنّ «مرضاها» هنا مجموعة من رجال أعمالٍ وعضوات مجلسٍ محترفات. تخاطبهم بصوتٍ منخفضٍ ثابت، فتُجبِرهم أن يصغوا ليَسمَعوا. تقول إنّ ما شاهَدوه قبل دقائق ليس «حادثًا مؤسّسيًّا» بل جلسة علاجٍ جماعيّة على الهواء: بالضبط ما يدّعي قصر الوفا أنّه يتيحه للنُزَلاء منذ تأسيسه، لكن نادرًا ما يجرؤ على عرضه أمام من يكتب الشيكات. تشرح، بعباراتٍ متّزنة لا تخلو من لمسة شاعرٍ قديم، أنّ «الالتزام إذا لم يتعرَّض للاختبار يبقى شعارًا، وأنّ الحبَّ للعمل أو للإنسان الآخر إذا لم يُكشَف عن خدوشه يتحوّل إلى عبادةِ صورةٍ لا عبادةِ حقيقة».
تشير بطرف عينها إلى النافورة، ثمّ إلى الحلقات الصغيرة من الضيوف المتجمّعين في الظلّ، لتُذكِّر بأنّ الزوايا كانت يومًا ما أماكنَ اعترافٍ ومراجعةٍ بين عُبّادٍ وطلبةِ علم، لا فقط فضاءاتِ صمتٍ وصلاة. «أنتم»، تقول وهي تُثبّت نظراتها في ممثّلةِ أحد الصناديق الكبرى، «لم تُدعَوا إلى عرضٍ مثاليّ، بل إلى مختبرٍ تُختبَر فيه مزاعمُنا عن التوازن. الليلة، شاهدتم أستاذًا بارعًا يكتشف علنًا أنّه ليس محصَّنًا من التواءات الإخلاص، ومديرةً تعترف بأنّ طموحها أعماها لحظاتٍ عن وضوح الحدود. هذا عيبٌ أم فرصة؟» تكتفي بابتسامةٍ خفيفة، كمن يترك الإجابة تتخمَّر في رؤوسهم.
حول الدائرة، تتراجع اللهجات الحادّة إلى همهماتٍ أقرب إلى التعليقات الجانبيّة في ندوةٍ ناجحة. تتهادى العبارات من «فضيحة» إلى «جرأة»، من «خطأٍ لا يُغتَفَر» إلى «درسٍ يمكن البناء عليه». إحدى الضيفات، التي كانت قبل ساعة تُهمس عن «تهاونٍ أخلاقيّ»، تهزّ رأسها الآن بإيقاع مَن وجد، أخيرًا، قصّةً مناسبةً يُعيد بها تأطير ما رأى: ليست مؤسّسةً متصدّعةً بقدر ما هي بيتٌ يعترف بتصدّعاته ويحاول ترميمها أمام الجميع. في وجوهٍ عدّة، يظهر ارتياحٌ شبه فوريّ، كأنّ زهرة قد قدّمت لهم، على طبقٍ من مصطلحاتٍ علاجيّة، السرديّة التي يحتاجونها ليُقنِعوا بها أنفسهم ــ ومجالس إداراتهم ــ بأنّ الاستثمار هنا ما زال استثمارًا في «رأس مالٍ إنسانيّ» لا في مغامرةٍ عاطفيّةٍ طائشة. هكذا، يتسرّب التوتّر شيئًا فشيئًا من الحلقات، ويحلّ محلَّه فضولٌ حذرٌ يُبقي الأبواب مواربة بدل أن يُغلِقها بضربة واحدة.
يتولّى محمود الجبهة العمليّة كما لو كانت ملعبه الطبيعيّ. يسند كتفه إلى عمودٍ حجريّ عند طرف الفناء، ساقٌ على ساق، نظّارته الشمسيّة تتدلّى بين أصابعه، بينما يلتقط عنده عنقودًا من المموِّلين الذين ظلّوا متجمِّعين في نصف دائرةٍ حائرة. صوته خافت لكن مفعمٌ بثقةِ مَن اعتاد بيع رحلاتٍ صحراويّة لِمَن يخاف الغبار: «الليلة»، يقول بضحكةٍ قصيرة تكسر حدّة الجوّ، «قدّم لكم القصر أغلى حزمةٍ تسويقيّة مجّانيّة: قصّة حقيقيّة، فيها خطأ، اعتراف، ومحاولة إصلاح… هذا بالضبط ما يصدّقه الجيل الجديد، لا البروشورات المصقولة.»
يخلط مفردات العائد على الاستثمار بخبرته كأخٍ يعرف بالضبط ما الذي على المحكّ لسميرة. يذكّرهم بأنّ العلامات الأكثر صمودًا اليوم هي تلك التي تُظهِر قدرتها على التعلّم من عثراتها على الملأ. «أنتم لا تريدون مؤسسةً بلا مشاكل،» يضيف وهو يوزِّع نظره بين الوجوه، «أنتم تريدون مؤسسةً لا تُخفي مشاكلها ثم تنفجر في وجوهكم. ما رأيكم في تحويل هذه الليلة إلى نموذجٍ مُراقَب للإصلاح بدل أن تُسجَّل كـ”حادثة”؟»
تلتقط بعض الرؤوس الإشارة، ويتحوّل تجهّمٌ إلى ابتسامةٍ متحفِّظة. في الركن الآخر، يلتقط رئيس المجلس الخيط، فيقترح بصياغةٍ مُحكَمة أن تُجعَل فترة الأشهر المقبلة «مرحلة اختبارٍ للنهج الجديد»، يُراقَب فيها مدى تحوّل هذا الوضوح إلى برامجٍ مستقرّة، وآليّات حوكمةٍ شفّافة، وانعدامٍ تامّ لأيّ ترتيباتٍ شخصيّةٍ مخفيّة. لا حديث عن سحب التمويل، بل عن «تأجيلٍ بنّاء» للقرار النهائيّ، ريثما يثبت قصر الوفا أنّ القصّة الصادقة يمكن أن تُدار بقدرٍ من الانضباط لا يقلّ عن جرأة الاعتراف. بين سطور ذلك كلّه، يفهم الجميع أنّ الخيط لم ينقطع، لكنّه لم يعُد يحتمل عقدةً أخرى.
مع انحسار الصياغات الرسميّة وتهدئة النبرات، يبدأ احتقان الفناء في التخفّي طبقةً بعد طبقة. يتحرّك المموِّلون ببطء تحت ضوء الفوانيس، في مسارٍ متعرِّج بين أشجار النخيل والقوس الحجريّ؛ يتهامسون بتقييماتٍ مقتضبة، يلقون نظراتٍ سريعة إلى المنصّة وإلى النافورة كأنّهما مسرح حادثةٍ ستتحوّل غدًا إلى بندٍ في تقرير. الموظّفون، بدورهم، ينفرطون في اتجاهاتٍ مدروسة نحو المطبخ، مكتب الإدارة، غرفة التحكُّم بالكهرباء، وكلٌّ منهم يحمل فوق ملامحه مزيجًا من فضولٍ حارّ وتعاطفٍ حذر، كأنّهم يحاولون قياس حجم التغيُّر الذي سيسكن المكان من هذه الليلة فصاعدًا.
زهرة تعود إلى الغرفة الصغيرة التي تُسمّيها مازحةً «العيادة»، تفتح دفترًا جديدًا على صفحةٍ معنونةٍ بخطٍّ مشدود: «الإخلاص بلا احتراق». تكتب ملاحظاتٍ سريعة عن كيف تحوّل خطاب رباح من دفاعٍ عن جدارٍ عالٍ إلى اعترافٍ ببابٍ يُفتح، وتضع دوائر حول عباراتٍ تنوي اقتباسها في البرنامج التجريبيّ. في الهامش، ترسم سهمًا بين «العلاج الفرديّ» و«الاعتراف المؤسّسيّ»، كأنّها تضبط، في هذه الدقائق، الهيكل النظريّ لعرضٍ مستقبليّ.
على الطرف الآخر من الفناء، يلتقط محمود نظرة سميرة المعلَّقة في الهواء، فيرفع حاجبيه لها إشارةً سريعة تجمع بين سؤالٍ وطمأنة. يردّ بإيماءةٍ قصيرة تكاد تقول: «لسنا منهارين، بل قيد إعادة ترتيب.» ثمّ يستدير بخفّةٍ إلى عنقودٍ من الضيوف المتردّدين قرب المخرج، يشرع في إرشادهم نحو ساحة السيّارات، يملأ الفراغ بكلماتٍ عمليّة عن مواعيد الغد وخيارات الإقامة. كلّ حركةٍ منه محسوبة لتفريغ الدائرة حول النافورة، يوسِّع الفراغ الحجريّ عمدًا، كمن يفرش مساحةً خالية لحديثٍ يعرف أنّه آتٍ، مهما تأخّر لحظةَ توديعِ آخر ضيف.
حين يبتلع القوس آخر «تصبحون على خير» متردِّدة، يخرج الصمت من مخبئه أقلّ توتّرًا، أكثر حميميّة. لا يبقى في الفناء سوى خرير النافورة، وارتجافة ورقة نخلة، وصوت بوّابةٍ بعيدةٍ تستقرّ في مكانها. تترجّل عن كتفي سميرة ثِقلُ العيون الكثيرة، ويصعد مكانه توتّرٌ أضيق، أشبه بوخزةٍ تحت الجلد. ما زالت واقفةً حيث أنهت خطابها، أصابعها تشدّ طرف عباءتها بلا وعي. يرى رباح الفجوة الصغيرة بينها وبين الحافة الحجرية، فيتقدَّم بخطًى بطيئة، مظهرُ المحاضرِ المنضبط متروكًا خلفه فوق المنصّة. كتفاه منحنِيتان قليلًا، عنقه خالٍ من الدرع المعتاد من النصوص والاستشهادات؛ يبدو، للمرّة الأولى منذ وصوله، كأنّه مجرّد رجلٍ أنهكه الحذر. يتوقّف إلى جوارها لا أمامها، يتركان وجهيهما نحو الماء، يسمحان لرذاذٍ باردٍ وسكونٍ مشترك أن يُذيب طبقة البلاغة التي طَلَيا بها المساء.
حين تنفكّ العقدة أخيرًا، تأتي الكلمات متعثِّرة، متداخلة، بلا مسوَّدةٍ مُسبقة. اعتذار رباح عارٍ من الاستشهادات؛ يسمّي، بلغةٍ بسيطة، اللحظة التي اختار فيها المسافة على حساب الثقة، وكيف كان الخوف ـ لا المبدأ ـ قائده الحقيقيّ. تصغي سميرة، ذقنها مرفوع لكن أصابعها منكمشة، ثم تجيب باعترافٍ مقابل: كيف حكَّ انسحابه المفاجئ على جروحٍ قديمة من كونها «الكفؤة» التي يُستفاد من هدوئها ثم تُترَك في الخلف. يدوران بحذرٍ حول الألم، نصيبه ونصيبها، يلتقطان خيوط المسؤوليّة دون مبالغةٍ أو تبرئة، يضعان بينهما أمثلةَ صغيرة: بريدًا لم يُرسَل، اجتماعًا أُلغي بلا تفسير، نظرةً تهرّبت في الممرّ. شيئًا فشيئًا يتحوّل طوق الاتّهام إلى خريطةٍ للحدود: ما الذي يستطيع كلٌّ منهما تحمّله، وما الذي لم يعُد مقبولًا.
لا يخرجان من الحديث وهما عاشقان يُصفِّق لهما الفناء الخالي؛ يخرجان باتّفاقٍ متّزن، تكاد نبرته أقرب إلى صياغة عقدٍ جديد: أن يستمرّا شريكين في سلسلةٍ تجريبيّة تشبك بين الحبّ، والكرامة، والعافية، بشرطٍ صريح أن يملك أيٌّ منهما حقّ تسمية الهروب حين يظهر، ولو في نبرةٍ واحدة. يقرّان، بنصف ابتسامةٍ مرهَقة، أنّ الشجاعة المقبلة لن تكون على المنصّة، بل في رسائل قصيرة، واجتماعات العمل، وصمتِ ما قبل النوم. وحين يفترقان قرب الممرّ المؤدّي إلى الغرف، تكون أضواء الممرّ خافتة، والفناء خلفهما في طريقه إلى ظلمةٍ كاملة، أمّا السماء فوق القصر فتمتدّ لا كفراغٍ بارد، بل كقبّةٍ عالية داكنة، تمسك في عمقها، بهدوءٍ لا يدّعي شيئًا، الطريقَ الهشّ الذي قرّرا أن يسيرا فيه هذه المرّة وهما ينظران أمامهما لا إلى الأرض.
في الأسابيع التي تلت اتفاقهما المتأخر في الممر، بدت «جلسات المتابعة» أقرب إلى اجتماع لجنة جامعية منها إلى أي شيء آخر. في مكتب سميرة الأبيض البسيط، تحت المكيّف الذي يئنّ همسًا، كانت الطاولة المستطيلة تتحمّل كل علامات الجدية: جدول أعمال مطبوع، ملفّات ملوّنة، أقلام ملوّنة للتمييز بين مهام «عاجلة» و«مهمّة»، وساعة على الحائط تتذكّر الجميع بأن الوقت مال عام لا يُبذَّر.
في اللقاءات الأولى، كان رباح يجلس مستقيم الظهر، نظّارته منزّلَة قليلًا على أرنبة أنفه، وقلمه جاهز لتدوين كل نقطة. أسئلته مقتضبة، نبرته مهنيّة إلى حدّ الجفاف. كانت سميرة، من جهتها، تتكلّم بلغةٍ تكاد تُقلّد خطاب التقارير السنوية: «المخرجات»، «المؤشّرات»، «الاستدامة». كأنّهما متّفقان ضمنًا على أنّ أي انزلاق إلى لغة أخرى سيكون اعترافًا بما لا يريدان الاعتراف به بعد.
ومع ذلك، بدأت الشقوق الصغيرة تظهر في هذا الحصن المنظَّم. في الأسبوع الثاني، يتعثّر النقاش عند بيتٍ من المتنبي، كانت سميرة قد اقترحته كشعار جانبي لسلسلة الفعاليات. يعترض رباح، بنصف ابتسامة نادرة:
«يا سميرة، هذا البيت يُستدعى في سياقات الغرور، لا في برامج العافية.»
ترفع حاجبًا: «ومن قال إن الأكاديميين لا يعانون من الغرور أيضًا؟»
ينتهي الجدل بأن يفتح رباح مخطوطًا مصوَّرًا من المكتبة، ويشرع كلاهما في تتبّع الشروح، ناسِيَيْن الجدول الزمني، حتى يطلّ محمود برأسه من الباب، يحمل فناجين قهوة عُمانية:
«أها، وجدتكم غارقين في المتنبي بدل الميزانيات. هذا تقدّم ملموس.»
بعدها تصبح زيارات محمود جزءًا شبه ثابت من المشهد، ذريعة بريئة لتخفيف النبرة. رسالة من أحد المانحين تشعل نقاشًا آخر، هذه المرّة حول معنى «السلامة النفسية» في فضاءٍ تحكمه كلمات مثل «الوقار» و«الحشمة». يسأل رباح، متحفّظًا:
«كيف نترجم هذا دون أن نظهر وكأننا نستورد لغة شركات التكنولوجيا من كاليفورنيا؟»
تجيبه، وهي تدوّر قلمها بين أصابعها: «نترجمه بما يفهمه أهلك وأهلي: الراحة في الجسد، والطمأنينة في الوجه، وعدم الاضطرار للكذب على النفس.»
يتحوّل الحديث بالتدريج من صياغة الفقرات إلى حياة الناس الذين سيتأثّرون بها: الباحث المنهك الذي يصرّ على ثلاث جلسات قراءة في اليوم، المرشدة الإدارية التي تبقى متأخّرة لتنسيق السيارات، الشاب البدوي الذي يخشى أن يُحسب تخلِّيه عن عملٍ إضافي ضعفًا.
بنهاية الشهر الأوّل، يصبح الالتزام بالوقت أكثر مرونة. كلاهما يصل قبل الموعد بدقائق، دون أن يصرّح بأن هذا «مقصود». تستغل سميرة الدقائق الإضافية للسؤال، بلهجة أقرب إلى البيت من المكتب:
«كيف كانت ليلتك؟ استطعت أن تنام، أم أن النجوم انتصرت مجدّدًا؟»
يردّ رباح، متردّدًا في البداية، ثم أكثر سلاسة مع تكرار السؤال: «أفضل قليلًا. شعريّة الصمت هنا أقل عدوانية حين أتعب بما يكفي.»
يسأل هو بدوره عن زيارة أمّها، عن أعمامٍ متحفّظين ازدادوا اقتناعًا أو لم يزدادوا، وعن صداع الرأس الذي بدأ يتعلّم، على مضض، أن يربطه لا بنقص القهوة بل بزيادة العمل.
لا يقولان إن هذه ليست مجرّد «متابعة مشروع» بعد الآن. يكتفيان بتكبير خانة «متفرقات» في جدول الأعمال، لتتّسع لأسئلةٍ لا تُدوَّن، لكنها، على نحوٍ ما، أكثر إلزامًا من كل البنود الأخرى.
حين تقترح زهرة، بخفّتها المعهودة، أن تُسوَّق السلسلة الجديدة تحت اسم رباح وحده «لرفع منسوب الوجاهة الأكاديمية»، يفاجئهما معًا برفضٍ هادئ لا يقلّ حسمًا عن صوته الخفيض.
«لا بدّ من توقيعينا معًا،» يقول في اجتماع التخطيط، عاكفًا على جدولٍ مزدحم بالأسهم والمربّعات. «الفكرة من الأصل قائمة على ضَفِيرَةٍ بين منظورين: البحث، والرعاية الفعلية للمكان ومن فيه.»
تحاول زهرة أن تمزح: «لكن اسمك أثقل عند الأقسام الجامعية، والجرائد تحبّ عناوين من نوع: (أستاذ مرموق يكتشف الإنسان في الصحراء).»
يهزّ كتفيه، بشيء من السخرية المشوبة بالتعب: «العناوين تعيش أسبوعًا، الشراكات أطول عمرًا , إن حَسُنَت نيّتها.»
تلتقط سميرة الجملة بنظرةٍ خاطفة، لا تعلّق، لكن قلمها يتوقّف فوق الهامش كمن يسجّل ملاحظة ذهنية.
تلك الليلة، في سكون مكتبة المقيمين، يجلس رباح إلى الطاولة الخشبية التي حفظت آثار أقلامٍ أقدم منه بعقود. يفتح مسوّدة مقترح «البرنامج التجريبي»، يراجع الأقسام: الأهداف، المنهج، مؤشرات التقييم. يصل إلى السطر المعنون: «مسؤول البرنامج». يتردّد القلم لحظة، ثم ينزلق بحركة حاسمة:
«المديران المشاركان: د. رباح البيطاني & الآنسة سميرة الحديد.»
يتوقّف، يتأمّل الحبر الطريّ. يدرك أنّه لا يضيف اسمًا فحسب، بل يربط هويّته العلنية باسمها ربْطًا لا يسهل فَكّه أمام مجلس إدارة، أو مانحين، أو عائلةٍ تتقصّى التفاصيل. يترك مساحة صمتٍ قصيرة في صدره، كوقفةٍ بين شطرَي بيت شعر، ثم يطوي الملفّ، ويحمله إلى مكتبها.
حين يمدّ لها الأوراق، لا يشرح. يكتفي بأن يدفعها نحوها على سطح المكتب المصقول، إيماءة بسيطة تبطن كلّ ما لا يزال متردّدًا في قوله بصوتٍ عالٍ.
تقرأ سميرة السطر المُعدَّل مرّتين، بعينَي مديرةٍ تحفظ الأرقام وبقلبِ ابنةٍ تعرف ثمن الأسماء حين توضع متجاورة. تشدّ على حواف الورقة، ينقبض فمها في تعبيرٍ بين ارتياحٍ حذر وإنذار مبكر. تقاسُم الفضل يعني، بالضرورة، تقاسُم المساءلة؛ لا عن البرنامج فحسب، بل عن كلّ ما سيتخيّله الناس مُضمَرًا بين الاسمين.
تطرق بأظفرها على السطر: «أأنت متأكّد؟ هذا يعني أن المجلس، والمانحين، وأهلنا… سيروننا وحدةً واحدة في هذا الملف.»
يُغلق رباح دفتره ببطء، يرفع نظره إليها دون مراوغة، كمن يقرِأ بيت اعتذار لا يجوز ابتلاعه:
«إذا أرادوا الوثوق بالبرنامج، فعليهم أن يعرفوا أنّه قائم على التزامَيْن، لا واحد. لن أترك باب خروجٍ لا أملكه إلا أنا.»
ترمش بعينها، تستقبل العبارة وفي أذنها صدى انسحابه القديم، ذلك الذي لا يسمِّيانه الآن، لكن ظلاله تسكن بينهما منذ البداية. يُدركان معًا أنّه، بهذه الجملة الهادئة، يغلق الطريق الذي سبق أن سلكه حين هرب، لا على الورق فقط، بل في سيرته أمام عائلته وأمام نفسه.
تسحب الكرسيّ أقرب، تمهِّد الورقة برأس كفّها، ثم تقول بنبرةٍ أخفّ مما تشعر به: «إذًا… نُعلِن هذا الربط رسميًّا. لا عذر لأحدنا أن يتراجع دون أن يجرّ الآخر معه.»
يهزّ رأسه إقرارًا، وفي الصمت القصير الذي يعقب الكلمة، يسمع كلاهما ما لا يُقال صراحةً: أنّ الخروج هذه المرّة سيكون خيانة مزدوجة، للبرنامج… وللوعد الذي يتشكّل خجولًا بين السطور.
في عصر اليوم التالي، في «جلسة المتابعة» التي صارت شبه طقس، يُغلِقان شفهيًّا ما فتحه سطر «المديرين المشاركين». يتكئ رباح إلى الخلف، يثبت عينيه على جدول المواعيد المعلَّق على الحائط:
«إذا بدأتُ أختفي خلف “مراجعات عاجلة” أو نزهاتٍ انفرادية كلّما تعقّدت الأمور… فأنا، من الآن، أمنحك الحقّ أن تجرّيني للعودة. علنًا إن لزم الأمر؛ أمام الفريق، المجلس، أيًّا كان.»
ترتسم على فمها ابتسامة مائلة: «مُسجَّل.» ثم تضيف، تُدوِّر قلمها بين أصابعها: «وإذا بدأتُ أُحصِّن كلّ شيء باللوجستيات وإدارة المخاطر، ألوِّح بـ“السياسة” كلّما أردت أن أتهرّب ممّا أريده فعلًا… فعليك أن تسمّي ذلك بصوتٍ واضح، حتى لو رمقتُك بنظرة قتل أمام المانحين.»
يعلمان كلاهما أنّ هذا الإذن المتبادل، المتخفّي في نبرةٍ مازحة، أكثر إلزامًا من أيّ بندٍ مكتوب في المقترح.
حين يُرسِلان أخيرًا الوثيقة الموقَّعة إلى المؤسّسة، لا يبدو الأمر مجرّد رفع مشروعٍ على البريد، بل إيداع نذرٍ مشترك في سجلٍّ رسمي. في الأيّام التالية تستقرّ «جلسات المتابعة» على إيقاعٍ ثابت؛ نصفها اجتماع تحرير، نصفها جردٌ عاطفي. يبدآن لا بمؤشّرات الأداء بل بسؤالٍ صار علامةً سرّية بينهما:
«لسّا إحنا داخلين بكلّ رجلينا؟»
يأتيه أحيانًا مكسوًّا بالمزاح، وأحيانًا بجدّيةٍ كثيفة لا تحتاج توكيدًا. هو اختبار مبكّر لأيّ نيّة هروب، إذ تعلّما أن التراجع لا يبدأ بقرارٍ عاصف، بل بتنازلٍ صغير يُمرَّر تحت عنوان «ظرف طارئ» أو «ضغط شغل». شيئًا فشيئًا، يَربطان عزيمتهما الخاصّة بعملٍ ظاهر للآخرين؛ بحيث يصير التخلّي عن البرنامج تخلّيًا معلنًا عن وعدٍ لا يُكتَب في المقترحات، بل بين سطورها. وكلاهما يعرف، دون أن يُذكِّر الآخر، أنّ ثمن الفرار دُفِع مرّةً من قبل… ولن يُدفَع ثانيةً بسهولة.
أوّل مرّةٍ يقترب فيها مسار سلسلتهم من تخوم حكايتِه هو، يشعر رباح بالصمّام القديم يُغلَق بداخلِه بفرقعةٍ صامتة. كان الموضوع، نظريًّا، مألوفًا: «حين يتقاطع الطموح مع الارتباط». لكنّ القصيدة التي قرأها الضيف الأخير في الجلسة بدا أنّها أُخرِجَت من هامشٍ مفقود في سيرته الشخصية لا من دفتر غيره.
الشاعر المقيم، شابٌّ في أواخر العشرينات، يشدّ على حوافّ المنصّة كمن يتمسّك بدرابزين سفينةٍ تميل. صوته في البداية مطمئن، يحمل نبرة المُحاضر الذي يحوِّل جراحه إلى مادّة تدريب، ثمّ يبدأ يتهدّج وهو يصف «خِطبةً» لم يذكرها أحد باسمها في القاعة، ويعرف رباح، من أوّل جملة، أنّه يعرفها:
بيتٌ واحد عن «محبوبةٍ تحمل كتبها وحدها» ينسخ، بلا إذن، صورةً قديمة لامرأةٍ كانت تنتظر خلف باب مكتبة الجامعة. سطرٌ آخر عن «مُقَدَّمَة رسالة الدكتوراه التي التهمت خاتم الخطوبة» يضرب مباشرةً في حلقه. الشابُّ يتكلّم عن «مشروعٍ» صار أوسع من قلبَيْهما، وعن وعدٍ أُرجِئ مرّةً بحجّة منحة سفر، ومرّةً بدورةٍ بحثيّة لا تُعوَّض، ومرّةً ثالثةً لأنّ «توقيت النجاح ليس بأيدينا».
بين كلّ فقرةٍ وأخرى، تهبط على القاعة سكتةٌ قصيرة، كأنّ الجميع يتفق فجأةً على أنّ الهواء ثقيل. لا أحد يلتفت صراحةً إلى رباح، لكنّ شيئًا في جسد الجمهور يميل نحوه؛ حافّةُ كرسيّ تتحرّك في صفّه، كتفٌ تستقيم، يدٌ تُسقِط قلمًا ثم تلتقطه بتوتّر. هو نفسُه لا ينظر إلى أحد، يثبّت عينيه على الورقة أمامه، لكنّه يشعر بتلك النظرات المواربة، كما يشعر المرء بحبٍّ غير مُصرَّحٍ به يزدحم في الغرفة.
حتى زهرة، التي اعتادت أن تتدخّل في اللحظة المناسبة بسؤالٍ يُخرِج المتكلّم من حافّة البكاء إلى أرض التحليل، تلوّح بقلمها ثم تتراجع، كأنّها تدرك أنّ الكلمة التالية، إن قيلت، ستُفرِغ من رباح شيئًا ليس مستعدًّا أن يهبه علنًا بعد.
حين ينتهي الشابّ، لا تنفجر القاعة تصفيقًا كما في الجلسات السابقة، بل يخرج التصفيق خافتًا، مُتقطِّعًا، أشبه بمحاولة تهويةٍ خجولة بعد اعترافٍ خانق. يسود صمتٌ ثانٍ، أطول، يتسلّل خلاله توقّعٌ غير مُسمّى: هل سيعلّق الدكتور رباح، صاحب الأطروحة الشهيرة عن «أخلاقيّات الهروب النبيل في الشعر الجاهلي»، على قصّة هروبٍ حديثةٍ تشبه بصمته هو؟
يُدرِك تلك اللحظة وهي تتكوّن. يرى، من طرف عينه، انحراف رؤوسٍ طفيفة في اتجاهه، ثمّ تحفّظًا متعمّدًا، كأنّ كلّ واحدٍ في القاعة قرّر أن يمنحه مخرجًا شكليًّا حتى يراقب ما إذا كان سيأخذه أم لا.
يمسح بأنامله الحاشية السفلى من مذكّراته، يطوي صفحة الأسئلة التي كان قد هيّأها منذ الصباح، ثم يرفع رأسه بنبرةٍ هادئة أكثر ممّا يشعر به:
«أظنّ أنّنا، لهذا المساء، أعطينا القصائد أكثر ممّا تحتملونه في جلسةٍ واحدة. نكمِل النقاش في الورشة القادمة، إن شاء الله. تأخّر الوقت، ولا أريد أن أكون شخصًا آخر يحمِّلكم فوق طاقتكم باسم “الإنجاز”.»
تخرج الجملة الأخيرة لاذعةً أكثر ممّا خطّط، يلتقط بعض الحاضرين مفارقتها، يبتسمون ابتسامةً متوتّرة. يشرع في جمع أوراقه بخفّةٍ ظاهريّةٍ لا تُخفي للحظاتٍ ارتعاشةً طفيفة في يده. اعتاد طوال إقامته أن يرصّ ملاحظاته كقطع فسيفساء: زوايا مستقيمة، هوامش موازية لحافّة المنصّة، الأقلام مصطفّة بحسب اللون.
هذه المرّة، يترك الكومة على طرف المنضدة مائلةً، ورقةً واحدة تبرز من المنتصف كلسان اعتراف لم يُقصّ بعد. لا ينتبه أحدٌ إلى الخلل سوى سميرة، الواقفة قرب الباب تودّع المشاركين بابتسامات موزونة. تراه يبتعد عن المنصّة دون أن يعود بصره إليها، كأنّ ترتيب الأوراق الآن أقلّ إلحاحًا من ترتيب نفسه.
تلحظُ أن قلمَه المفضّل، ذلك الذي يصحّح به الأبيات النادرة، ما يزال مستلقيًا وحيدًا عند زاوية المحراب الحجري في مقدّمة القاعة. تمدّ يدها وتلتقطه، تُديره بين أصابعها، ثم ترفع رأسها في اللحظة التي ينغلق فيها الباب خلفه.
في المسافة القصيرة بين مقعده والباب، يكون رباح قد قرّر قرارَه القديم المتجدّد: الانسحاب المنضبط إلى صمته. غير أنّ القلم المفقود، والورقة المائلة على المنصّة، وعيونًا ثلاثًا أو أربعًا تبعته حتى العتبة، كلّها تشهد أنّ خروجه هذه المرّة ليس محكم الإغلاق كما يظن.
خارج القاعة كان الرمل قد برد إلى زرقةٍ مُكدومة، كأنّ الأفق قد تكفّل وحده بتلقّي ما لم يحتمله الداخل. يعبر رباح الفناء بخطًى أسرع قليلًا من العادة، لا يتوقّف عند النافورة ولا عند لوحة الإعلانات التي يراجعها كلّ مساء، يمضي حتى ينتهي الحجر ويبدأ العرجون الأوّل من الكثيب في الالتواء صاعدًا نحو السماء.
هناك يتوقّف، كمن اصطفى له منفىً محدود المساحة. تطلع نقرات ألمٍ مألوفة خلف عينيه؛ ذلك الصداع الخاصّ الذي لا يأتيه من ساعات القراءة، بل من اصطدام ذكرى قديمة بانتظارٍ جديد يحاول أن يُقنِعه بأنّه «لن يُكرَّر الخطأ». يضغط بإبهامه وسبابته على عظم الأنف، كأنّه يجرّب أن يقرص الماضي فينغلق، يغمض عينيه لحظة، ثم يفتحهما على خطّ النُصُب الحجريّة التي تلمع خافتة في العتمة، تقود نحو عمقٍ لا يراه.
يتساءل، بالصيغة ذاتها التي راودته ليالٍ كثيرة في هذا المكان: هل الانسحاب المنظَّم هو الكرامة الوحيدة التي يُحسِن تقديمها؟ هل الوحدة، بهذا الشكل، أصدق هديّة أمان يمكن أن يقدّمها لمن يقترب منه؟ أم أنّه، تحت ستار «الحماية»، يعيد تدوير جبنٍ قديم بلغةٍ أكثر أدبًا؟
تتردّد سميرة عند حدّ الضوء كما لو كان سلكًا شائكًا غير مرئي يفصل «المسموح المهني» عن كلّ ما عداه. قبل أشهر، كانت ستعتبر هذا الحدّ جزءًا من العقد الضمني بينهما: هو يوفّر للبرنامج هيبته، وهي تحرس حوله مساحة عزلٍ محترمة، فلا تقترب من صداعاته إلّا بجدولٍ ورسميّات. الليلة، والاعتراف الشعري لا يزال عالقًا في سقف القاعة كدخانٍ لم يجد منفذًا، تدرك فجأةً أنّ احترام تلك المسافة قد صار، بدوره، نوعًا من الهرب المؤدّب.
تسير نحوه بلا استئذانٍ مكتوب في الهواء، تترك خلفها النسخة المنضبطة من نفسها على عتبة الفناء. حين تجلس إلى جواره على الرمل، لا تمدّ يدًا إلى كتفه ولا تسأله السؤال السهل: «كيفك؟»؛ تعرف أنّه درّب نفسه على نجاةٍ سريعة من هذا الباب. بدل ذلك، تدع بيتين ينسلان بهدوء من ذاكرتها إلى الفضاء الفاصل بينهما؛ أبياتًا من معلّقةٍ قديمة عن عاشقَيْن ظُنَّ بهما السوء، فافترقا تحت ثقل الرَّيب، ثم عاد كلٌّ منهما إلى الآخر بعد أن «تبيَّن الصادق من المتوهَّم». تأتي القافية رخيمة، منخفضةً بما يكفي لتختلط بصفير الريح على حافّة الكثيب، كما لو أنّ القصيدة هي التي وجدته، لا هي.
تهبط القصيدة في الموضع الذي لا تبلغه براهينه؛ في مسافةٍ ضيّقةٍ بين صدغيه، حيث لا تصل حواشيه ولا مقدّمات كتبه. حين يتكلّم أخيرًا، تخرج الجمل متقطّعة، أقرب إلى تحليلٍ متعثّر منها إلى اعتراف: عن خوفٍ يتنكّر في هيئة مبدأ، عن انسحابٍ قديمٍ كان يراه يومًا «الخيار الأخلاقي الوحيد»، عن رعبه من أن يعود، مرّةً أخرى، ذلك الرجل الذي يخلع نفسه من المشهد لحظةَ تطلب منه المحبّة مخاطرةً لا تُقاس ولا تُسوَّغ.
ينتظر التوبيخ، أو على الأقلّ إعادة الصياغة العلاجية الأنيقة التي صارت أُسلوب زهرة المألوف: استعارةٌ مطمئنة، تمرينُ تنفّس، جملةٌ عن «إعادة كتابة السرديّة». لا تأتي أيٌّ من ذلك. تميل سميرة برأسها نحو النوافذ المضاءة في القاعة التي تركاها، ثم تعود بنظرها إليه، وتقول فحسب، بصوتٍ هادئٍ لا يحمل نبرة إنقاذ ولا ادّعاء فهمٍ كامل:
«ما هربت. لا من حكايتهم… ولا من حكايتي. بعدك هون.»
تتسلّل البساطة إلى صدره كاضطرابٍ أعمق من أيّ مقالة؛ تقترح، من دون تنظير، أنّ «جبر الخاطر» قد يُقاس بعدد الأمسيات التي يبقى فيها المرء حاضرًا، لا بعدد العهود التي يكتبها عن بُعد. في صمت اللحظات التالية، يدرك ـ وإن لم يعترف بعد ـ أنّه أضاف، هذه المرّة، سطرًا صغيرًا جديدًا إلى تعريفه القديم للكرامة: كرامةُ من يظلّ، رغم خوفه، جالسًا إلى جوار من يمكن أن يؤذيه ويؤذَيه… ولا يقوم.
في الأسابيع التالية، يتغيّر نسق حياته بزياداتٍ صغيرة لا ترصدها جداول القسم، لكنّ القريبين منه يحسّون بها كما يُحَسُّ بتبدّل نسيم الفجر. في الليالي التي تعقد فيها الأرقُ أفكاره، يسبق طرقٌ خفيف صينيّة قهوةٍ بالهال ونصف ساعةٍ صامتة على شرفته مع سميرة، يصغيان فيها لخرير النافورة بدل ضجيج رأسه. وحين تستعر مفاوضات خطوبة أختها الصغرى في اليوم نفسه الذي يداهمه فيه موعد فصلٍ متأخّر، يضع قلمه جانبًا في منتصف حاشيةٍ واعدة، ويقضي بعد الظهر على أريكة المكتب، يجيب بصوتٍ منخفض عن أسئلة الفتاة حول الحبّ والاختيار وخوف الإخفاق. كلُّ مرّةٍ يقرّر فيها أن يبقى حيث كان سينسحب تتحوّل إلى حاشيةٍ من نوعٍ آخر؛ هوامش حيّة يتعلّم فيها أن المحبّة ليست فاجعةً يجب التحصّن ضدّها، بل ثقلاً لطيفًا يثبّت الخطى، وتهيئةً صبورة لما سيأتي لاحقًا من مزجٍ أكثر علنيّة بين العمل والعافية، ذلك المزج الذي ستتولّى زهرة ومحمود مساعدتهما على صياغته.
الموسم الأوّل من التقويم الجديد يشبه تجربةً ميدانيّة أُقيمت على عجلٍ ثم أُبقيت حيّةً بشريطٍ لاصقٍ وشيءٍ من العناد الشخصي. الجداول الملوّنة المعلّقة في مكتب سميرة تقول «تكامل البرامج»، لكنّ إحساس رفاح في اليوم الافتتاحيّ كان أقرب إلى أنّه نُقل من حرم الجامعة إلى مسرح تجريبيّ بلا بروفة كافية.
ينهي محاضرته عن بلاغة الغزل في العصر العبّاسي على طريقته المعتادة: استدلالات متدرّجة، إحالات متقنة، خاتمة تحكم الإغلاق على الموضوع كما تُحكم بوّابةُ حصنٍ عند المغيب. يلمح، من طرف المنصّة، زهرة جالسة بزاويتها المألوفة؛ دفترها مفتوح، القلم بين أصابعها، رأسها مائل قليلاً في تلك الحركة التي صار يربطها عنده بكلمةٍ واحدة مزعجة: «تدخّل».
حين ترفع يدها برفقٍ نحو الميكروفون وتقول، بنبرةٍ مرحةٍ لا تخفي جديّتها: «دكتور رفاح، ما تنسانا من إغلاق التنفّس»، يشعر بأصابعه تشدّ على أوراقه كأنّها حبل نجاةٍ يُسحب منه. تمرّ لحظة توتّرٍ قصيرة بينهما، تُقاس بعدد النظرات التي تتقاطع ولا تُفسَّر؛ في عينيها رجاء مهنّيّ صافٍ، وفي عينيه سؤالٌ مكتوم: «هل كان لا بدّ أن تذكّريني أمام الجميع؟»
يعود إلى النصّ كمن يبحث بسرعة عن حاشيةٍ يستتر بها. يختار بيتًا أخيرًا من البحتري عن «سكون القلب بعد اضطرابه»، يقرأه بصوتٍ أهدأ ممّا قصده، ثم يتلعثم للحظةٍ وهو ينتقل من بحر الكامل إلى عدّ الأنفاس.
«حسنًا… ثلاث شهيقات… بهدوء. ندخل من الأنف… نحبس ثانية… نخرج مع زفيرٍ طويل.» الجملة عنده أشبه بتعليق توضيحيّ لا بإرشادٍ جسديّ؛ فيحاول أن يتدارك الأمر، يضيف ـ كما سمع زهرة تفعل مرارًا ـ «ونراقب أين يستقرّ النفس… في الصدر؟ في البطن؟ فقط لاحِظوا.»
يتوقّع أن يغتنم الحضورُ الفرصةَ لجمع أوراقهم، أن تُسمَع خشخشةُ الحقائب فوق أيّ صوتٍ آخر. لكنّ القاعة، على غير عادتها، لا تتحرّك. الصفّ الأوّل من الباحثين الشابّين يغلق الحواسيب ببطء، لا عن ضجرٍ بل كأنّهم يطفئون مصدر ضوءٍ زائدًا عن الحاجة. امرأةٌ في منتصف القاعة، يرتجف كتفها قليلاً، تضع يدًا على صدرها كمن يتأكّد أنّه ما زال هناك متّسع. أحد الأطبّاء الزائرين، الذي كان قبل دقائق يعترض بحماسٍ على قراءةٍ رومنسيّةٍ لمطلع قصيدة، يغمض عينيه طاعةً لمفردات التمرين، فيسكن جداله كلّه في خطّ أنفاسه.
رفاح، الذي درّب عينيه طوال حياته على رصد الحركة: حركة الدليل بين الصفحات، حركة القفز من شاهدٍ إلى آخر، يجد نفسه الآن يراقب «لا حركة» القاعة. الأكتاف تهبط نصف درجة، الأيدي تسترخي فوق الدفاتر، والنظرات التي كانت مشحوذةً على الشاشات تتبعُ، بلا اتّفاقٍ مسبق، إيقاع الدخول والخروج.
عندما يرفع رأسه أخيرًا من قصاصته الأخيرة، لا يرى اللامبالاة المتوقّعة ولا استعجال الهروب إلى القهوة التالية، بل وجوهًا خُفّفت عنها ـ بقدرٍ ما ـ ثِقلُ يومٍ طويل. عينان في الصفّ الثاني تلمعان برطوبةٍ غير معقولةٍ بالنسبة إلى ثلاث زفراتٍ فقط. يلتقي بنظرة سميرة عند الباب الخلفيّ؛ كانت تراقب المشهد من ظلّ العمود، وفي ابتسامتها نصف سخريةٍ ونصف امتنان، كأنّها تقول له: «شُفت؟ الدنيا ما خربت.»
شيءٌ صغير في صدره يتحرّك بعكس ما اعتاده؛ ليس وخز الذنب الذي يعرفه جيّدًا ولا ضيق الغضب من أن يُفرَض عليه «أسلوبٌ» لا يختاره، بل ارتخاءٌ غريب في حبلٍ ظلّ يشدّه حول نفسه سنوات. يدرك ـ وهو يطوي أوراقه بحركةٍ أبطأ قليلاً من المعتاد ـ أنّه، للمرة الأولى منذ زمنٍ بعيد، كان ختمُ محاضرته ليس بإحكام الإغلاق، بل بفتح نافذةٍ صغيرةٍ للهواء. وفي تلك الفسحة الضيّقة بين البيت الأخير والزفير الثالث، مرَّ به خاطرٌ عابرٌ مزعج بقدر ما هو مريح: لعلّ القصيدة، أحيانًا، لا تكتمل إلا إذا تُرك السطر الأخير معلّقًا في صدر السامع، لا في الهامش.
في الأسابيع التالية، تنقلب مقاومته إلى مراجعةٍ منهجيّة. بعد جلسةٍ بعينها يقرّ فيها جرّاحٌ زائر، بصوتٍ مبحوح، أنّه لم ينم ليلةً كاملة منذ خمس سنوات، يجد رفاح نفسه حبيس المكتبة إلى ما بعد العشاء، يعيد تفكيك نهايات محاضراته كما لو كانت أبياتًا مختلّة الوزن. يكتشف أنّ الخاتمة التي كان يحرص على إحكامها تصلح، في سياقٍ آخر، أن تكون بابًا صغيرًا: صورةٌ أخيرة للقصيدة تنفتح لا على استنتاجٍ نقديّ، بل على وقفةِ صمتٍ مشترَك، أو إغماضةِ عينين مع شهيقٍ خفيف، أو إشارةٍ جسديّة بسيطة تستطيع زهرة أن تبني فوقها.
يبدآن، من غير إعلانٍ رسميّ، عادةَ اللقاء على طاولةٍ جانبيّة في ركن الفناء بعد الفجر؛ أبخرة القهوة تتصاعد بينهما فيما يقارنان الملاحظات: أيُّ استعارةٍ حرّكت قلقًا قديمًا عند المشاركين، وأيُّ صورةٍ أنزلت الكتف عن أذنه. هوامشُهما على المخطّطات المشتركة تتحوّل شيئًا فشيئًا إلى حوارٍ صريح حول حدود التحمّل ومعنى الرأفة بالنفس؛ أسئلةٌ عن النقطة التي يصبح فيها «الوفاء» استنزافًا، وعن كيفيّة تعليم التراجع بلا إحساسٍ بالخذلان. تلك المداولات المدوَّنة، بين أقواسٍ حمراء وزرقاء، ستتبلور لاحقًا في هيكل «الوفاء بلا فناء» الذي يقدّمونه خارج أسوار القصر، كمنهجٍ لا يكتفي بإنقاذ الأفراد من الاحتراق، بل يحاول إعادة تعريف البطولة نفسها.
مع إحساسه بأنّ الموجة بدأت تتكوّن، يتخلّى محمود شيئًا فشيئًا عن موقع المتفرّج المسلّي ليتقدّم إلى مقعد الشريك في التصميم. يقترح برنامجًا جديدًا: قبيل الغروب، حين يرقّ الحرّ وتتحوّل الكثبان إلى نحاسٍ خفيف، يخرج معه النزلاء في مسيرٍ بطيء على الدروب المعلَّمة، يتقدّمهم مصباحٌ صغير وسماعةٌ محمولة تبثّ مقاطع قصيرة: رفاح يفكّك نسيج بيتٍ من الشعر، يلمس طبقاته الأخلاقيّة، ثمّ سميرة تقدّم العاشق أو الزاهد الكامن وراءه، بلمحاتٍ تاريخيّة تفتح أبوابًا صامتة في رؤوس السامعين.
في إحدى الأمسيات، عند منتصف الرَّابية، تتوقّف المجموعة. ينقطع التسجيل فجأة، فلا يبقى سوى صفير الريح وصوت الأنفاس. يهمس مستشارٌ جاء من دبي، نصف مازح: «حاسّ كأنّنا نمشي جوّا هامشٍ في كتاب.» يلتقط محمود ـ قبل أن يشيح بنظره بأدبٍ متصنّع ـ لمعةَ دهشةٍ صبيانيّة في ابتسامة رفاح المأخوذة بالتعبير؛ ابتسامةُ من اعتاد أن يحيا في الهوامش، فاكتشف فجأةً أنّ الهامش يمكن أن يُمشى فيه جماعةً، لا أن يُقرأ وحيدًا فحسب.
تتدرّب أيّامهم، شيئًا فشيئًا، على إيقاعٍ يمكن التنبّؤ به من شدّة تكراره، دون أن يفقد دهشته، حتى إنّ النزلاء الأكثر تشكّكًا يجدون أنفسهم منجذبين إليه. صبيحاتهم تستقرّ على صناعةٍ هادئة: رفاح على مكتبٍ مضاءٍ بشرقٍ ثابت، ينحني فوق مخطوطاتٍ ومسودّاتٍ يتكاثر حبرها بقدر ما يقلّ ضجيج هاتفه المنفصل عمدًا عن الشبكة؛ سميرة قبالته قليلاً، بين سبّورةٍ بيضاء تتزاحم عليها أسماء الإقامات المقبلة وخيطَ ميزانيّةٍ دقيقًا تحرسه بأرقامٍ حمراء، تكتب وتمسح وهي تملي على مساعدتها رسائلَ إلى مجلس الأمناء؛ زهرة في الغرفة الجانبيّة الصغيرة التي تحوّلت، مع الوقت، إلى عيادةٍ وركن اعتراف، تقرأ مذكّرات جلسات اليوم السابق، ترسم في هوامشها أسهُمًا بين بيتِ شعرٍ وجملةِ مريض؛ ومحمود في الممرّ الخارجي، يذرع ظلّ الجدار جيئةً وذهابًا، في أذنه سمّاعة، يساوم سائقًا على مواعيد الوصول، ويطمئن حرفيًّا من القرية إلى أنّ موقد القهوة البدوية لن يخونهم ليلة زيارة المانحين.
مع انحناء الشمس نحو الغرب، تعيدهم الساعة ذاتها تقريبًا إلى القاعة المشتركة للجلسات المزدوجة؛ يدخل رفاح بنصوصه، تدخل زهرة بأسئلتها، تدخل سميرة بجدولها، ويترك محمود الباب مواربًا لمن يتأخّر عن قناعته. تحليل القصيدة الطويلة لا يُترَك هذه المرّة عند حدود البحر والقافية؛ يتسرّب ـ بتعمّدٍ تعلّموه جميعًا ـ إلى كلامٍ صريح عن الاحتراق الوظيفي، عن الحدود الشخصيّة التي لا تظهر في السِيَر الذاتية، وعن نصوصِ «التضحية» الموروثة التي يحفظها الجيل الجديد عن ظهر قلبٍ دون أن يجرؤ على مناقشتها. مساءً، حين تُضاء الفوانيس في الفناء وتتمدّد الظلال تحت النخيل، يتكفّل محمود بترحيل الجمع إلى الخارج بسلاسة: يطفئ شاشة العرض، يفتح أبواب القاعة على نسيمٍ بارد، ويحوّل الخيوط العلميّة إلى حكاياتٍ تُروى تحت أوّل نجمٍ يلمع، ثم يدعو النزلاء ألّا يردّوا بنقدٍ ولا بأسئلةٍ ثقيلة، بل بذكرى شخصيّة، أو عهدٍ صغير يقطعونه سرًّا أو جهرًا مع أنفسهم، فيصير المساء، بغير إعلان، سِفرًا إضافيًّا في كتاب إقامتهم.
مع تكرار هذا النسق المندمج وتصفّيه، يتغيّر وجه القصر في العلن كما في الخفاء. تنتشر حكاياتُ مكانٍ يمكن أن ينتقل فيه النزيل، في نهارٍ واحد، من تفكيك هامشٍ مغبرّ في مخطوطة، إلى تسمية ثمن إرهاقه، إلى تتبّع ذيول الشُّهب فوق الكثبان فيما ينساب من مكبّرٍ صغير رثاءٌ جاهليّ عن عشقٍ لم يكتمل. يتزايد الإقبال، نعم، لكنّ شكلًا أعمق من الانتماء ينمو بصمت: نزلاء سابقون يكتبون عن ساعاتِ عملٍ أُعيد ضبطها، وتوقّعاتٍ فاوضوا عليها من جديد، وزيجاتٍ لم تُنقَذ بالضرورة من الانهيار، بل أُعيد التفاهم حول معنى البذل فيها. مجلس الأمناء، الذي تحفّظ أوّل الأمر على «لغة العلاج النفسي» وهي تتسلّل إلى برامج البحث، يبدأ يستشهد بنموذج قصر الوفاء «المتكامل» في عرائض التمويل. ما بدأ ضفيرةً حذِرة بين البحث والاعتناء بالنفس والسياحة البيئيّة، يتحوّل إلى عمودٍ فقريّ في مقترح القصر الجديد للرعاة؛ المقترح نفسه الذي سيُرسّخ لاحقًا شراكة محمود الرسميّة واستشارة زهرة الدائمة، ويؤكّد أنّ رُوح الزاوية القديمة لم تُفقد، بل اتّسعت لتحتضن أنماطًا أخرى من الوفاء.
يتجلّى تحوّلُ موقع محمود من «شريكٍ محتمل» إلى ركنٍ ثابت في القصر أوّلًا على الورق، قبل أن ينساب إلى العلائق والهواء. عقدُ الرعاية الجديد لا يضمّ برنامجه للسياحة البيئيّة في الهامش، كما خشي غير مرّة، بل يضعه في المتن نفسه: بندٌ واضح يتحدّث عن «منهجٍ مجسَّد للصحراء»، لا كتنزّهٍ ترفيهي، بل كجزءٍ من التجربة البحثيّة والاعتنائيّة التي يقدّمها قصر الوفاء.
في مكتب سميرة، تمتدّ طاولةٌ مستطيلة تغطّي نصف الغرفة تقريبًا، تتكدّس عند طرفها الأيمن مسودّات المقترحات، وعند طرفها الأيسر فناجين القهوة وبقايا تمرٍ لم يُمدد له الوقت الكافي. تغرب الشمس خلف النافذة العالية، فيتسرّب خطٌّ برتقاليّ على الحوافّ البيضاء للأوراق. يجلس ممثّلو المجلس في صفٍّ واحد، وبينهم شيخٌ من القرية القريبة، كان قد اعترض في بدايات المشروع على «إدخال الغرباء في سكينة الصحراء»؛ يراقبه محمود من الطرف الآخر للطاولة، فيختلط في صدره شيءٌ من الترقّب بصورٍ قديمة عن مجالسَ رُفض فيها، وصفقاتٍ وُئدت قبل أن تولد.
حين يحين دور الشيخ، لا يكتفي بالتوقيع بالاسم؛ يطلب دَوَاةً صغيرة تُستخرَج على عَجَل، ثم يضغط إبهامه في الحبر، ويطبع أثره الداكن بجوار أسماء الأمناء. يلتفت إلى الحضور، نصف مازحٍ نصف مُقِرّ: «إحنا أهل القوافل من زمان، وهذا الولد رجّع لنا القوافل… بس بسيّارات مكيّفة.» تضحك الغرفة، ويميل أحد الأعضاء ليدوّن، بنبرةٍ إداريّة متشدّقة: «modern caravans» في الهامش الإنجليزيّ للعقد. بعد الجلسة، في الفناء، يعيد الشيخ العبارة بالعربيّة أمام رجال القبيلة وبعض الموظّفين، وهو يربّت على كتف محمود كأنّه يعترف به رسميًّا أمام الملأ: «قوافلك محترمة، وتجيب الرزق من غير ما تكسّر حياء المكان.»
هذا الثناء العلنيّ، الخارج من فم من كان أشدّ خصومه حذرًا، يبدّل شيئًا عميقًا في داخل محمود. كان يميل، في الأشهر الأولى، إلى الاختباء خلف خفّة الظلّ، فيُبالغ في السخرية من «آلة العمل» التي يسكنها رفاح، كأنّما يُخفي بذلك شكّه في أنّ القصر سيقبل، أصلًا، بآلته هو. الآن، ومع تسرّب الاعتراف إلى لغة العقود وإلى حكايات الفناء، تخفّ حدّة تلك النبرة. لا يتراجع عن المزاح، لكنّ طابعه يتغيّر: بدل أن يغمز لرفاح أمام النزلاء بأنّه «لوحة إرشادات تمشي على قدمين»، يكتفي بأن يربّت على كتفه عند باب المكتبة ويقول: «اليوم دوري آخذك برا الهامش، يا أستاذ. ساعة واحدة بس، والباقي لك.»
تخرج كلماته من مقام الأخ الذي يثق في مكانه، لا من مقام الشريك المتوتّر الذي يخشى أن يسحب حضورُ الآخر الضوءَ من فوق مشروعه. في المسيرات المسائيّة، حين يتأخّر رفاح في مكتبه، لا يعود محمود يقتحم عليه الباب بنصف تندّرٍ نصف اتهام، بل يطلّ برأسه بهدوءٍ لاهٍ: «عندي مجموعة صغيرة الليلة، ينقصنا واحد يحفظ بيتين عن الليل. تعال، خَلِّ القلم يشتاق لك شويّة.» السخرية القديمة من «آلةٍ بلا متعة» تنقلب دعابةً رقيقة تدعو، دون تعيير، إلى قسطٍ من الراحة؛ غمزاتُ الشكّ في قدرة رفاح على التبدّل تتوارى لصالح يقينٍ جديد بأنّ القصر نفسه صار يتّسع لنسخةٍ أقلّ قسوة من هذا العالِم، ولنسخةٍ أكثر رسوخًا من محمود التاجر الشاعر في آنٍ واحد.
يتجلّى هذا الاطمئنان الجديد في مساء تجربةٍ أولى لـ«ليلة الصحراء للباحث» صمّمها محمود خصّيصًا للمانحين الزائرين. يقتلع رفاح من أمام مكتبه اقتلاعًا، لا بوعدِ «برنامجٍ مهمّ»، بل بوعدين أبسط: نجومٌ لا تُرى من عواصم الزجاج، وصمتٌ أندر من أيّ مخطوط. بعد العشاء الخفيف عند الحلقة المنخفضة من الخيام، وبين قهوةٍ تُصبّ على مهل وموقد جمرٍ يتوهّج على استحياء، يبدأ المشهد بتوقّعٍ محسوب، ثم ينزلق إلى شيءٍ أشبه بسهرات البيوت.
يتبادلان الأدوار من غير اتّفاقٍ مُسبق: محمود يفتح الكلام على مشروعاتٍ مشتركة، يُلقيها كأنّها مزاح ـ «نحتاج واحد مثلك يكون ضمير القصر في منشورات التسويق، قبل لا نزِلّ ونكتب شعارات فاضية» ـ فيردّ رفاح، للمرّة الأولى، بجملةٍ لا تنتهي باعتذارٍ عن ضيق وقته، بل بسردٍ مرتّب لأفكار فصلٍ جديد يعرضها على مسمع أخٍ لا على مسمعِ مانح. يسأله عن صحّة والديه، عن أخبار القرية، ولا يختبئ هذه المرّة خلف أسئلةٍ أكاديميّة.
ينتقل هذا الإيقاع العائليّ إلى العيون قبل أن يصل إلى الشائعات. الموظّفون الذين كانوا يقرأون كلّ نظرةٍ متبادَلة في القاعة المشتركة كأنّها فصلٌ إضافيّ في «مثلّث» محتمل، يلتقطون الآن إشارةً مغايرة: حرارةُ الأخوّة تغلب على شرر المنافسة، والهواء نفسه يبدو أقلّ قابليّة للاشتعال.
مسار زهرة يتّضح في الموازاة، ولكن على إيقاعٍ مختلف. السلسلة التجريبيّة التي طوّرتها مع رفاح عن الاحتراق، والوفاء، وأخلاقيّات القراءة تخرج من حدود القصر بسرعةٍ لم يتوقّعها أحد؛ تُتداوَل التسجيلات في مجموعات الباحثين، تتسلّل إلى مجموعات «الواتساب» الجامعيّة، وتصلها رسائل مقتضبة من أساتذةٍ محافظين: «استفدنا… نحتاج نسخة مُكيَّفة لطلبتنا.» يتكاثر الطلب، فتغدو مضطرّة إلى جدولٍ موسميّ يعود بها دوريًّا إلى الصحراء.
في اجتماعٍ يبدأ كتقييمٍ روتينيّ وينتهي بمحضرٍ رسميّ ومصافحاتٍ متأنّية، يعرض عليها المجلس صفة «مستشارة الرفاه والممارسة التأمّليّة» للأفواج المقبلة. تقبل بابتسامةٍ ممضونة: جزءٌ منها مهنيّ صارم، وجزءٌ منها فرحٌ طفوليّ بأنّ دورها صار مكرَّسًا في بنية المكان، لا كـ«بديلٍ عاطفيّ» لأحد، بل كصاحبة مسارٍ موازٍ يسند ولا ينازع.
في إحدى الأمسيات، بعد جلسةٍ مكتظّة على السطح، تبقى زهرة مع سميرة ورفاح فيما يتسرّب الضيوف إلى الدرج المعتم. تراقب انسجامهما العمليّ: كيف تتوزّع الأدوار من دون تشاورٍ مسموع، وكيف يكفي أن ترفع سميرة حاجبًا حتى يكون رفاح قد جمع الأكواب وعدّل الوسائد، فيسبق الطلبَ امتثالٌ رائق لا يحمل أثرًا للخضوع أو الاستعراض. في ذلك الوهج الخافت بين الفوانيس والنجوم، تدرك زهرة أنّ آخر خيطٍ من «وماذا لو…؟» في داخلها انحلّ بهدوء، لا بمرارةٍ ولا بخسارة، بل بقبولٍ صريح بأنّ القصّة كتبت نفسها على نحوٍ آخر. لاحقًا، في ورشاتها خارج الصحراء، تجد نفسها تستشهد بشراكتهما كحالةٍ حيّة لـ«الاعتماد المتبادل الصحّي»: مهنيّان لامعان تعلّما أن يظلاّ أوفياء لنداءاتهما من غير أن يمحوا حاجتهما الصادقة أحدهما إلى الآخر. تسافر الحكاية أمامهما، تتشكّل في ألسنة الحاضرين لا كهمسِ فضيحة، بل كدراسة حالةٍ يتداولها الأساتذة والطلاب عن إمكان التوازن بين العمل والقلب.
تتسرّب أخبار هذه التحوّلات إلى البيوت التي كانت تراقب القصر بريبةٍ مشوبة بالفضول. أخت سميرة الصغرى، وقد التقطت مفردات العقود والحدود من جلسات الصحراء، تعود بها إلى غرفة الجلوس في المدينة. في نقاشٍ مشدود مع العمّات والأخوال، تطالب بخِطبةٍ تؤجَّل رسميّاتها إلى ما بعد تخرّجها، وباختيار شريكٍ لا يُعامِل عملها كهوايةٍ مؤقّتة. المفاجأة ليست في اعتراض الكبار بل في موقف الشابّ نفسه، إذ يكرّر بهدوء شروطها، ويذكر «نماذج من القصر» لنساءٍ حُفظ لهنّ جهدُهُنّ. بعد أشهر، حين تُعلَن الخطبة رسميًّا أثناء زيارةٍ جماعيّةٍ لـ«قصر الوفاء»، يبدو جمعُ الحلفاء والخصوم السابقين ـ محمود، زهرة، بعض الموظّفين وشيوخ العشيرة ـ أقلّ شبهًا بدوّامة مصالح وأكثر قربًا من كوكبةٍ مستقرّة، لكلّ نجمٍ فيها موضعٌ مُعترَف به في أفق الصحراء الآخذ في الاتّساع.
اجتماع المجلس المعاد الانعقاد هذه المرّة لا يجري في قاعةٍ مكيّفة ذات طاولاتٍ لامعة، بل على شاشةٍ تهتزّ فوق مكتبٍ خشبيّ في مبنى الإدارة المنخفض. الاتصال من مسقط متقطّع؛ الوجوه في المربّعات تبدو أحيانًا كلوحاتٍ منقّطة أكثر منها أعضاء مجلس إدارة. يتداخل صوت المؤذّن البعيد مع طنين المروحة وسعال أحد الأعضاء من خلف الميكروفون المفتوح. ومع ذلك، فإن ما يخرج من هذا التشويش أقلّ ضبابيّةً بكثير ممّا اعتادته سميرة.
لأوّل مرّة، لا تنتهي الجلسة بعباراتٍ مطّاطة من نوع «سننظر في الأمر» و«توصيات مهمّة للمستقبل». تُقرأ البنود واحدةً واحدة: مخرجات البحث تُقاس، نعم، لكن إلى جوارها أعمدةٌ جديدة تحمل عناوين مثل «مؤشّرات العافية» و«رضا المقيمين» و«استمراريّة الممارسة التأمّليّة». يسمّي أحد الأعضاء، بتحفّظٍ لا يخفي اعتزازه، هذا الترتيب «نموذج القصر»، ويقترحه بصفته مشروعًا تجريبيًّا يُحتذى به في الإقامات المقبلة داخل الشبكة كلّها.
المدقّق القانوني يطلب إعادة قراءة فقرة العلاقات «غير المهنيّة»؛ تُضاف جملةٌ حذرة عن «الاعتراف بالواقع الإنساني» مع التزام «أقصى درجات اللياقة والثقة». يمرّ التعديل بصمتٍ وجيز، كأنّ الجميع متّفقون على أنّ بعض الأشياء يُكتفى بالتلميح إليها.
حين ينقطع الاتصال أخيرًا على تجمّد وجه رئيس المجلس في منتصف ابتسامة، يخيّم على المكتب صمتٌ كثيف. سميرة لا تتحرّك لثوانٍ، كأنّ أذنها لا تزال معلّقة بالسماعة. ثم تنهض، تلتقط الورقة التي وصل بها البريد الإلكتروني الرسمي، وتتوجّه إلى الطابعة. هدير الجهاز الصغير في الغرفة الضيّقة يبدو فجأةً ذا طابعٍ طقسيّ؛ أحرفُ الترويسة والشعار وهي تنسحب على الورق تحمل وزن سنواتٍ من الدفاع، والتفاوض، وشرح أن «الرفاه» ليس ترفًا غربيًّا مستورَدًا.
تستلم الصفحة الدافئة من فم الآلة، تمرّر أصابعها على توقيعات الأعضاء، ثم تبتسم ابتسامةً غير مخصّصة لأحد. محمود، الذي كان يتظاهر بترتيب ملفاتٍ في الزاوية، يقترب بلا دعوة، يرفع هاتفه: «لحظة تاريخيّة، لازم نوثّقها»، يقول بنبرةٍ نصف مازحة. تردّ بخجلٍ خفيف: «بدون وجهي على الأقل.» لا يطيعها تمامًا؛ يلتقط صورةٍ سريعة لها وهي تمسك الرسالة، الحروف البارزة لكلمة «تجديد» ظاهرة في الأعلى، وملامحها نصف محجوبة بحافة الورقة.
«هذا البوست،» يعلن وهو يتفحّص اللقطة، «رح يكون: قبل وبعد. قبل لما كانوا يفكّرون القصر نزوة شاعرية، وبعد لما صار نموذج عمل محترم. المموّلين يحبّون القصص اللي فيها منحنى تطوّر.» ترفع حاجبًا: «بس لا تحوّلنا لمسلسل درامي، يا محمود.» يضحك: «دراما محسوبة، يا أستاذة. نحتاجها عشان العقود القادمة.»
تحمل الورقة إلى لوحة الإعلانات الداخليّة، تثبّتها بدبّوسٍ صغير إلى جانب صورٍ قديمة للزوايا الأولى، وتسمح لنفسها، لأوّل مرّة منذ شهور، أن تُسند ظهرها إلى الجدار وتغلق عينيها لحظةً كاملة. في الخارج، يواصل النافورة خريره المعتاد، لكنّها تسمعه اليوم كموسيقى افتتاحيّة لفصلٍ جديد، كُتب هذه المرّة بشروطٍ ساهمت هي في صياغتها، لا كمجرّد حارسةٍ لقرارات الآخرين.
في غرفته المطِلّة على خطٍّ من الكثبان يشتعل برتقاليًّا في الغروب، يجلس رفاح إلى المكتب الضيّق، أمامه ورقتان مطبوعتان بعناية: إشعار تجديد من مؤسّسة القصر، وعرضٌ رسميّ ممهور بشعار جامعةٍ خليجيّة مرموقة، يعده بـ«استقرار وظيفيّ»، و«مكانة أكاديميّة»، و«نصابٍ تدريسيٍّ كامل» في قلب المدينة. يقرأ الموادّ مرّتين، بعين المدرّس الذي تعوّد أن يفتّش عن الفخّ في الحاشية لا في العنوان العريض، ثم يترك الورقتين جانبًا ويختبر في ذهنه حياةً تُقاس بالممرّات المكيّفة، واجتماعات الأقسام، وضوء النيون المنعكس على زجاج المكاتب بدل وهج الشمس على الحجر.
يحاول أن يتخيّل نفسه بعيدًا عن مكتبة القصر، عن صمت الفجر حين يصبح أوّل من يفتح بابها الخشبيّ. ماذا يحدث للفصل الأخير الذي بدأ يكتبه هنا لو نُقل فجأةً إلى شقّةٍ عالية فوق شارعٍ مزدحم؟ هل يمكن لأيّ «مختبر كتابة» مدينيّ أن يعوّض ما تعلّمه من هذا السكون ومن تلك المرأة التي تعلّمت أن تقرأ سطوره قبل أن يسلّمها الورق؟
ينبّهُهُ صوتُ الحاسوب: بريدٌ جديد من سميرة، عنوانه سطران فحسب: «سوّيناها.» لا شرح، لا ملاحق. يضغط الرسالة، فيجد الصورة التي التقطها محمود: سميرة تمسك قرار التجديد، نصف ملامحها مخفيٌّ وراء الورقة، لكنّ النصف الظاهر يكفي؛ ذلك الالتواء الخفيف في الفم بين تعب الانتصار وخوف ما بعده.
بإيماءةٍ شبه آليّة، يمدّ يده إلى عرض الجامعة مرّةً أخرى. يقرأ الفقرة التي تربطه ثلاث سنواتٍ متواصلة بالمدينة، بلا فسحةٍ تُذكَر. أنفاسه تضيق لحظة، كأنّ الكلمات تحوّلت إلى جدارٍ بلا نوافذ. ثم يعود إلى شاشة الحاسوب، يفتح ملفًّا جديدًا، يكتب في أعلاه: «ردٌّ على العرض».
يصوغ عباراته بالعربية أوّلًا ثم بالإنجليزيّة، وهو يوازن كلّ جملة كما يوازن بيتَ شعرٍ معقود القافية: قبولٌ مبدئيّ، نعم، لكن ضمن صيغة «أستاذ زائر»، على فترات، تُبنى حول إقاماتٍ بحثيّةٍ متكرّرة في قصر الوفاء. يذكر «طبيعة مشروعه العلميّ المرتبط بأرشيف القصر»، و«أهمّيّة الاستمرار في الإشراف على برنامج الإقامات هناك»، ويقترح تقويمًا دراسيًّا يُقسَّم بين المحاضرات في المدينة والفصول المكثّفة في الصحراء.
يتوقّف لحظة عند جملة «anchored at Qasr Al-Wafa»، يبتسم في نفسه: منذ متى صار المكان «مرساته» هو، لا «منفاه المؤقّت»؟ يضيف سطرًا أخيرًا عن «فرصةٍ رائدة لبناء جسرٍ بين الحرم الجامعيّ والفضاء الصحراويّ للإبداع»، ثم يقرأ الرسالة كاملة، يجرّدها من أيّ نزعة اعترافٍ شخصيّ، ويترك فيها ما يكفي من الحزم العلميّ ليقنع لجنة التعيينات أنّ هذا الترتيب ليس نزوة عاشقٍ للرمل، بل قرارُ باحثٍ يعرف أين ينبض عمله.
بضغطة «إرسال»، يسمع طقطقة خفيفة في صدره تشبه استقرار حجرٍ في مكانه الصحيح داخل بناءٍ قديم. ينهض، يمشي إلى النافذة الضيّقة، يفتحها قليلًا فيدخل هواء المساء محمّلًا برائحة الغبار المبرد. يلمح من بعيد ظلال شخصين يعبران الفناء نحو المكتبة، أحدهما يلوّح بكوبين من القهوة. يعرف المشية، ويعرف أنّ طريقه، على الأقل في هذا الفصل من حياته، لم يعد يقود بعيدًا عن هذا الخطّ الرفيع بين الحجر والرمل، بل يعود إليه مرّةً بعد مرّة، باختياره هذه المرّة لا هربًا ولا عقابًا، بل كمقامٍ يُبنى عليه شيء يشبه البيت.
في وقتٍ لاحقٍ من ذلك الأسبوع، احتشد الإخوة الثلاثة حول شاشة مكتب سميرة الصغيرة، يتقافز انعكاسُ الخلايا الحمراء والخضراء في عيونهم كأنّها إشاراتُ مرورٍ لمستقبلٍ قيد التصميم. يشير محمود إلى خانة تكاليف تحسين سكن الموظّفين الجدد، يعلّق بنبرةٍ عملية عن ضرورة «إغراء الكفاءات» بمساحةٍ لائقة للنوم لا «زنزانة منامية». تهزّ رأسها موافقة، تنقر على لوحة المفاتيح، ثم تنزلق بعجلة الفأرة إلى سطرٍ جديد، متواضع في وسط الجدول الكثيف: «جناح إقامة طويلة لباحث مقيم (مع خيار عائلي)». لا يعلّق أحد على الصياغة؛ يتبادل محمود وأختُه نظرةً سريعة ويتظاهران بانشغالٍ بالأرقام. يطلق صفيرًا خافتًا وهو يحسب في ذهنه كيف يمكن لحزم شركته السياحيّة أن تُسوِّق «إقامات ثقافيّة ممتدّة»، بينما تعيد سميرة توزيع الأرقام بهدوء، تحذف هنا بندَ ضيافةٍ مبالغًا فيها، وتقلّص هناك ميزانيّة زخارفٍ غير ضروريّة، لتجعل الإضافة قابلةً للتنفيذ دون أن تستنفر حاسّة الارتياب لدى أعضاء المجلس أو تثير أسئلةً أكثر مباشرةً في البيت.
في الأمسيات، صار رفاح وسميرة يدوران دوراتٍ أبطأ في الفناء وعلى حوافّ مسارات الكثبان، حديثهما ينزلق من البرامج الجارية إلى افتراضاتٍ عمليّة. هل يمكنهما احتمال شقّةٍ صغيرة في مسقط قرب الجامعة، على أن يصير القصر «بيتًا ثانيًا» في فترات الإجازات الطويلة؟ أم الأجدر أن تُرمَّم إحدى الخلايا الحجريّة القديمة جوار المكتبة إلى جناحٍ أوسع، مضيء، بمطبخٍ صغير وشرفةٍ تطلّ على الرمل؟ يتحدّثان عن خزّانات الماء والعزل الحراريّ، تصاريح الإقامة والتقويم الأكاديميّ، عن أيّهما أسهل لعائلةٍ تزور أهلها في المدينة ثم تعود إلى الصحراء. شيئًا فشيئًا، يتحوّل ما بدأ كتمارين على الاحتمال إلى نبرة تخطيطٍ أوّل، متّزنةٍ أكثر من أن تُسمّى أحلامًا، وحميميّةٍ أكثر من أن تُسجَّل في أيّ محضر.
في إحدى الليالي، في مطبخ الموظّفين الضيّق الذي تفوح منه رائحة الشاي بالنعناع وخبزٍ مُعاد تسخينه، ينزلق حديثهما، على استحياء، من جداول الإقامات إلى طقوس العائلة والأطفال الذين قد يأتون أو لا يأتون. يعترف رفاح، وهو يدوّر الملعقة في الكوب أكثر ممّا يلزم، بأنّه لم يتخيّل يومًا تربية طفلٍ خارج مدينة: رصيفٌ، مدرسةٌ، مكتبةٌ عموميّة ذات نيون بارد. ثمّ يسمع نفسه يصف، كأنّه يقرأ من نصّ وُجد فجأة، هيئةَ صغيرٍ يركض على الممرّات الحجريّة بين الفناء والمكتبة، يختبئ وراء الأعمدة ليسترق السمع إلى حلقة شعرٍ مسائيّة، يحفظ أوّل بيتٍ له تحت القوس نفسه الذي اعتاد رفاح أن يعمل تحته وحيدًا. تلتقط سميرة الخيط، تتساءل بصوتٍ نصف مازح نصف جادّ عمّا يعنيه أن يكبر ولدٌ أو بنتٌ بين رفوف الكتب وشرفة الرصد، يتعلّم أنّ الحبّ والعمل والدعاء والقصيدة يمكن أن تشترك في الفناء نفسه دون أن يطغى أحدُها على الآخر. لا يتبادلان وعودًا، ولا يحسمان أمرًا؛ تبقى الفكرة جالسةً بينهما على الطاولة، هادئةً كخطِّ أفقٍ جديد، ليست مطالبةً ولا خطّةً، بل إمكانًا يلمع ثم يستقرّ في صمتهما الراضي.
الهواء على السطح ما يزال يهتزّ بخفوتٍ بنهايات الأبيات التي تردّدت في الفناء قبل قليل، كأنّ القصائد لم تُختَم بعد بل صعدت معهم درجةً درجة. الأكواب الزجاجيّة تترك حلقاتٍ رطبة على البلاط الملس، وبخار النعناع يتلاشى ببطء، يختلط بنسيمٍ باردٍ جاء متأخّرًا من عمق الكثبان. يضع رفّاح المخطوط على الحافة الحجرية المنخفضة بين الكوبين، في الموضع نفسه الذي اعتادا الاتّكاء عليه صامتين عند انفضاض الليالي، غير أنّ الجلد هذه المرّة يلمع في ضوء الفوانيس البعيدة كشيءٍ يستعدّ لأن يُشهَد لا أن يُخفى.
قبل أن يمدّ يده لفتح الغلاف، يترك أطراف أصابعه تستقرّ عليه، كما لو كان يتأكّد من أنّ الثقل حقيقيّ: سنوات من المسودّات، من مكاتب مستأجرة في مدنٍ مزدحمة، من حافّات هوامش امتلأت بصرامةٍ دفاعيّة عن «الانضباط» و«المنهج». يتسلّل إلى ذاكرته مشهد مكتب أمّه، المصحف المفتوح إلى جوار ديوان قديم، رائحة الحبر الرخيص، ضحكتها القصيرة حين كان يصحّح لها وزن بيتٍ في مسوّدةٍ مغلوطة. كان يظنّ يومها أنّه سيكمل عنها فقط مشروعًا علميًّا منضبطًا، لا أنّه سيستأنف، دون أن يدري، نوعًا آخر من العهد.
يشعر الآن أنّ هذا الغلاف يربط مسارًا ممتدًّا من تلك الطاولة الخشبيّة في المدينة إلى هذا السطح الحجريّ، من القسم الذي قطعه على نفسه ألّا يسمح للحبّ بأن يلهيه، إلى الكلمات التي كتبها في الأسابيع الأخيرة وهو يسمع في رأسه، رغماً عنه، وقع خطوات سميرة في الممرّ، واحتكاك أوراقها بأوراقه في المكتب المشترك. يلتقط نفسًا قصيرًا، يتركه يخرج ببطء، ولا ينظر إليها بعد؛ يعرف من سكونها أنّها لن تسأله «ما هذا؟» ولن تستعجله. حضورُها الصامت إلى جواره، يدها المسترخية على حافّة الطاولة، يكفيان لتكثيف الإحساس بأنّ هذه «المكاشفة» أخطر من أيّ تلامسٍ عرضيّ.
تتحرّك شفتاه بكلماتٍ لا ينطقها؛ أبياتٌ عن «العهد» و«الوفا» كان يمرّ عليها في بحثه مرورًا تحليليًّا، تبدو الآن أقرب إلى اعترافٍ شخصيّ منه إلى مادّةٍ للنقد. يحدّق في الغلاف لحظةً أطول، كأنّ بإمكانه أن يؤجّل لحظة فتحه، أن يؤخّر النقلة من النسخة التي لا يطّلع عليها أحد إلى النصّ الذي سيتقاسمه معها، ومع هذا المكان الذي صار شريكًا ثالثًا في كلّ شيء. لا يهرب، ولا يتراجع؛ فقط يمنح نفسه ثانيةً أخيرة ليعترف بصمتٍ بأنّ ما هو مقبلٌ عليه ليس مجرّد إهداء كتاب، بل تعديلٌ دقيقٌ في البوصلة التي ظلّ يتوهّم ثباتها سنواتٍ طويلة.
حين يفتح الكتاب أخيرًا، لا يمرّ على الفهرس ولا على بدايات الفصول التي حفظ عناوينها غيبًا، بل ينقلب مباشرةً إلى الصفحة الأولى البيضاء تقريبًا، حيث لا يتحصّن النصّ بعدُ بجدار من الحواشي والاستشهادات. يواجهه خطُّه هو، أو ما يفترض أنّه خطّه: إهداءٌ لأمّه باسمها الكامل، حروفٌ منضبطة، متّزنة، أكثر هدوءًا ممّا يذكر أنّ يده كانت يوم كتبها. يمرّ عليها بعينه مرةً سريعة، كمن يمرّ على آيةٍ محفوظة لا تخونه.
تحت السطر مباشرةً، في فراغٍ كان قد قرّر طويلًا أن يبقى فارغًا، تنتظره الجملة الثانية. الحبر هنا أغمق قليلًا، الحروف أصغر، كأنّها تميل إلى داخلها في حذرٍ خفيف. يتبيّن بوضوح أثر التردّد في شكل الألف الأخيرة، وفي النقطة التي وُضعت ثم مُسحت ثم أُعيد رسمها. يشعر بانقباضٍ دقيق في حلقه، ليس خوفًا من أن تُقرأ الكلمات، بل من اعترافه بأنّه كتبها أصلًا.
يلتفت نصفَ التفاتة نحو سميرة، ثم يعيد نظره إلى الصفحة، يضع باطن كفّه على الهامش لحظةً، كأنّه يختبر حرارة الجملة، قبل أن يسحب يده ببطء، ويدير الكتاب بحيث يواجهها هي، وينحرف ظهره نحو العتمة الممتدّة فوق الرمل؛ كأنّه يقدّم الإهداء في اللحظة نفسها لها وللصحراء التي تحتضنهما. يتراجع قليلًا إلى الوراء، ليس انسحابًا بل إفساحًا للمجال، تاركًا الصفحة مكشوفة بينهما، لا يشرح ولا يعلّق، مستعدًّا لما يعنيه أن تصبح الكلمات، مرّةً أخيرة، مشاعةً خارج رأسه.
تميل سميرة قليلاً إلى الأمام، فيحتكّ طرف عباءتها بالحجر احتكاكًا خفيفًا يشبه همسًا يُستأذن به قبل الكلام. تنسحب عيناها من الاسم الأوّل إلى السطر الذي يليه، تتباطآن عند العبارة المضافة: «للصحراء وحارستها». لا تقرؤها بصوتٍ مسموع، لكن وقعها يمرّ في وجهها كما تمرّ نسمةٌ على سطح الماء؛ اتّساعٌ طفيف في الحدقة، رفّةٌ سريعة في زاوية الفم، ثم سكونٌ أعمق.
تتردّد إصبعها فوق الصفحة لحظةً، كأنّها تخشى أن تفسد، بلمسةٍ متسرّعة، توازن ما كُتب. حين تهبط أخيرًا، لا تلمس الكلمات نفسها بل الفراغ الضيّق جوارها، كأنّها تشاركها المكان دون أن تزاحمها. يتكشّف لها المعنى ببطءٍ مطمئن: أنّه لم يعد يرى هذا الموضع محطّةً عابرة في سيرته، ولا عملها «تنسيقًا» إداريًّا فحسب، بل أدخلهما معًا، المكان ومن يتولّى أمره، في الدائرة نفسها التي ظلّت أمّه وحدها تقيم فيها سنواتٍ طويلة في وعيه.
ينقبض حلقها بخفّة؛ ذلك النوع من الانقباض الذي تعرف أنّه لو تحدّثت معه فورًا لانقلب إلى مزاحٍ دفاعيّ أو سؤالٍ عمليّ عن العقود والبرامج. تختار ألّا تفعل. تسحب أنفاسًا هادئةً من نعناع الكوب الذي برد، تدخله وتخرجه كأنّها تدرّب قلبها على هذا القدر الجديد من الكرامة، على أن تُذكر لا بوصفها ملحقًا بقصّة رجلٍ أو مؤسّسة، بل بسطرٍ مستقلّ اختاره هو، عن وعي، وكتبه وهو يعلم أنّه لن يُقرَأ في صمت رأسه وحده.
لا تشكره، ولا تقول «هذا كثير». تكتفي بأن تثبّت الإبهام في مكانه لحظةً أطول، ثم ترفع نظرها إليه، نظرةً خاليةً من المناورة، فيها اعترافٌ هادئ بأنّها فهمت تمامًا ما فعل، وأنّها تقبل هذا القدر من القرب كما هو: إهداءً لا يَعِد بشيءٍ صاخب، لكنّه يغيّر، في هدوء، ترتيب الأشياء في حياتهما المقبلة.
في الأسفل، يستقرّ قصر الوفاء في شبه عتمةٍ رفيقة؛ آخر موظّفٍ يعبر الفناء بخطى متثاقلة، سترُ خيمةٍ ترتفع شبرًا مع النَّسمة ثم تستسلم، هندسةٌ خافتة لمسارات الحجر تنحني نحو امتداد الكثبان. من هذا العلوّ تمتزج الحدود: مكتبةٌ وخيامٌ ومصلّى، ونار محمود البعيدة على الرمل، في نسقٍ واحد لا تملكه مدينةٌ كاملة ولا قبيلةٌ بعينها. يتبع رفّاح مسار نظرة سميرة إلى الخارج، فيرى، على مهل، لا «منفى بحثيًّا» مؤقّتًا ولا إقامةً لها تاريخ انتهاء، بل موضعًا يمكن أن يحتمل فصولًا من عملهما المشترك، من خلافاتٍ ومصالحات، من مواسم إنهاكٍ وشفاء، وربّما آثار أقدامٍ صغيرة تلهو بين الظلال، تقرأ في حجارة الزاوية سيرةَ بيتٍ اختاره أبواهما كما اختارا بعضهما.
يخفت النداء شيئًا فشيئًا، كخيطٍ يُسحَب بلطف من نسيج الليل، ولا يبقى منه إلا رجعٌ بعيد يشبه أثرَ سطرٍ قديم في هامش مخطوط. حين تسكن الذبذبة الأخيرة في الهواء، يتحرّك النسيم حركةً خفيّة، يلتقط طرف وشاح سميرة كما لو أنّه يتذكّر دوره في الحكاية، فيرفع الحاشية القماشية ويرسلها لتستقرّ على كتف رفّاح. لا تأتي اللمسة مفاجِئة قدر ما تأتي مُصَحِّحة لوضعٍ تأخّر؛ ثقلٌ بسيط، منزليّ، يذكّره بكمٍّ مطويّ على كرسيّ في بيتٍ ينتظر عودة أصحابه، لا بعباءةِ ضيفةٍ سترحل. لا يحسب المسافة، ولا يستشير قائمة التعليمات المعلّقة في مكتب الإدارة؛ يجد يده، قبل أن يمرّر العقل اعتراضه الدوريّ، تمتدّ إلى يدها المستقرّة على حافّة السور. تلتقي أصابعهما في المنتصف التقاءَ حبرين مختلفين في سطرٍ واحد؛ لا عنفَ فيه ولا اعتذار، بل يقينٌ مُكتسَب ببطء، يقينُ مَن جرّب كلّ صيغ الاحتياط ولم يجد فيها راحةً تعادل بساطة هذه القبضة.
لا يسرعان إلى الفصل بينهما، ولا يلتفت أيٌّ منهما، بعصبيّة المتلبّس، ليتفقّد الأبواب والنوافذ. القصر غارقٌ في نعاس ما بعد الأمسية؛ آخر ضوءٍ في الممرّ أُطفئ منذ برهة، وصوتُ محمود الآتي من أسفل الساحة انقطع عند ضحكته الأخيرة. السياسات التي ظلّت تُقال همسًا في الاجتماعات أصبحت أقلّ صلابةٍ ممّا تظنّ اللوائح المطبوعة؛ أعيد تأويلها، بندًا بندًا، عبر سلسلةٍ طويلة من القرارات الصغيرة: بريدٍ مؤجَّل لصالح نزهةٍ قصيرة عند الغروب، محاضرةٍ مشتركة قُدِّم فيها «التوازن» لا «التفرّغ» بوصفه فضيلة، وعشاءٍ ممتدٍّ على سطحٍ كهذا، انتهى بنقاشٍ عن معنى «الستر» أوسع من الخوف وأهدأ من التحدّي.
في السكون الذي يلي التحام الكفّين، يبدو أنّ الزاوية القديمة نفسها تغيّر إيقاع تنفّسها؛ الجدران المجرَّحة بالزمن، التي اعتادت أن تَشهد عهودًا فرديّة تُبرَم بين رجلٍ ونصّ، بين امرأةٍ ودعاء، تستشعر الآن نَوعًا آخر من النذر: نذرًا لا يُعلَن في صيغة قسمٍ جهير، بل يُمارَس بوصفه عادةً يوميّة، كتفقّد المصابيح أو ملء خزّان الماء. لا يسمع أحدٌ جملةً تُقال، لكنّ الهواء يمتدّ بينهما كأنّه يلتقط صياغةً جديدة لعقدٍ قديم: من هذه الليلة فصاعدًا، لن تُقرَأ الأبيات التي يشرّحها رفّاح، ولا الحكايات التي تنسجها سميرة حول القصر، بوصفها «نصوصًا» منفصلة عن أصحابها، بل ستُفهَم ضمن سياقٍ واحد، جملةٍ مستمرّة، تشترك فيها ضمائر الجمع كما تشترك النقاط والفواصل في منح المعنى استقامته.
تحت السطح الحجريّ الذي يسند أذرعهما، تحت المكتبة وغرف النُّزُل والمصلّى، تمتدّ طبقةٌ من الصمت الأقدم، صمتُ خرَجات الشعراء الذين كانوا، قبل قرون، يرفعون أبصارهم إلى هذا الليل نفسه يسألون عن معنى «الوَفاء». لو كان في الأمر تكرارٌ، فهو تكرارٌ محسوب على طريقة العَروض: عودةُ وزنٍ مألوف في قصيدةٍ جديدة. يضغط رفّاح أنامله برفقٍ حول أصابع سميرة، لا ليشدّها إليه، بل ليختبر متانة هذا الوزن في يده. تُبادله القبضة بلا مبالغةٍ ولا ارتخاء، كما لو أنّهما يوقّعان، في تلك اللحظة، على هامش صفحةٍ فارغة، اتفاقًا لا يملكه ناشرٌ ولا مجلسُ إدارة: أن يُتركا، عند كلّ مفترقٍ قادم، متّسعًا لحاشية مشتركة، لسطرٍ يُضاف بعد حين ويُكتب ونحنُه «نحن» لا «أنا» و«هي» على طرفَي الصفحة.